مشهد

قصة شجرة مُعمّرة

 u062f. u0632u064au0627u062f u0627u0644u0648u0647u0631
د. زياد الوهر
تصغير
تكبير
أزيز صاخب وصوت مزعج كان يصدر عن منشار كهربائي يستعمله العمال في قطع الشجرة العملاقة التي تقع على بوابة فرع الجمعية المجاور لمنزلي. كان ذلك في نهار يوم من أيام الأسبوع وكنت متوجها فيه لفرع الجمعية كالعادة للتبضع وشراء بعض المستلزمات للمنزل بناء على اتصال هاتفي من زوجتي الفاضلة.

كان عدد العمال أربعة أشخاص وقد باشروا بقطع الشجرة التي يبلغ ارتفاعها على أقل تقدير 15 مترا وظلالها وارفة يحتمي بها الطير والحيوان والإنسان، وتضفي جمالا لمدخل الفرع الاسمنتي القبيح المنظر الذي لا يوجد فيه نافذة واحدة على الإطلاق. توجهت نحو العمال صارخا لردعهم عن قطع الشجرة والاستفسار عن سبب فعلتهم، فأجاب أحدهم بعربية مُكسّرة بأن الشجرة كثيرة الأوراق وهي تتساقط يوميا في فصل الخريف مما يزيد من نسبة القاذورات على باب الفرع ما يحتاج لجهود متواصلة ومضاعفة من أجل تنظيف ما تحتها، وكان عذرهم الثاني أن ما تحتها أصبح مكبّا للنفايات التي يلقيها المارة عند دخولهم أو خروجهم من فرع الجمعية.

فقلت عجبا ألهذه الأسباب تقطعون الشجرة وتحرمونها من الحياة، ذلك أني ظننت أنهم قد يقطعونها لأنها قد ماتت أو لأن جذورها قد بدأت تخترق البنية التحتية من شبكة المياه الصحية تحت الأرض فذلك قد يكون عذرا مشروعا لكن أنّ أوراقها تتساقط..! هل هذه جريمة!؟ فالخريف يمر على الشجر كما يمر على البشر، وبما أنه لا يمكن أن نقتل الإنسان لأنه بلغ خريف عمره فكذلك لا يجب قطع الشجرة لأنها معمرة، وكان الحل الأفضل أن يتم العناية بها وتشذيبها لنعيد لها رونقها وجمالها بدلا من قطعها بلا رحمة أو مبرر.

منعت العمال من الاستمرار بقطع الشجرة فذهب أحدهم لمناداة مدير فرع الجمعية فجاء على عجل؛ رجل ضخم جدا يقارب طوله المترين فبلعت ريقي واعتدلت في وقفتي ووجهت لومي له وعتابي بأسلوب «حَنون ومحترم» بأنّ قطع الأشجار أصبح من الماضي، ونحن هنا في دولة الكويت حكومة وشعبا ومقيمين نشجع على الزراعة لما لها من الفوائد الإيجابية العديدة في تنقية الهواء، وزيادة الأكسجين، والتقليل من آثار العواصف الرملية، بالإضافة إلى كونها حاضنة بيئية طبيعية للعديد من الطيور والحشرات، وكذلك تحت ظلها يلهو الأطفال وعلى سيقانها يمارسون التسلق واللعب البريء، ناهيك عن منظرها الجميل الذي يبعث على السرور والراحة النفسية.

فقال بصوتٍ أجشّ: هذه هي أوامر إدارة الجمعية وليس هذا من شأنك فتلك الشجرة تسبب لنا الإزعاج ولا بد من قطعها... وقد فعل، فتهاوت الشجرة بطولها الشامخ لعقود طويلة على الأرض محدثة ضجيجا وصراخا عاليا (بسبب سلبها الحياة) وأثارت عاصفة من الغبار أجبرتنا جميعا على التراجع، وتهاوت معها أحلامي وآمالي ببقائها رمزا للشموخ والجمال. وهنا أصابتني نوبة من الضحك كرد فعل لا إرادي على قطع الشجرة، فرمقني الرجل بنظرة المستغرب ظانا منه أني اسخر منه ومن فعلته الشنعاء، ولكن رد فعلي كان بصراحة تعبيرا عن عجزي المطلق أمام هذه الجريمة النكراء ومن دون وعي أو إدراك رجعت إلى بيتي من دون تبضع أو شراء من هذا الفرع المشؤوم. وقد تبادر لذهني فورا أن أضرب لكم مثلا من محيطنا العربي وليس مما يحدث في أوروبا أو أميركا عند تعاملهم الراقي والحضاري مع الأشجار. ففي مدينة أبو ظبي وعندما كنت في زيارة خاصة لهذه المدينة الجميلة جدا والتي فاقت بجمالها كل ما كان يدور في خلدي، اكتشفت أن الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان حاكم دولة الإمارت السابق رحمه الله كان يحب الشجر كثيرا حتى أنه قد رفض أن تُقطع شجرة اعترضت طريقا رئيسيا بل أمر أن يُبنى حولها دوار (مستديرة) بدلا من قطعها وهكذا بقيت الشجرة وذهب الشارع يبحث له عن مسار خاص به.

ومن المنصف أن أقول أن المساحات المزروعة في دولة الكويت قد تضاعفت عدة مرات في السنوات العشرين الماضية، ويبدو أن هذا التوجه في ازدياد لدى الدولة لما له من فوائد لا تعد ولا تحصى؛ فتجد أن الشوارع الرئيسية والفرعية والواجهة البحرية بأكملها وكل المدن النموذجية القديمة والحديثة مزروعة بالأشجار والأعشاب الخضراء والورود في لوحة جمالية رائعة، وذلك في بادرة لتحسين الظروف الجمالية والمناخية. ولك أن تتخيل وأنت تسير في سيارتك صباحا على شارع الخليج العربي مقدار الشعور الإيجابي والراحة النفسية وأنت تمتع ناظريك عندما تشاهد اللونين الأخضر والأزرق للبحر في تناغم جمالي كأنها لوحة فنية أبدعها الله بقدرته سبحانه وتعالى. ولم يخل الأدب العربي كالعادة من الشعر والنثر والذي تناول الشجر وجماله وفوائده وأسرد لكم هذه القصيدة التي لا أعرف قائلها:

دومي خضراء مزدهرة

يسقيك الماء يا شجرة

في ظلك نلعب يا شجرة

تعطينا الملعب والثمرة

دومي خضراء فتانة

بالثمر الأحلى مزدانة

دومي خضراء في وطني

أهواك كما أهوى وطني

ولا يسعني هنا إلا أن أتقدم بالشكر للهيئة العامة للزراعة والثروة السمكية في دولة الكويت على دورها الملموس والذي يزداد يوما بعد يوم في جعل مدن الكويت وشوارعها خضراء، مع تمنياتي بأن يبادر القائمون على الهيئة لوضع التشريعات اللازمة من أجل الحد من قطع الأشجار المعمرة بالذات من قبل المستهترين والعابثين بجمال البيئة في دولة الكويت.

[email protected]
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي