قراءة / ديوانه صدر عن دار الفراشة للنشر والتوزيع

عبدالكريم كاصد يرى أن الفصول ليست أربعة في محلة «صبخة العرب»

تصغير
تكبير
للشاعر عبد الكريم كاصد... رؤية مغايرة في تناوله لأي عمل إبداعي سواء كان في مجال الشعر أو النصوص القصصية أو المسرحية أو الدراسات، وهذه الرؤية تتداخل فيها المواضيع في أنساق فنية متنوعة وذات مدلولات حسية متحركة في أكثر من اتجاه.

ومن ثم جاء ديوانه «الفصول ليست أربعة... سيرة محلة صبخة العرب»، الصادر عن دار الفراشة للنشر والتوزيع، متضمنا مواضيع وأساليب شعرية، ساقها الشاعر في تواصل فني وبناء مع الحياة، ليقول في «مفتتح»:

تحلم

بالبحر يغمرها

بالنخيل يظللها

بالشطوط تسيل بأطفالها

ثم تفتح عينين

ما أجمل الليل

يشرع فوق السطوح نوافذه...

وينام

وفي سياق هذه الصورة التي رسمها الشاعر بالكلمة، يمكننا استشراف لغته، تلك التي تبدو متراكمه في سياقها، ومتداخلة في معانيها، لتأتي الفكرة التي انتظمت من خلالها قصائد الديوان فها هو يشير لنا «الصيف» من وجهة نظره:

ذلك الظل

القابع بين الأشجار

أغمض عينيه

ونام

على الجادة ينتشر الناس

وتخفق بيضاء

أثوابهم

في المساء

القبور البعيدة

يذهبون إليها عادة

في القطارات في الصيف

عائدين بأمواتهم من جديد.

وتناول الشاعر «الخريف» من خلال ما توصلت إليه مشاعره من رؤى ذات أبعاد مفعمة بالمضامين: «خريف يجيء/ بخرقة صيف»، ومن ثم فقد اتسمت اللغة بالكثير من التوثب والحضور على سبيل إبراز الفكرة:

ما أجمل جسرك

يا «باب سليمان»

الأشرعة بيضاء

العباءات سوداء

الأوراق فراشات صفراء

وأنا أحمل طبقا أخضر

وأتطلع إلى النهر

حتى حبات الماء

تبدو صفراء

في الخريف

في حين تجسد «الشتاء» في يقين الشاعر، بالنماء والمطر والتجرد والضباب ومشاعر جمة متداخلة، متقابلة ومتنافرة، ويبقى المنظر العام المتمثل في الأمل شاخصا ببصره في هذه اللوحة التشكيلية التي رسمها كاصد لنا:

في الشتاء

الطيور تأوي إلى السقوف

وتقاسمنا الأبواب

حين تنطفئ الغيوم في السماء

تشتعل التنانير في الأرض

بعد أن صمتت الأرض والسماء

لماذا الصرخة المدوية

لهذا الطائر السفيه

هنا

يقبع الشتاء

خلف الباب

ويهب في وجه من يطل

و«الربيع»... يبشر بالسعادة والنماء، ويتضاحك عبر كلمات الشاعر، ويحمل في أنفاسه الخير للأرض، كما أنه الصورة الأزلية التي يتنماها الإنسان أن تكون في كل أيام السنة، وليست فصلا واحدا فقط:

الربيع

أتسمع ضحكته في الهواء

قادما من بعيد

إنه يجلس الآن فوق السياج

مطلقا كل أزهاره

في الطريق

وبعد أن أطلق الشاعر العنان في رؤاه واصفا فصول السنة، جاءت الفكرة الأخرى من خلال ما علق في الطفولة والصبى من أحداث، أراد أن يشرك معه فيها القارئ، إنه يتحين اللحظات التي يتواصل فيها مع نفسه بذكرياتها، كي يبوح، في تجريد وهدوء، ليقول في نص «أهالي صبخة العرب»:

بألف خيط

يشدون أعصابهم إلى الطريق

أما انقطعت؟!

بألف يد يرفعون السماء

فتقع السماء على رؤوسهم

عند كل قطرة مطر

ينتحبون ويفقدون جدارا

ويفصح الشاعر في متون نصوصه عن أماكن بعينها، وأشخاص محددين، وذلك عبر ذاكرة متيقظة، راغبة في استحضار مثل هذا الأشياء: «أعرفه/ هل أناديه/ - يا حميد بن ضامن/ لكنه لا يجيب/ هل أكلم غيره/ لماذا ترى يسرعون إلى المنحدر؟/ ما الذي يبصرون هناك»، وعلى هذا الأساس اتسمت اللغة الشعرية عند الشاعر بالوضوح أحيانا وبالغموض في أحيان أخرى حسب ما تقتضيه رؤية النص.

ويرسم الشاعر لوحة فنية لـ«عاشق الطيور»:

بكوفيته الشبيهة بالطائر

يلوح بيديه

لحمامته السابحة في الهواء

فجأة

تستحيل يداه جناحين

فيطير

خائضا حربه في السماء

وسط ذعر الطيور

وإلى جانب ما وصفه كاصد في ديوانه من مظاهر طبيعية، ورصده للأماكن والأشخاص والبيوت وغيرها، عرج إلى وصف كل ما تلمسته ذاكرته من موجودات فنراه يتحدث عن القطة والكلب والحمار والطيور وغيرها من المشاهد، التي رصدتها قصائده في تناول فني جذاب، مستخدما لسان هذه الموجودات كي تتحدث عن نفسها من خلال قلمه ليقول عن «الساحة»:

أنا الشاهدة

على ما جرى من دم

لنساء ذبيحات

وأطفال

يحدقون في الدم

كما يحدقون في ساقية

أنا الشاهدة على ما سيجري

غيروا الأقنعة

فأنا لم أعد أراها

في حين بدت اللوحات الفنية في سياق حديثه عن الشاعر متواصلة مع مضامين حسية متعددة مفعمة بالذكريات والحب:

أيها الجدار الذي أظلته أشعاري

أيها الزقاق المضيء بشمسي

...

أيتها الأفاعي حارسة نومي

أيتها الديكة يا من تضحكيني

أيها القمر يا صديقي

كم أحبكم

أنا ابن صبخة العرب

إنه الشاعر عبد الكريم كاصد... عبر بأسلوب رشيق ومتزن عن رؤاه التي تخص المكان الذي شهد ذكريات طفولته وصباه، وما زالت الذاكرة تحتفظ بها، كأنها الجوهر المكنون، غير أنه أراد للمتلقي أن يشاركه في هذا الجوهر، ويتفاعل مع لغته الشعرية المتوهجة بالحيوية، والتناسق الشعري.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي