الرأي اليوم / تلفزيونات عمر ... وعلي

تصغير
تكبير
بدايةً، وقبل أن تبدأ فرق الردح هجومها الأعمى (وهو لم يعد مهماً بأي حال)، أقول نعم أقصد التلفزيونات صاحبة الهوية الطائفية.

ما هذه المجزرة الفكرية التي تمهّد على الهواء مباشرة للمجازر اللاحقة على الارض؟ وما هذه المذبحة التي تنفّذ كل يوم ضد حاضر الشباب العربي ومستقبلهم؟


تتنقل بين المحطات علّك ترى خبراً عن رغبة أو فكرة أو حتى نية عند العرب والمسلمين لتصميم اختراع أو تقليد اختراع أو استنساخ اختراع فلا ترى غير مشايخ بعيون قاسية وسحنات مقطبة (لزوم الهيبة) يشتمون المذهب الآخر ويمضون الوقت في تفاصيل ما حصل قبل 1400 عام بناءً على رواية شاهد عيان قريب من أهل البيت أو الصحابة نقلها مصدر غير موثوق به ودوّنها أحد أصحاب التوجهات المعروفة وتم تداولها بإضافات وهوامش حسب الأهواء السياسية اللاحقة.

يا سيدي حتى لو افترضنا جدلاً أن بعض القصص التي تروى صحيحة، فإن الغاية من تكرارها وجعلها أولوية بغرض ادعاء خدمة الشريعة لهو السوء بعينه، كون الشريعة سمحاء في جوهرها وتقوم على المشتركات والموحدات في الشكل والمضمون.

نقلب القناة، فنجد شيخاً، يحمل كتاباً لشخص عادي... شخص واحد درس العلم الديني ربما لمدة أشهر أو بحث في الشريعة لسنة ويحمل فكراً معيناً يريد أن يطوع الدين لخدمته. يقرأ الشيخ من الكتاب مقاطع مسيئة بحق المذهب السني مثلاً، ويقرأ شيخ آخر في قناة أخرى مقاطع من كتاب لشخص مماثل مسيئة بحق المذهب الشيعي، ويبدأ كل شيخ الهجوم على المذهب برمته وعلى جميع اتباع المذهب بذريعة أن كاتب الكتاب يمثل المذهب الشيعي والشيعة أو المذهب السني والسنة.

والطامة الكبرى أن ردود الفعل بدل أن تكون من قبيل «شيخ سخيف وكاتب أسخف ومحطة أسخف من الاثنين» أو من قبيل «شيخ فتنة وكاتب فتنة ومحطة فتنة» أو من قبيل «شيخ متخلف وكاتب متخلف ومحطة متخلفة»... نجدها تستوطن أرضاً خصبة للجدال بين مؤيد ومعارض فيزداد تخلف الجمهور تخلفاً ويحقق الشيخ والكاتب أهدافهما في التحول الى «صقور» مذهبيين يدافعون عن «العقيدة» هنا وهناك.

وموضوع التلفزيونات الطائفية يناقض القاعدة الشرعية الذهبية «لا كهنوت في الإسلام»، ويفتح الباب لكل من هب ودب ولبس عمامة بأن يملأ الفضاء الاعلامي بأقبح الصور وأقذر الأدخنة. إنما السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو عن تمويل هذه التلفزيونات وقد صارت بالعشرات والمئات وما إذا كان هذا التمويل من حكومات أو وزارات إعلام أو أجهزة استخبارات أو أحزاب أو هيئات... والأهم من ذلك كله هو: هل خدمت هذه التلفزيونات الجهات التي موّلتها؟

إذا كان الكلام عن العقيدة (وهوما لا نعتقد به) فإن العقيدة تشظت داخل المذهب الواحد بفعل التباينات التي تطرح، فهذا الشيخ يفسر داخل المذهب بخلاف تفسيرات شيخ آخر من المذهب نفسه، لا بل تعدى الأمر ذلك الى إنشاء تلفزيونات مذهبية مضادة للمذهب نفسه، فهناك تلفزيون سني ضد سني وشيعي ضد شيعي عدا عن تلفزيونات الاعراق... والضحية الاولى صورة الدين الحنيف.

وإذا كان الكلام عن مصلحة المسلمين وتطورهم (وهو ما لا نعتقد به) فإن سيادة هذه الطروحات نقلت العقل من منطقة الاشغال والتفكير الى منطق الاستسلام للشيخ أو الواعظ أو الداعية، محدثة خلطاً مرضياً رهيباً بين الطاعة والمقدسات والترهيب ومتاع الدنيا وعذاب الآخرة. لم يعد الدين هنا مصدراً لإجابات عن أسئلة عصرية بل صار معبراً الى المغاور الفكرية والتحجر الانساني ورفض الآخر ومعاداة التطور.

واذا كان الكلام عن السياسة (وهو ما نعتقد به) فإن نتائج هذه التلفزيونات تحوّلت ألغاماً انفجرت في وجه من زرعها. صارت وحشاً يهاجم صاحبه. كيف يمكن لحكومة أن تموّل وترعى قناة طائفية تهاجم اخوة في الدين وتحولهم الى أولوية في العداء وتحشد انصاراً وتغسل أدمغة ثم تلجم اندفاعات هؤلاء الانصار بفكرهم المنحرف إن هم طالبوا بحصة سياسية في السلطة ومشاركة أساسية في ادارة المجتمع كونهم «حراساً للعقيدة»؟ ومن يمكن أن يقنع شخصاً تمت تعبئته إعلامياً وفكرياً بما يخدم سياسة المرحلة وتم تجهيزه ليكون «مجاهداً» بأن «الجهاد» هناك فقط، أما هنا فالقوانين تحكم وأمامك إما السجن وإما الإذعان؟

مرة أخرى، لا كهنوت في الاسلام، ولنملك الجرأة على القول إن غالبية المفتنين والمحرضين هم «ذوو عماء» علمي وفقهي وشرعي وليسوا «زعماء» افتاء أو علماء شرعيين، والقاسم المشترك بينهم هو قصورهم وعقدهم الشخصية وتخلّفهم العلمي والاجتماعي... أما ممولو محطات الفتنة فحسابهم للتاريخ.

فقط للذكرى والتأمل

قال الامام علي في رثاء أبي بكر الصديق: «رحمك الله يا أبا بكر، كنت إلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ كنت إلفه، كان يحبك كثيراً ـ وأنسه وثقته وموضع سره، كنت أول القوم إسلاماً، وأخلصهم إيماناً، وأشدهم يقيناً، وأخوفهم لله، وأعظمهم غناءً في دين الله، وأحوطهم على رسول الله، وأثبتهم على الإسلام، وأيمنهم على أصحابه، وأحسنهم صحبة، وأكثرهم مناقب، وأفضلهم سوابق، وأرفعهم درجة، وأقربهم وسيلة، وأشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم سنناً وهدياً، ورحمة وفضلاً، وأشرفهم منزلة، وأكرمهم عليه، وأوثقهم عنده، فجزاك الله عن الإسلام وعن رسوله خيراً، كنت عنده بمنزلة السمع والبصر». وقال الامام علي في رثاء عمر: «لله بلاء عمر، فقد قوّم الأودَ، وداوى العمدَ، وأقام السنة، وخلّف الفتنة.ذهب نقيّ الثوب، قليل العيب، أصاب خيرها وسبق شرّها.أدى الى الله طاعته وأتقاه بحقه». وقال أبو بكر الصديق في علي: «والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أحب إليَّ أن أصل من قرابتي». وقال عمر بن الخطاب في علي: «لولا علي لهلك عمر» وقال «اللهم لا تنزل بي شديدة إلا وأبو الحسن إلى جنبي» وقال «أعوذ بالله أن أعيش في يوم لست فيه يا أبا الحسن (...) لا أبقاني الله بعدك يا علي».

هكذا كانوا رضي الله عنهم يتخاطبون. يتحاورون. يتشاورون. يتعايشون... أبو بكر وعمر وعلي ليسوا بحاجة لتلفزيونات تخترع ما لم يكن موجوداً أو تضخم الهامشي من الأمور. بحاجة إلى مسلمين يملكون إجابات عن تحديات المستقبل العصرية... مسلمون يفكرون في الانتاج وحل مشاكل التنمية والتخلف والتعليم والزراعة والتصنيع، وليسوا بالتأكيد بحاجة الى مسلمين يزرعون الفتنة وينتجون التخلّف.

اقلبوا المحطات لانها ستنقلب على مموليها... وتقلب أوضاع طوائفها إلى الاسوأ.


جاسم مرزوق بودي
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي