قوس قزح / دمعة جبران وابتسامته

تصغير
تكبير
ما بين عامي 1903 و 1908 نشر جبران خليل جبران في جريدة «المهاجر» مجموعة من النصوص تحت عنوان «دمعة وابتسامة» وقد تم جمعها في العام 1914 في كتاب يحمل الاسم نفسه. وكعادة جبران تبقى كتاباته عصية على التصنيف الصارم؛ فهناك من يراها فلسفة متشحة برداء الأدب، وهناك من يراها تأملات تعبر عن حلم عميق بالنبوة. غير أن ميخائيل نعيمة في مقدمته لكتاب «دمعة وابتسامة» قد أسمى نصوص جبران فيه «شعرا منثورا»، وهي تسمية تدلنا على وعي كتاب المهجر منذ نهايات القرن التاسع عشر لإمكان الجمع الصعب بين الشعري والنثري في نص أدبي له سمات خاصة. غير أن الشعر النثري أو ما نسميه الآن بقصيدة النثر ليس هو هدف مقالنا، وإنما الهدف هو التعرف على تصور جبران عن الشاعر كما طرحه في أحد نصوص كتاب «دمعة وابتسامة».

نعرف أن جبران شاعر وفيلسوف ورسام ونحات لكن من يقرأ «دمعة وابتسامة» سيظن أن أعمق ما كان يحركه هو الشاعر.

في بداية نص بعنوان «الشاعر» يقول جبران معرفا إياه:

«حلقة تصل بين هذا العالم والآتي. منهل عذب تستقي منه النفوس العطشى. شجرة مغروسة على ضفة نهر الجمال ذات ثمار يانعة تطلبها القلوب الجائعة» (جبران خليل جبران، دمعة وابتسامة، بيروت، دار البيروني، 313).

يعبر تحديد جبران لوظيفة الشاعر وأهميته في المقطع السابق عما سعى إليه هو نفسه في كتاباته اللاحقة؛ حيث سخر جبران طاقته المعرفية والشعرية وقدرته على التأمل للتبشير بعالم أفضل وتعرية ما وصل إليه عالمه من قبح وزيف. الشاعر هو مساحة خصبة لإشباع الحس الجمالي لدى الإنسان، وهو الحس الذي يعد بوصلة البشرية باتجاه الغد الأفضل. لقد كان جبران على وعي عميق بخطر العقول والنفوس القاحلة التي لم يقم أصحابها بريها وتغذيتها من صور الجمال المختلفة. يوحد جبران في جملة عبقرية بين أهمية الجمال وأهمية الطعام حين يقول إن ثمار الجمال التي تطرح عبر قلم الشاعر هي غذاء القلوب التي يعد خلوها من الجمال جوعا مهلكا.

يكمل جبران وصف الشاعر بقوله:

«غيمة بيضاء تظهر فوق خط الشفق ثم تتعاظم وتتصاعد حتى تملأ وجه السماء وتنسكب لتروي أزهار حقل الحياة،... نور ساطع لا تغلبه ظلمة... ملأته زيتا عشتروت إلهة الحب وأشعله أبولون إله الموسيقى، وحيد يرتدي البساطة ويتغذى اللطف ويجلس في أحضان الطبيعة ليتعلم الابتداع... زرّاع يبذر حبات قلبه في رياض المشاعر فتنبت زرعا خصيبا تجنيه الإنسانية وتتغذى به» (313/ 314)

هكذا يرى جبران الشاعر مظلة لكل ماعداها من إبداع؛ إنه الغيمة التي تكبر لتهيمن ظلالها على الأرض كلها وتمد الحياة بأسرار نموها واستمرارها. الشاعر صوت يحمل من المقدس خلاصته مرتلة بنغمات كونية لا يقدر على ابتداعها وعزفها سواه. الشاعر فرد لصالح المجموع، وحيد معنى لأجل البشرية كلها. وهو رغم ذلك مجهول لا يحصل على ما يحفظ كرامته وحياته من السكن والخبز ولا ما يغذي روحه من لطف الناس وودهم. يقول:

« هذا هو الشاعر الذي تجهله الناس في حياته وتعرفه عندما يودع هذا العالم ويعود إلى موطنه العلوي. هذا الذي لا يطلب من البشر إلا ابتسامة صغيرة والذي تتصاعد أنفاسه وتملأ الفضاء اشباحا حية جميلة والناس تبخل عليه بالخبز والمأوى» (315).

موطن الشاعر علوي مقدس وسيعود له يوما، لكنه على الأرض في مهمة تشبه مهام الأنبياء وهو ما يتفق مع تصورات الحقبة الرومانسية عن الشاعر. من يقرأ كتاب دمعة وابتسامة لجبران خليل جبران سيعيش تجربة فريدة من التأمل في الحياة بكل ما فيها، تجربة يسكن الشاعر في قلبها.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي