رؤى

محمود درويش الإنسان... ما زلتَ حياً في مكان ما

تصغير
تكبير
من الصعب جدا الكتابة عن شاعر في مقام الراحل الكبير محمود درويش، لا يمكن أن أكتب عن شاعر كلما قرأنا له تعلقنا به، وكلما سمعناه ازددنا ارتباطا بالإنسان، وبقضايانا العربية، خصوصا القضية الأم، القضية الفلسطينية.

للشاعر محمود درويش اثر انساني لا يمكن أن تمحوه الأيام، أو يعتريه النسيان ما دامت قصائده تحتل جزءاً من وجداننا، وعلى المستوى الشخصي مازلت مولعاً بقصائده، وقدرته على استنباط جمالية وفلسفة اللغة العربية، فضلا عن الصور الشعرية التي نتلمسها في واقعنا هذا الى جانب أن كلماته سحرت ملايين الناس وارتقت ذائقتهم الشعرية لاسيما بعد ترجمة أعماله لأكثر من عشرين لغة.

ماذا يتذكر الانسان عندما تمر ذكرى وفاة شخص كمحمود درويش في التاسع من أغسطس من كل عام، حتما هو يذكرنا به كانسان وكشاعر ورقم ثقيل في معادلة الفكر والثقافة في العالم العربي، كما يذكرنا بقضايانا العربية المؤلمة ويذكرنا بفلسطين الأرض والانسان.

في بداية تجربته، حمل درويش بقصائده فلسطين ثم حمل قضايا الانسان العربي، بعد ما دعوه أن يخرج بقصائده عن الإطار الفلسطيني الى الفضاء العربي الواسع الذي يشترك مع فلسطين في الكثير من الهموم، لأنه لم يعد ملكا لفلسطين فحسب بل هو للعالم العربي.

لو تمعنا في قصائد محمود درويش المركبة والتي لا تخلو من الرمزية، فسنرى أنه من الصعب لا نجد موضوعاً يتعلق بالانسان وبالحياة لم يتطرق له محمود، كيف لا وهو شاعر الانسانية، كان يلحظ تفاصيل الحياة الدقيقة للانسان العربي، وفي ما بعد يعبر عنها في قصائده بلغة وروح جميلة.

هذه اللغة مهما بلغ فيها من الآلم والحزن والمعاناة وتكراره دائما للموت لكن يبقى فيها قدر من الحب والأمل والعزة، وهو ما جعل المواطن العربي والفلسطيني بوجه الخصوص أن يعتبر قصائد درويش مرتكزا في حياتهم، وفي غالب الأحيان حاول درويش أن تكون القصيدة منطلقا للانتماء العربي واعادة الاعتبار للأرض والانسان.

في قصيدته (الليل يا أماه) الذي كان يخاطب فيها أمه وعائلته ويقول: هل تذكرين انني انسان؟ وتحفظين جثتي من سطوة الغربان؟ الى أن يقول: ما قيمة الانسان بلا وطن وبلا علم ودونما عنوان، ما قيمة القصيدة اذا لم تلامس الانسان والوطن كما هو الحب بالنسبة للرجل ما قيمته من دون امرأة، لذلك يؤكد على أن القيمة الوحيدة للانسان المحتل هي مدى مقاومته للاحتلال وتحرير وطنه.

في تصوري أن محمود كتب ما يكفي من هواجس ومعاناة الانسان العربي والفلسطيني، كان يتحسس هذا الواقع، لذلك تستطيع الأجيال أن تتغذى من ما كتبه درويش بوصفه مرجعا شعريا، وعنوانا لقضية كل الشهداء والمظلومين والباحثين عن الحرية في العالم العربي، كما هو نفسه درويش اختار أن يكون انسانا حرا حتى على حساب أسرته، لأنه كما يقول لا يمكن أن يعيش في اطار يقيد من عمله الأدبي بالرغم من أنه مر بمرحلتي زواج لكنه اختار الانفصال والبقاء وحيدا متفرغا لمشروعه الابداعي الذي يتطلب منه حرية مطلقة، وعندما تعرض لضغوطات للقيام بالزواج مرة ثالثة بهدف فك العزلة وانجاب الأطفال وحفظ الذرية فقال: لا أريد أن أنجب طفلا بلا وطن، ولا أريد أن أزيد عدد اللاجئين فلسطينيي الشتات، واذا كان الزواج لإنجاب ذرية، فذريتي هي قصائدي!

هكذا تحول شعر محمود درويش الى خبز يومي يتناوله الانسان العربي الباحث عن الحرية والكرامة، ويتناوله أيضا الانسان الفلسطيني الذي يبحث عن وطنه، هذا هو محمود درويش المهووس بالانسان العربي والأرض العربية وهذا يتجلى في موقف تعرض له درويش عندما ذهب يوما لاصدار بطاقة شخصية في مقر الحكم العسكري في فلسطين المحتلة، فسأله العسكري الاسرائيلي من أنت... فقال له: سجل أنا عربي، ورقم بطاقتي خمسون ألفاً، كاشفا عن بطاقة هويته، لكنه سرعان ما قال، وطني ليس حقيبة وأنا لست مسافراً، سجل أنا عربي...

درويش يمكن اعتباره يمثل ظاهرة شعرية لم تتكرر في العالم العربي ان جاز لنا التعبير، وواحدا من هؤلاء الكبار الذين أعطوا للقصيدة معنى، واستطاعوا أن يجعلوا من الثقافة والشعر نقطة ارتكاز، للتأكيد على حق الفلسطينيين بالوطن وحق المواطن العربي بالحرية والعيش الكريم.

ذهب محمود درويش ليرتشف من قهوة أمه ويأكل من خبزها، ذهب تاركا وطنا يتكابد عليه الأعداء، ذهب وهو يقول: سنصيرا شعبا يوما ما، الشعب الذي يقتل يومياً في قطاع غزة، بلا شك ستبقى كتاباته بيننا وفي لغتنا وفي قلوبنا.

* كاتب صحافي بحريني

[email protected]
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي