حكاية مزارع شبعا المحتلة... في التاريخ والسياسة والقانون / الحلقة الثانية
حجم الاهتمام الدولي الذي برز فجأة منذ نحو شهر بمزارع شبعا اللبنانية التي تحتلها إسرائيل، جعلها في سلة واحدة مع قضايا المنطقة ومشاكلها الكبيرة التي تشغل العالم بأسره، كأزمة العراق، والملف النووي الإيراني، ومسألة النفط، وقضية فلسطين والجولان... خصوصاً أن راعي هذا الاهتمام المستجد هو الإدارة الاميركية نفسها، راعية الحروب والسلام، وراعية الأزمات والحلول في المنطقة بأسرها، وفوراً تبعتها في ذلك دول أوروبية منها بريطانيا وفرنسا، ودول عربية كمصر التي أيدت ودعمت اقتراح الحكومة اللبنانية الداعي إلى انسحاب إسرائيل من تلك المزارع ووضعها تحت إشراف الأمم المتحدة، تنفيذاً للقرار 1701 الصادر إثر حرب يوليو 2006، والذي ينص في أحد بنوده، على قيام ممثل الأمم المتحدة بالتشاور مع الأطراف المعنية على قضايا الحدود بين لبنان وإسرائيل، بإيجاد الحلول لها، والمقصود بالدرجة الأولى هنا مزارع شبعا التي تتمسك إسرائيل باحتلالها على اعتبارها أرضاً سورية محتلة، وهي خاضعة للقرار 242، بينما يؤكد لبنان أن تلك المنطقة لبنانية، وأن القرار 425 يشملها، وعليه فإن هذا القرار لم ينفذ بعد بالكامل، وهو الأمر الذي استند إليه «حزب الله» منذ العام 2000 في استمرار المقاومة ورفض أي دعوة لوقفها طالما هناك أرض محتلة.
وجاء اقتراح الحكومة اللبنانية وضع المزارع تحت إشراف الأمم المتحدة، كاقتراح لحل عقدة هويتها، على أن تحسم هذه المسألة لاحقاً عبر ترسيم الحدود بين لبنان وسورية، لتعذر القيام بذلك حالياً بفعل استمرار الاحتلال الإسرائيلي، وبسبب أن أياً من البلدين لبنان وسورية ليس بينه وبين إسرائيل معاهدة صلح أو سلام حتى الآن، لا بل مازال كل منهما محكوماً بحال العداء والحرب القائمة منذ احتلال فلسطين.
«الراي» تروي عبر حوارات ثلاثة، حكاية تلك المزارع، كيف احتلت وضاعت هويتها، وسر الاهتمام الدولي بها خصوصاً الاميركي، ووضعها في القانون الدولي في ضوء الاقتراح اللبناني بوضعها تحت إشراف الأمم المتحدة.
المصري لـ «الراي»: أكثر من 10 تصريحات لمسؤولين سوريين
شكلت إقراراً أكد الهوية اللبنانية للمزارع وأزال الالتباس
رأى استاذ القانون الدولي الدكتور شفيق المصري أن اقتراح الحكومة اللبنانية وضع مزارع شبعا تحت اشراف الأمم المتحدة، يعيدها جزئياً الى السيادة والشرعية اللبنانية ويجعلها مفتوحة أمام المدنيين وأصحاب الأملاك اللبنانية تمهيداً لعودة السيادة اللبنانية كاملة عليها.
وأكد المصري في حوار مع «الراي» أن تصريحات المسؤولين السوريين عن لبنانية المزارع، تعتبر في القانون الدولي التزاماً دولياً من سورية، وليس من الضروري اصدار أو توقيع معاهدة أو وثيقة في هذا الشأن بين لبنان وسورية، وهذا يحسم الهوية اللبنانية لهذه المزارع.
وفي ما يأتي نص الحوار:
• ما هو الوضع القانوني الدولي لمزارع شبعا بعد التحرك الدولي والعربي الجديد المؤيد لاقتراح لبنان وضعها تحت وصاية الأمم المتحدة؟
- قضية مزارع شبعا كانت عرضة لتحديات عدة منذ نشوء هذه المسألة، فالتحدي الأول كان عندما وضعت سورية واسرائيل في اتفاقهما لفك الاشتباك عام 1974، هذه المزارع في دائرة عمليات الـ «اندوف» أي «قوات الأمم المتحدة لمراقبة فك الاشتباك»، وفي العام 1978 عندما صدر القرار 425 اثر الاجتياح الاسرائيلي للجنوب، وقضى هذا القرار بتشكيل الـ «يونيفيل» ونشرها في المناطق الجنوبية التي دخلتها اسرائيل. حينها لم يشأ الأمين العام للأمم المتحدة أن تتداخل دائرتا عمليات «يونيفيل» و«اندوف»، فانتشرت قوات اليونيفيل من دون أن يشمل انتشارها مزارع شبعا، وهنا حصل التباس لأن الأمم المتحدة، بلسان أمينها العام، أعلنت في مايو 2000 أن اسرائيل انسحبت من الأرض اللبنانية كلها، وأن مزارع شبعا سورية لأنها أُدخلت منذ العام 1974 في دائرة عمليات قوات الأمم المتحدة بين سورية واسرائيل، فبقيت المسألة عالقة منذ العام 2000. ولدى مطالبة لبنان بهذه المزارع، كان الجواب من قبل المبعوث الخاص للأمين العام يقول نحن نعتبر مزارع شبعا سورية الى أن تقدم لنا اتفاقية ثنائية بين سورية ولبنان تؤكد الهوية اللبنانية لهذه المزارع. وبقي الأمر كذلك حتى ربيع العام 2006، عندما قدمت الحكومة اللبنانية تقريراً مع وسائل الاثبات كافة يؤكد هذه الهوية اللبنانية للمزارع، الأمر الذي حمل الأمين العام، ثم مجلس الأمن على اعادة النظر في الموقف السابق، فورد في القرار 1701 اثر حرب يوليو من العام نفسه طلب الى الأمين العام في شأن متابعة مسألة ترسيم الحدود وحل الاشكال المتعلق بمزارع شبعا، وهذا شكل بالنسبة الى لبنان انجازاً أول، اذ تم بت هوية مزارع شبعا اللبنانية، علماً أن ثمة تصريحات كثيرة تجاوزت العشرة من قبل المسؤولين السوريين بمن فيهم رئيس الجمهورية السورية، تؤكد هذه الهوية اللبنانية للمزارع.
• هل هذه التصريحات كافية قانونياً لحسم الجدل في شأن هوية المزارع اللبنانية؟
- في القانون الدولي ان أي اقرار منفرد يشكل التزاماً تعاقدياً على الجهة التي تنفرد في هذا الاقرار، وتالياً لم يكن من الضروري، بعد هذه التصريحات، اصدار أو توقيع معاهدة ثنائية في مسألة المزارع. وفي هذه المرحلة، نستطيع القول ان لبنانية المزارع الثلاث عشرة من أصل أربع عشرة مزرعة، هي لبنانية، وثمة مزرعة واحدة اسمها «مُغر شبعا»، سورية، فالاشكال أو الالتباس الذي كان قائماً على هوية المزارع لم يعد موجوداً في الواقع، وبقي ثمة تفصيل تقني يتعلق بالحدود بين مزارع شبعا اللبنانية وبين الاقليم السوري، علماً أن ثمة محاضر موقعة من قبل لبنان وسورية لا سيما محضر العام 1946 يؤكد أن وادي العسل هو الحد بين المزارع اللبنانية وبين الاقليم السوري. وثمة اشكال ثانٍ وهو أن هذه المزارع محتلة من قبل اسرائيل، والطلب المحوري بالنسبة الى لبنان هو الانسحاب الاسرائيلي، وتبقى الآلية لهذا الانسحاب، وهنا تقدمت الحكومة اللبنانية باقتراح يطلب وضع هذه المزارع في عهدة الأمم المتحدة سواء ضمن دائرة «يونيفيل» الموجودة حالياً، أو ضمن أي فريق آخر من قبل الأمم المتحدة، فتكون هذه المزارع في عهدته، تمهيداً لنقلها الى الوجود العسكري اللبناني.
• هل يمكن أن تقبل الامم المتحدة بذلك قبل حصول ترسيم للحدود بين لبنان وسورية؟
- ترسيم الحدود بين بلدين لا يفرض فرضاً تماماً مثل العلاقات الديبلوماسية بين دولتين، هذان الشأنان يخضعان الى رضى متبادل، ثانياً ترسيم الحدود أو عدمه لا يلغي هوية اقليم معين، فتستطيع الدولة أن تفرض سيادتها على اقليم معين بحكم ممارسة سلطتها السياسية والادارية والقضائية والأمنية على هذا الاقليم حتى وان لم يكتمل ترسيمه بعد، وثمة حدود أخرى بين سورية ولبنان لم يتم ترسيمها حتى الآن، ولا يوجد فيها أي اشكال، وفي القانون الدولي تستطيع الدولة أن تمارس سلطتها واذا كانت فعلاً هذه السلطة ممارسة فهذا يعني أن الترسيم لم يعد مُنشِئاً لهوية الاقليم ولسيادة الدولة، وبالنسبة الى مزارع شبعا فقد كانت الدولة اللبنانية ومنذ العام 1926 الى منتصف الستينات من القرن الماضي (عندما تحولت المنطقة كلها الى قوات الأمر الواقع السورية والفلسطينية، ومن ثم الاحتلال الاسرائيلي) تمارس سلطتها عليها.
• اذا كانت الحال كذلك، فلماذا كان الجدل السياسي الساخن حتى بين اللبنانيين على مطالبة سورية بالقبول بالترسيم وبالتوقيع على خرائط ومستندات في هذا الخصوص؟
- ربما تكون الحكومة قد قصرت في ارسال وسائل الاثبات كلها، وفي القانون الدولي قواعد تقول ان الاقرار المنفرد يشكل التزاماً على صاحب الاقرار اذا قبلت به الدولة الأخرى، وقد صدرت عشرة اقرارات سورية في هذا الشأن، ومطلب التوقيع على خرائط أو وثائق معينة كان مطلباً سياسياً والرفض السوري كان رفضاً سياسياً أيضاً، والمطلب السياسي اللبناني كان مدفوعاً بما طالب به تكراراً مندوب الأمين العام للأمم المتحدة تيري رود لارسن، وهو الذي كان يطلب وجود معاهدة، وهذا الرأي لم يكن ملزماً في ظل تلك التصريحات السورية التي أقرت بهوية المزارع اللبنانية، فضلاً عن الوثائق المادية كسجلات النفوس واخراجات القيد ومستندات الملكية، وغيرها، وهذه الوثائق قدمتها الحكومة اللبنانية الى الأمين العام وثبتت الهوية اللبنانية لتلك المزارع، وفي الحقيقة جرى تقصير في هذه المسألة من الحكومة اللبنانية في اثبات هذا الأمر من قبل، وقابل هذا التقصير اغفال من الأمين العام للأمم المتحدة لهذا الوضع في القانون الدولي، فالأمين العام اكتفى بأنه اعتبر أن المزارع، بما أنها وضعت في الأساس ضمن دائرة عمليات الأمم المتحدة بين سورية واسرائيل، وبما أن لبنان لم يعترض من حينه، تعامل مع القضية على أساس هذا الواقع، فلو أن المزارع لبنانية لماذا لم تطالب الحكومة اللبنانية بها منذ العام 1974، ولم تطالب بها في الأعوام التالية، وصولاً الى العام 2000 حين انسحبت اسرائيل من لبنان فتمت المطالبة بتلك المزارع، وهذا في الحقيقة كان تقصيراً من قبل لبنان، ولكن التقصير لا ينفي أو يلغي الهوية القائمة على براهين واثباتات مادية.
• لنفترض أن الاقتراح اللبناني، بوضع المزارع تحت اشراف الأمم المتحدة، أُخذ به، وصدر قرار في هذا، فهل يكون ملزماً لاسرائيل، فتنسحب منها؟
- طالما أن القرار الموعود أو المنتظر أو المطلوب سيصدر تحت الفصل السادس فلا يوجد أي الزام على اسرائيل بتنفيذه، والقرار الرقم 425 الذي صدر العام 1978 لم يطبق حتى العام 2000، وحين طبق فبوسائل أخرى غير وسيلة الأمم المتحدة. والحقيقة أن مشكلة الأمم المتحدة مع اسرائيل هي أن المنظمة الدولية لم تصدر بحق اسرائيل منذ انشائها الا قراراً واحداً ملزماً تحت الفصل السابع، وهو القرار الذي طالب العرب بعقد اتفاقات هدنة مع اسرائيل عام 1948.
•... لانه لمصلحة اسرائيل؟
- نعم، فقط صدر هذا القرار ولم يصدر غيره، فمنذ بدء الصراع العربي - الاسرائيلي نرى أن اسرائيل لم يصدر بحقها أي قرار الا تحت الفصل السادس، لأن مجلس الأمن محظور عليه بسبب «الفيتو» الأميركي أن يُصعّد قراراته الى الفصل السابع. واليوم اذا كان الانسحاب من المزارع سيبقى مستنداً في قراره الى الفصل السادس، فهذا يعني أن التنفيذ متوقف على اسرائيل اذا أرادت الانسحاب، ولكن يبقى الأمر الأساسي هو أن ذلك يثبت هوية المزارع اللبنانية، وهذا يعني ان القرار 425 لم ينفذ بعد بانتظار انسحاب اسرائيل من تلك المنطقة.
• تحدثت عن وضع المزارع تحت اشراف الأمم المتحدة يجعلها مفتوحة أمام المدنيين، فماذا بالنسبة الى الوجود العسكري الشرعي اللبناني؟
- السيادة العسكرية تتم بالتنسيق بين الجيش اللبناني والـ «يونيفيل» واسرائيل، تماماً كما كان الأمر في القرار 1701، فهناك حتى الآن لجنة ارتباط بين الجيش اللبناني والـ «يونيفيل» واسرائيل على الانسحاب، من الجزء اللبناني من بلدة الغجر، وهذا شأن زمني وتقني يمكن بحثه لاحقاً، ولكن بمجرد وجود الـ «يونيفيل»، فان المنطقة تصبح مفتوحة أمام المدنيين.
• بعض الأطراف اللبنانية يعتبر أن وضع المزارع تحت الوصاية الدولية لا يعني عودتها الى الشرعية اللبنانية...
- القول ان السيادة لا تعود بمجرد الانسحاب الاسرائيلي وبوجود قوات «يونيفيل» مكان الاسرائيليين، هو قول غير دقيق، لأن الأساس هو انسحاب الاحتلال من الأرض المحتلة، ووجود «يونيفيل» مكانه هو وجود غير مفروض على الحكومة اللبنانية، وهو وجود رضائي سواء في الوجود المكاني أو في المدة الزمنية، واذا انتشرت «يونيفيل» في هذه المناطق فانها ستصبح مفتوحة امام المدنيين اللبنانيين وأمام أصحاب الأملاك، وبالتالي تصبح غير محظورة عليهم، وهذا أمر يشكل جزءاً من السيادة بالنسبة الى انتشار مواطنين لبنانيين على أرزاقهم مع «يونيفيل»، وطبعاً الطلب الأساسي في هذه الحال سيكون موجهاً الى اسرائيل بأن تنسحب من الأرض المحتلة فاذا حصل هذا الانسحاب وانتشرت الـ«يونيفيل» في المنطقة أو أي قوى أخرى من قبل الأمم المتحدة، فان هذا الانتشار لن يكون مفروضاً فرضاً على الحكومة اللبنانية أو الدولة اللبنانية واقليمها وانما يكون هذا الانتشار بموافقة الدولة سواء في الاطار المكاني أو في المدة الزمنية، أي بمجرد انسحاب اسرائيل من تلك المنطقة نستطيع أن نقول انها عادت الى الكنف اللبناني مدنياً ومن ثم عسكرياً بتفاصيل تقنية لاحقة وبالتنسيق مع الـ«يونيفيل».
• هل ثمة تجربة دولية حصلت مشابهة في واقعها لقضية مزارع شبعا وانتقلت أولاً الى عهدة الأمم المتحدة؟
- التجربة الأساسية هي تجربة الـ «يونيفيل» في لبنان بالذات، لأن اسرائيل عندما انسحبت بعد اجتياح العام 1978 من جزء من الجنوب الى ما سمي حينه «الشريط الحدودي»، انسحبت لمن؟ انسحبت للـ «يونيفيل» من دون وجود عسكري للسلطات اللبنانية، وهذا المثل واضح.
• هل هذا الوضع ينطبق على ما هو حاصل في الجولان؟
- لا، لأن المسألة في الجولان منذ العام 1974 تقتصر قانونياً على فك اشتباك بين الجيشين السوري والاسرائيلي، وهذا الاتفاق حُوّل الى مجلس الأمن الذي رحب به وأرسل قوة مراقبة لفك الاشتباك الـ «اندوف»، وهذه القوة مهمتها مراقبة وحفظ وقف اطلاق النار، ولكن المنطقة لا تزال محتلة، وطبعاً هذا لا يفقد الجولان هويته السورية، ولا يفقد سورية مطالبتها بالانسحاب الكامل من الجولان، أما في مسألة مزارع شبعا فالاقتراح المطروح يختلف، فهو يقضي بانسحاب اسرائيل من هذه المنطقة، وبتسليمها الى الـ «يونيفيل»، تماماً كما حصل في العام 1978 عندما انسحبت اسرائيل الى ما سُمي في حينه «الشريط الحدودي»، وقامت الـ «يونيفيل» بالانتشار مكانها، وكان المدنيون في هذه الفترة الى حين صدور القرار 1701يمارسون حياتهم اليومية العادية.