بلاد ما بين النهرين في عيون... بلاد ما بين النارين (3-3)
الشيخ عفيف النابلسي
مالك الشعار
• مخاطر الفتنة تنذر بحريق هائل وكبير يبدّد تاريخنا ويحرق حضارتنا
• الدين بريء من كل تصرف يقوم على العنف أو التطرف أو الإرهاب أو حتى الاعتداء على حرية الآخرين
• أخشى أن يبدأ التقسيم من العراق ولمصلحة إسرائيل أولاً وأخيراً
• المنطقة برمّتها ربما تدفع الثمن إذا استمر العراق بهذه القيادة التي تتحرك من خلال مشاعر مذهبية قاتلة
• إسرائيل نجحت إلى حد كبير بطبع «حزب الله» بصورة الحزب المذهبي المعادي للأمة ... ولكن هذه الصورة ليست حقيقية
• المشكلة في العراق ليست بالحرمان والتهميش رغم خطورتهما بل في التدخلات الخارجية الرامية إلى تقسيمه والمنطقة
• دور «داعش» تنفيذ الجزء المتعلق بإنشاء دولة سنية ... أما الكردية فهي بحكم الموجودة ... والشيعية تفرضها التطورات الجيوسياسية
• الدين بريء من كل تصرف يقوم على العنف أو التطرف أو الإرهاب أو حتى الاعتداء على حرية الآخرين
• أخشى أن يبدأ التقسيم من العراق ولمصلحة إسرائيل أولاً وأخيراً
• المنطقة برمّتها ربما تدفع الثمن إذا استمر العراق بهذه القيادة التي تتحرك من خلال مشاعر مذهبية قاتلة
• إسرائيل نجحت إلى حد كبير بطبع «حزب الله» بصورة الحزب المذهبي المعادي للأمة ... ولكن هذه الصورة ليست حقيقية
• المشكلة في العراق ليست بالحرمان والتهميش رغم خطورتهما بل في التدخلات الخارجية الرامية إلى تقسيمه والمنطقة
• دور «داعش» تنفيذ الجزء المتعلق بإنشاء دولة سنية ... أما الكردية فهي بحكم الموجودة ... والشيعية تفرضها التطورات الجيوسياسية
انتقال «كرة النار» من سورية الى العراق وعبورها بين الحين والآخر الى لبنان واليمن ودول أخرى على خريطة «سايكس - بيكو»، أطلق العنان مع «الجيوش النقالة» التي تعبر الحدود من هنا ومن هناك لسيناريوات عن تحوّلات جيو - استراتيجية ربما تقوم على «تقسيم المقسّم» وتعيد تركيب البازل الاقليمي على قواعدَ جديدُها ارتباطها بالماضي السحيق وذاكرته المأسوية.
لبنان، الذي يعيش «حرباً باردة» منذ اغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري، لم يكن خارج الرياح الساخنة التي تهبّ على المنطقة، فهو في «عين العاصفة» رغم موقفه الرسمي بـ «النأي بالنفس» عما يجري في سورية وعما يحدث في العراق، بدليل «الشظايا» المتوالية التي تصيبه مرة تلو الأخرى و«انقسامه» الحاد في مقاربة التطورات من حوله و«توصيفها» وقراءة أسبابها وأبعادها، وتالياً أهدافها، خصوصاً مع انشطاره بين المحوريْن الاقليمييْن.
ففي لبنان المنقسم كالعادة حول أي شيء وكل شيء، بعضه ناصَر الشعب السوري في «ثورته من أجل الحرية والديموقراطية»، وبعضه الآخر قاتَلَ الى جانب نظام الرئيس بشار الأسد لـ «دحر المشروع المعادي». بعضه الآن يحمِّل رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي وسلوكه مسؤولية «الانتفاضة السنية»، وبعضه الآخر لا يرى في أحداث العراق سوى «ارهاب تكفيري عابر للحدود ويستحضر الفتنة».
ورغم هذا الانقسام فان اللبنانيين المختلفين في «التوصيف» متفقون على أنهم لن يكونوا بمنأى عن حمم البركان المتفجر في المنطقة، بدليل موجة التفجيرات والسيارات المفخخة التي شهدها لبنان قبل نحو عام على وهج الأحداث في سورية، والموجة الجديدة التي زرعت الرعب في أرجائه اخيراً مع انفجار الوضع في العراق... فاللبنانيون متوجّسون من مظاهر التطرف وأثمانه والارهاب وأخطاره.
«الراي» سألت في هذه الحلقة كلاً من النائب أحمد فتفت (من كتلة الرئيس سعد الحريري) والنائب ياسين جابر (من كتلة الرئيس نبيه بري) عن قراءتيهما للمشهد العراقي، واستشرافهما لارتداداته على لبنان.
مفتي طرابلس والشمال اعتبر أن الغموض يلف تنظيم «الدولة الإسلامية» ومن يحرّكه أو يموّله
مالك الشعار: لا أعلم حقيقة «داعش» ... لكن الإسلام براء من العنف والإرهاب
اعتبر مفتي طرابلس والشمال الشيخ مالك الشعار أن «المرحلة التي تمر بها أمتنا العربية والإسلامية هي من أخطر المراحل وأدقها»، محذراً من أن «كل ما يحدث في منطقتنا العربية وفي الشرق الأوسط على وجه العموم، إنما يصب ابتداء في مصلحة إسرائيل ـ هذه الدولة المغتصبة».
ونبّه إلى ان «المنطقة برمتها ربما تدفع الثمن إذا استمر العراق بهذه القيادة التي لا تسمع ولا تبصر، بل التي تتحرك من خلال مشاعر مذهبية قاتلة»، لافتا إلى أن «كماً كبيراً من تصريحات نوري المالكي ينذر بخوف شديد وخطر كبير عندما يعتبر أن المعركة هي بين جيش الحسين وجيش يزيد».
? مقاربتان في دائرة الضوء لما يجري في العراق: واحدة للنظام وحلفائه تقول ان «داعش» ترسم خريطتها العابرة للحدود من سورية إلى العراق وأخرى عبّر عنها مفتي العراق الشيخ رافع الرفاعي وتتحدث عن ثورة سنية.. من موقعكم كيف ترون ما يجري في بلاد الرافدين؟
ـ كل ما يحدث في منطقتنا العربية وفي الشرق الأوسط على وجه العموم يصبّ ابتداء في مصلحة إسرائيل ـ هذه الدولة المغتصبة، خصوصاً أن كثيراً من المظاهر والمعطيات تشير إلى فكرة تقسيم وطننا العربي ابتداء من العراق وسورية لا قدّر الله، مما يفقد الدول العربية تماسكها وقوتها وهيبتها بل وحضورها السياسي والاقتصادي الفاعل. هذا بالإضافة الى ما يمكن حدوثه من إثارة النعرات والخلافات الداخلية والمذهبية بين أبناء المذهب الواحد أو الطائفة الواحدة لا سمح الله ولا قدّر. وأعتبر ان المرحلة التي تمر بها أمتنا العربية والإسلامية من أخطر المراحل وأدقها، ولذلك فإن الحاجة ملحة الى حركة سريعة من فريق العقلاء والأحرار والحكماء ومن الفرقاء جميعاً ليلتقوا ويتحاوروا ويدركوا ابتداء أنهم جميعا مستهدَفون. وأعني بالفرقاء أو الأطراف السنّة والشيعة والأكراد بصورة خاصة مع إخوانهم المسيحيين بصورة عامة، من أجل أن نحافظ على إرثنا الحضاري المتوارث وعلى ذاك التاريخ الذي بناه المسيحيون والمسلمون يداً بيد. ولئن كان يقال في هذه الأيام ويكثر الحديث عن الأقليات أو أن المسيحيين أصبحوا في عداد الأقليات، فينبغي أن نعلن ونقول ان وجود المسيحيين في شرقنا العربي والإسلامي كان سابقا للوجود الإسلامي. لذلك أدعو إلى لقاء عاجل أو مؤتمر على مستوى القمة في كلا الإطارين الديني والسياسي لكل أولئك الفرقاء الذين نوّهتُ بأسمائهم وأشرتُ إليهم من أجل أن نحتضن مخاطر هذه الفتنة التي تنذر بحريق هائل وكبير يبدد تاريخنا ويحرق حضارتنا ويُفقِد أجيالنا الصاعدة حاضرهم أو يطفئ نار الأمل بغدهم ومستقبلهم، ولذلك أحيي كل صاحب فكر ومبادرة، ولكنني أدعو إلى تفعيل كل ذلك بقطع الطريق على تلك الفتنة التي إن حدثت فإنها لا تبقي ولا تذر.
? غالباً ما يتم تحميل التطرف الديني مسؤولية انهيار الأوضاع على غرار ما يجري الآن في العراق وقبله في سورية. ما سرّ هذا الجنوح نحو التطرف، مَن ينتجه، ولأي حسابات؟
ـ إن قضية التطرف التي ذاع صيتها وكثر الحديث عنها هي من حيث المبدأ من أخطر القضايا التي تهدد الحياة الإنسانية فضلاً عن وجودنا الإسلامي والديني بصورة خاصة، لأن التطرف من حيث هو يعني التدمير ويعني أكثر من ذلك اي غياب العقل والحكمة وانتفاء لغة الحوار. إلا أن ما يقال في هذه الأيام عن أن التطرف الديني هو المسؤول عن كل ما يحدث في بلاد الرافدين وفي سورية وفي لبنان وربما في باكستان واليمن وغيرها، أعتقد أنه نسبة الشيء إلى غير فاعله لأن الدين لا يعرف معنى للتطرف. بل إن الرسالات السماوية كلها تقوم على القيم الإنسانية التي تقوم على العفو والمحبة والتسامح والتراحم. ولذلك فإن كل مظاهر التطرف خارجة كل الخروج عن أي قيمة دينية عند المسلمين والمسيحيين معاً. فنسبة الأمور إلى التطرف الديني هي نسبة الشيء إلى غير فاعله، أما الفاعل الحقيقي فهو تلك اليد الشريرة الآثمة التي تريد بشرقنا العربي وبواقعنا الإسلامي الشر والخراب. وما نسمعه ويقال من تغيير جغرافية الوطن العربي أو تغيير الحدود العربية لكياننا العربي القائم، إذا كان ذاك له قسط من الصحة والحضور، فإن كل ما يحدث في بلادنا ربما يعود إلى تلك الفكرة أو الخطة التي يصنعها عمالقة أهل الرأي الذين يتصرفون في بلادنا وكأنها عجينة في يد الخباز. لذلك أعتبر أن الدين بريء كل البراءة وأن الفكرة والثقافة كلاهما بعيد كل البعد عن كل تصرف يقوم على العنف أو التطرف أو الإرهاب أو حتى الاعتداء على حرية الآخرين.
وفي رأيي أن كل ما يُنسب إلى التطرف الديني إنما المستهدَف به هو نحن أرباب القيم الدينية، الذين سنبقى نصر على أن قيمنا هي التي تُستمدّ من الرسالات السماوية، وهي التي تستوهب حركة الإنسان والحياة في أمسه وحاضره وغده ومستقبله.
? هل تخشون على وحدة العراق في ظل كلام عن سقوط حدود سايكس ـ بيكو في المنطقة ومَن هو المستفيد من تقسيم المقسم؟
ـ أظن أن الذي تقدّم ذكره في إجابتنا الأولى والثانية يؤكد أن خوفاً كبيراً على جغرافية وطننا العربي بدأ جميع أبناء العرب يشعرون به. وأخشى أن يبدأ التقسيم من العراق ولمصلحة إسرائيل أولا وآخراً، وربما تكون هناك مصالح لجهات أخرى يتم التعاون معها من أجل تغيير جغرافية العراق وسورية وغيرها من البلدان العربية إلا أن المستفيد الذي لا يشك به عاقل هو إسرائيل. وان خشيتي على العراق كبيرة جداً، لأن العراق هو أول مدماك من مداميك قوة العرب العلمية والاقتصادية والسياسية معاً.
? نوري المالكي اتهم المملكة العربية السعودية برعاية ما وصفه بالإرهابيين والوزير سعود الفيصل حذر من حرب أهلية في العراق. هل يدفع العراق برأيكم ثمن الصراع السعودي ـ الإيراني في المنطقة؟
ـ أعتقد أن ما نُسب أو ما نقلته وسائل الإعلام إلينا من تصريحات متكررة من رئيس وزراء العراق نوري المالكي من اتهامه للملكة العربية السعودية ولمعالي وزير خارجيتها الأمير سعود الفيصل ولمجموع السنّة المقيمين في العراق، أعتقد أنه محض افتراء. والمنطقة برمّتها ربما تدفع الثمن إذا استمر العراق بهذه القيادة التي لا تسمع ولا تبصر بل التي تتحرك من خلال مشاعر مذهبية قاتلة. آن الأوان أن نخرج من هذا الإطار وذاك التاريخ لنعيش قضية الإنسان بقيمه الإنسانية والدينية وأن يشعر كل فريق وكل أبناء مذهب بكامل حقوقهم الإنسانية والدينية معاً.
? قيل الكثير عن «داعش»؛ الأفكار، التنظيم، مصادر الدعم، المشروع. مَن هو «داعش» برأيكم؟
ـ حتى اللحظة لا أستطيع أن أجزم بأنني أعلم حقيقة هذا التنظيم وولادته ومن الذي يستوعبه أو يحرّكه أو يموّله. ما زال الأمر عندي غامضاً، إلا أنني استطيع أن أعلن أن أيّ قضية اسلامية تقوم على العنف أو الإرهاب الإسلام بريء منها كل البراءة. ولا أعتقد على الإطلاق أن الإسلام يضطهد أحداً حتى في مخالفتنا لمعتقداتنا. فالله تعالى يقول «لا إكراه في الدين»، والله تعالى يقول «فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر»، وهو القائل سبحانه وتعالى «إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء». فلا أعلم حقيقة «داعش» ولا منبتها وولادتها ولا أعلم حتى اللحظة من ذاك الذي يموّلها ويحرّكها. الأمر عندي يحتاج إلى أناة وإلى نظر، إلا أنني أستطيع أن أجزم بأن جل الذي أسمعه ليس له علاقة بقيم التسامح والعفو والرحمة التي جاء بها النبي محمد صلوات الله وسلامه عليه.
رأى أن العراق يتحمل عبء عدم التوصل إلى آلية لحل الخلافات بين السعودية وإيران
النابلسي: ما الذي يضمن ألا نرى «داعش» في الكويت لو لم تتخذ «المرجعية» هذا الموقف الحاسم بقتالهم
رأى سماحة آية الله العلامة الشيخ عفيف النابلسي أن «ما يحصل في العراق ليس له علاقة بالأوضاع الاجتماعية من تهميش وحرمان وغير ذلك، والذي يتساوى فيه الشيعة والسنّة والأكراد وغيرهم»، معتبراً أن العراق «يتحمل عبء عدم التوصل حتى الساعة إلى آلية لحلّ الخلافات بين كل من السعودية وإيران»، ونافياً أن يكون رئيس الحكومة العراقي نوري المالكي «يتحمل مسؤولية ما جرى», مثمنا في الوقت نفسه «مسارعة المرجعية الشيعية إلى دعوة الشعب العراقي لحمل السلاح لقطع الطريق أمام مشاريع التقسيم والعنف الطائفي».
? مقاربتان في دائرة الضوء لما يجري في العراق، واحدة للنظام وحلفائه تقول ان «داعش» ترسم خريطتها العابرة للحدود من سورية إلى العراق، وأخرى عبّر عنها مفتي العراق الشيخ رافع الرفاعي حين تحدث عن انتفاضة سنية.. كيف تقرأون ما يجري في بلاد الرافدين؟
ـ بالرغم من وجود مطالب سنية، إلا أن التوصيف بأن هناك انتفاضة سنية غير صحيح البتة، بدليل أن عشائر كبيرة وعلماء دين ومفتين من السنّة لهم وزنهم في العراق عمدوا إلى دعم الحكومة ضد هذه الفئة التي تشكل تهديداً ليس للعراق فحسب وإنما للمنطقة بأسرها.
في الأساس ما يحصل في العراق ليس له علاقة بالأوضاع الاجتماعية من تهميش وحرمان وغير ذلك والذي يتساوى فيه الشيعة والسنة والأكراد وغيرهم. هناك عجز عن إعادة بناء العراق وتوزيع الثروة بشكل عادل، فالمشكلة إذاً ليست في الحرمان والتهميش رغم خطورتهما، وإنما في التدخلات الخارجية التي تهدف إلى تقسيم المنطقة ومن ضمنها العراق. وقد نُشرت مؤخراً العديد من الخرائط التي تستهدف تغيير الواقع الجيوسياسي في المنطقة حيث يُعمل على إلغاء دول بأكملها وتقسيم أخرى إلى دويلات عرقية وطائفية. وفي العراق مثلاً يُعمل على إنشاء دولة سنية وأخرى شيعية وثالثة كردية. ودور «داعش» تنفيذ الجزء المتعلق بإنشاء دولة سنية أما الكردية فهي بحكم الموجودة والشيعية تفرضها طبيعة التطورات الجيوسياسية.
لذلك نرى أن العراق ومعه المنطقة يدخل وضعاً جديداً ينذر باضطرابات واهتزازات أمنية لا حد لها. فما حصل في الموصل من انقلاب وتواطؤ جعل من قوات «داعش» تسيطر على أراضٍ شاسعة يمكن أن تمتدّ سريعاً إلى العديد من الدول المجاورة للعراق، ما يضع المنطقة بأسرها أمام مشهد من الحريق لا أحد يعرف كيف يسيطر عليه، وخصوصاً أن قادة التنظيم الإرهابي يتحدثون بلغة مذهبية ويتوعدون بممارسات دموية.
? ثمة انطباع بأن أداء رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي الذي حكم العراق لولايتين ويستعد للثالثة يتحمل مسؤولية انفجار الاحتقان السني ـ الشيعي، ما رأيكم بهذه الخلاصة؟.
ـ ليس صحيحاً أن المالكي يتحمل مسؤولية ما جرى. المالكي ورث تداعيات الاحتلال الأميركي للعراق. الجغرافيا العراقية تعرضت لهزة كبيرة أصبحت معها قابليات التفكك أكثر بساطة، وخصوصاً أن المحاصصة الطائفية التي رسّخها الأميركيون بعد احتلالهم للعراق جعلت الدولة مرتعاً للفساد وللأجنحة المتصارعة وللولاءات العشائرية والمذهبية والعرقية، حتى غدت أجهزة الدولة الأمنية على وجه الخصوص بلا فاعلية، أما المؤسسات السياسية فبدت عاجزة عن تخطي النزاعات وتوفير أرضية حقيقية للمصالحة.
فالمسؤولية عما آلت اليه الأوضاع في العراق من احتقان سني شيعي هي مسؤولية جماعية من قبل النخب والقيادات السياسية والدينية التي لم تستطيع بناء تفاهمات بمقدورها أن تشكل أنماط حياة واتخاذ تدابير ترمي إلى التخفيف من حدة الخطابات والممارسات الطائفية، وبالتالي رفْع مستوى الاندماج الوطني بين مختلف العوامل المكونة للدولة العراقية بحيث تكون الدولة هي الحيز الوطني الذي يضمن لحمة كل أبناء العراق ويحمي ويحترم الخصوصيات الثقافية والهويات التاريخية لكل الأقليات على اختلافها.
? غالباً ما يتم تحميل التطرف الديني مسؤولية إنهيار الأوضاع على غرار ما يجري الآن في العراق وقبله في سورية... ما سر هذا الجنوح نحو التطرف؟ مَن ينتجه، ولأيّ حسابات؟
ـ لا شك في أن التطرف الديني هو جزء من حراك الخراب في العالم العربي، لكن مَن أسس ودعم وساند وغطى هذا التطرف ليصبح متمكناً وله كل هذه القدرات والفرص؟ مَن سمح لمشايخ الفتنة أن يعتلوا المنابر الاعلامية ويحرّضوا المسلمين ضد بعضهم البعض ويخلقوا كل هذا المناخ المشحون؟ مَن دفع بالآلاف من هؤلاء المتطرفين ليشكلوا جماعات مسلحة تقتل على الظنة وتمارس أبشع صنوف الإرهاب والدموية وتجد لها من يُفتي بقطع الرؤوس وطبخها والتمثيل بالجثث وإعدام الأطفال والنساء والشيوخ لأنهم من أهل ملة أخرى؟
إن السؤال الكبير يعود لا إلى المباشر لهذه الممارسات الإجرامية الشنيعة التي قامت بها جماعات التطرف الديني بل إلى المسبب الذي صنع هؤلاء فأغرقوا العالم العربي والإسلامي بالدماء ويعملون حالياً على تقسيم المنطقة ورسم أخرى تتوافق مع المخطط الإسرائيلي الذي يسعى لإقامة كيانات مذهبية وطائفية وعرقية ضعيفة ومتحاربة.
إنّ هذا الجنوح الأعمى نحو التطرف لا يمكن أن يقف إلا من خلال دول وطنية تنظر إلى تطلعات شعوبها بالحرية والعدالة والمساواة والكرامة الإنسانية، وعبر خطاب ديني يجمع ولا يفرّق، يقف إلى جانب المظلوم ضد الظالم، يساعد على نهوض الأمة من التخلف والجهل والجاهلية إلى فضاء المعرفة والثقافة والإيمان الصحيح.
? هل تخشون على وحدة العراق في ظل كلام عن مؤشرات الى سقوط حدود سايكس ـ بيكو في المنطقة، ومَن هو المستفيد من تقسيم المقسم؟
ـ نعم هناك خشية حقيقية من تقسيم ليس العراق فحسب بل من تقسيم المنطقة كلها بما يحقق أهداف أميركا وإسرائيل والدول الغربية الاستعمارية.
هناك مخططات عمرها عشرات السنين يتم البوح بها بلا خجل لدفن سايكس بيكو وإعادة رسم خرائط جديدة تؤمن مصالح الاستعمار وتضمن بقاء المنطقة تحت هيمنته.
لقد بدأ المسار في السودان وكاد الأمر يتحقق في سورية إلى أن وصل بتجلياته الخطيرة إلى العراق، حيث وجدنا إجراءات انفصالية واضحة هدفها تثبيت التقسيم بالدرجة الأولى كأمر واقع ثم العمل لاحقاً على أن تنتشر حمى التقسيم في كل العالم العربي.
ونرى أن إسرائيل بعدما وجدت أنّ محوراً معيناً يهدد وجودها ويضعف دورها عمدت إلى تسريع وتيرة الاضطرابات والقلاقل في المنطقة تحرزاً من جانب، وتنفيذاً لمخطط مسبق من جانب آخر يجعل كل المنطقة في مهب التبعثر والتمزق والحروب المستمرة.
? المالكي اتهم المملكة العربية السعودية برعاية ما وصفه بـ «الإرهابيين»، والوزير سعود الفيصل حذر من حرب أهلية في العراق. هل يدفع العراق ثمن الصراع الإيراني ـ السعودي في المنطقة؟
ـ لا شك أن الخلافات الايرانية - السعودية جزء من الخزين الكلي للصراع على النفوذ في المنطقة. هناك محاور دولية وأخرى إقليمية تسعى لفرض رؤيتها فيما خصّ طبيعة العلاقات وأسس التوازن في العديد من المجالات.
وهذا بدوره ينعكس على دول ضعيفة كاليمن أو مدمرة كالعراق. وأعتقد أن الخلاف الإيراني - السعودي على الرغم من حساسيته إلا أنّه ليس لبّ الخلاف الذي يؤجج الأوضاع ويثير كل هذه الأزمات. المشكلة الحقيقية هي في وجود إسرائيل. هذا الوجود السرطاني الذي يمتدّ ليدمّر كل معالم الحضارة العربية والإسلامية وليشيع الفرقة والنزاعات في أقصى مدياتها.
كان بالإمكان تفادي كل هذا الذي يحصل في العراق لو تم تقديم دعم أولوية الحوار على أولوية النزاع وأولوية التفاهم على أولوية الخلاف.
السعودية تعاملت مع المالكي على أنه عدو وينفذ مخططات إيرانية في وقت كان المالكي يسعى للتقارب وتقديم وساطة تردم خندق الخصومة مع إيران. وعليه يمكن للدول الثلاث أن يشكلوا حلقات تكاملية في سبيل تنمية المنطقة والنهوض بها فيما لو حسنت النيات. وقد بدا أنّ سوء الفهم بين هذه الدول أكبر من أن يُعالج في ظل تصادم الايديولوجيات، ولهذا السبب يتحمّل العراق الذي يشكل الحلقة الأضعف عبء عدم التوصل حتى الساعة إلى آلية لحل الخلافات بين كل من السعودية وإيران.
* قيل الكثير عن «داعش»؛ الأفكار، التنظيم، مصادر الدعم، المشروع.. من هو «داعش» في رأيكم؟
ـ قلت مراراً ان داعش هي صنيعة تضارب المصالح الاقليمية والدولية على أرض المنطقة، هذا من ناحية السياسة. أما من ناحية الآليات والاجراءات فيعود لأجهزة استخبارية عربية وإسرائيلية وغربية وتركية اليد الطولى في تنظيمها ودعمها وتسليحها وتسهيل سيطرتها على هذه المساحة الواسعة الممتدة من سورية إلى العراق.
لكن هذا لا يعني أن أفرادها ليس لهم أجنداتهم الخاصة، فلطالما شهدنا في العديد من الساحات الصراعية تمردات واختراقات وتشكيلات تخرج من رحم التشكيل الأم التابع لهذا الجهاز الاستخباري أو ذاك.
? ألا تعتقدون أن دعوة مرجعية النجف العراقيين إلى حمل السلاح من شأنه نقل المواجهة من صراع بين الدولة العراقية والمسلحين (داعش) إلى صراع أهلي ميليشيوي؟
ـ المسألة في غاية التعقيد والحساسية. لا أستطيع أن أنفي حصول صراع أهلي بالمطلق ولكن لا تستطيع المرجعية إلا أن تلعب دوراً في حماية العراق الواحد قبل أن تأكله غيلان التقسيم. إنّ وقوف المرجعية على الحياد وعدم اتخاذها أي مبادرة لحماية العراق من همجية هؤلاء الإرهابيين سيؤدي إلى مخاطر مضاعفة على الشعب العراقي. إن مسارعة المرجعية الى دعوة الشعب العراقي لحمل السلاح يقطع الطريق أمام مشاريع التقسيم والعنف الطائفي ويضع حداً لهذه الفئة، وإن استدعى الأمر تضحيات أو مخاطر من حصول بعض التجاوزات هنا وهناك. ولكن قطع دابر الفتنة منذ البداية أهون وأقل كلفة من ترك «داعش» تتمدد لتنفذ مخططاتها الجهنمية حيث توعدت علناً بدخول كربلاء والنجف وهدم مقامات أهل البيت عليهم السلام. ومن غير المعروف والواضح أن مخططات «داعش» ستقف عند هذا الحد بل ربما ستلجأ إلى إعدامات جماعية وإبادة بشرية لكل مَن يخالفها المنهج والطريقة حتى من المسلمين السنّة، وإلى احتلال اراضي دول أخرى، هي التي أعلنت أن الكويت والأردن ولبنان ضمن دولتها المزعومة. فما الذي يضمن فيما لو لم تتخذ المرجعية هذا الموقف الحاسم ألا نرى «داعش» في الكويت مثلاً؟ من هنا قتال هذه الفئة ضروري وفيه مصلحة لكل العالم العربي والإسلامي.
? ثمة مخاوف من انعكاسات ما يجري في العراق على الوضع في لبنان، الذي لم يشف من تداعيات الأزمة السورية.. هل لهذه المخاوف ما يبررها؟
ـ بالتأكيد انعكاسات الأزمة السورية على لبنان واضحة. إذ لا يمكن لأي دولة تنشب أزمة على جوارها أن تنأى بنفسها عن التداعيات خصوصاً أن هناك ترابطاً وثيقاً بين لبنان وسورية يمتدّ إلى الكثير من المجالات والأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والجغرافية. وبهذا المعنى نرى أن دول الجوار للعراق ستتأثر عاجلاً أم آجلاً بما يجري من أحداث في العراق. وتأثيراتها ستمتد إلى دولٍ أخرى، وبالتالي النار ستصل إلى لبنان وها قد وصلت.
فقد أعلنت جماعة «داعش» وجودها على الأراضي اللبنانية وصرّحت عن نيتها تنفيذ عمليات أمنية، وقد جرت ملاحقة العديد من الخلايا التي تنتمي إلى هذا التنظيم ما يكشف عن مخططها لنقل المعركة إلى لبنان، خصوصاً أن هناك بيئة حاضنة في العديد من المناطق ما يشكل تهديداً مستمراً للبنان الذي يرزح تحت أزماته الكثيرة.
? يحمّل البعض «حزب الله» مسؤولية تعاظُم الاحتقان السني ـ الشيعي لمشاركته في الحرب في سورية، وربما لاحقاً في العراق، في الوقت الذي يقول أمينه العام السيد حسن نصرالله انه لولا تدخله في سورية لوصلت «داعش» إلى لبنان.. من موقعكم كيف ترون هذا الأمر؟
ـ «حزب الله» لم يدخل سورية إلا بعد أن دخل مئات الآلاف من الجهاديين إلى سورية وبعدما وصل الأمر بهؤلاء الجهاديين إلى تهديد الواقع الجغرافي في المنطقة من جانب، وتهديد وحدة لبنان وأمنه من جانب آخر، وأيضاً من خلال التحضير لعملية كبرى جرى الإعداد لها في منطقة القصير والقلمون لضرب بنية «حزب الله». لقد كشفت التقارير الاستخبارية عن وجود آلاف الجهاديين الذين كانوا يستعدون لدخول لبنان والقضاء على حزب الله، فهل يجلس ساكناً صامتاً على مثل هذه التهديدات الوجودية؟ ومن الغريب أن يقول البعض ان مشكلة الاحتقان السني - الشيعي هي بسبب دخول «حزب الله» إلى سورية.
الاحتقان سابق على الدخول ويُعمل عليه منذ ما قبل انتصار المقاومة على العدو الإسرائيلي العام 2000. إسرائيل لم تكن راضية أبداً على امتلاك المقاومة كل هذا السلاح وعلى بلوغها مرحلة متقدمة من التطوير والقدرة العسكرية ومن احتضان العالم الاسلامي والعربي لها وافتخار العرب والمسلمين بانجازاتها. إسرائيل وجدت أن أفضل وسيلة لضرب «حزب الله» وتشويه سمعته وإلهائه وإضعاف قدراته واستنزاف إمكاناته هي بدفع السنّة إلى معاداته وبالتالي تحويل المقاومة من مقاومة للأمة إلى حزب مذهبي معادٍ للأمة.
لقد نجحت إسرائيل إلى حد كبير بطبع «حزب الله» بهذه الصورة ولكن هذه الصورة ليست حقيقية. على إخواننا السنّة أن يفهموا أن إسرائيل تريد هذا النوع من الاحتقان والخلافات لتشتيت جهود المسلمين والعرب ولمنعهم من مواصلة طريق المقاومة واستعادة فلسطين. هي لا تريد فصيلاً مقاوماً، سنياً كان أو شيعياً أو غير ذلك. وقد جاءت هذه الجماعات المتطرّفة لتصرف الأنظار عن القضية الفلسطينية ولتحوّل الصراع من صراع من أجل الأمة وفلسطين إلى صراع مذهبي بين السنّة والشيعة، وكان هناك الكثير من الدول وأجهزة الاستخبارات التي عملت على تسميم قلوب وأذهان العرب والمسلمين من خلال فضائيات وإعلام تحريضي عاظَمَ من نزعات التطرف والكراهية وأوجد أجواء ليست في مصلحة المسلمين والعرب بشكل مطلق.
? كعلماء دين، هل من مبادرات لتفادي الانفجار المذهبي، وفي ظل أيّ سياقات يمكن معاودة لمّ الشمل؟
ـ تحدّثنا كثيراً حول هذا الأمر، إذ ان المشكلة غير محصورة بعلماء الدين. المشكلة هي مشكلة كل الأمة وعلى كل فرد أن يتحمل مسؤوليته في إنقاذ الأمة من جهل العصبيات وشرور الفتن والتطرف. وإذا أردنا أن نبدأ من مكان ما، فعلى الدول العربية والإسلامية وقف فضائيات الفتنة وإعلام الخلافات واستبدال ذلك بإعلام يدعو إلى الأخوّة والوحدة والتفاهم والحوار والنصيحة. على رؤساء الدول أن يعاودوا الاجتماع واللقاء في سبيل توطيد أواصر الأخوة والتعاون. يجب أن يظهروا وكأنهم جسد واحد. وعلى المستوى نفسه يجب عقد المؤتمرات بين علماء الأمة الواعين الحريصين على الأعراض والدماء والأرزاق، ويجب أن تُنقل صورهم إلى العلن وخطبهم الهادئة الموحِّدة إلى كل إنسان بحيث تعمّ أجواء الإخاء فتنعكس ذلك ثقافة واجتماعاً وتعاوناً على مختلف الصعد.
إن الحكومات العربية والإسلامية بمقدورها أن تحل مشكلة الاحتقان المذهبي لو أرادت ذلك، وعلماء الدين المؤمنون سيكون لهم دور فاعل ومؤثر فيما لو انسجمت وتوحدت الرؤى والأهداف، لكن هذا لا يلغي دور أحد. يجب ألا نيأس من لعب أدوار ولو كانت فردية وخجولة والعمل على بث الأمل في ان يعود العالم العربي والإسلامي واحة للأمن والسلام.
لبنان، الذي يعيش «حرباً باردة» منذ اغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري، لم يكن خارج الرياح الساخنة التي تهبّ على المنطقة، فهو في «عين العاصفة» رغم موقفه الرسمي بـ «النأي بالنفس» عما يجري في سورية وعما يحدث في العراق، بدليل «الشظايا» المتوالية التي تصيبه مرة تلو الأخرى و«انقسامه» الحاد في مقاربة التطورات من حوله و«توصيفها» وقراءة أسبابها وأبعادها، وتالياً أهدافها، خصوصاً مع انشطاره بين المحوريْن الاقليمييْن.
ففي لبنان المنقسم كالعادة حول أي شيء وكل شيء، بعضه ناصَر الشعب السوري في «ثورته من أجل الحرية والديموقراطية»، وبعضه الآخر قاتَلَ الى جانب نظام الرئيس بشار الأسد لـ «دحر المشروع المعادي». بعضه الآن يحمِّل رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي وسلوكه مسؤولية «الانتفاضة السنية»، وبعضه الآخر لا يرى في أحداث العراق سوى «ارهاب تكفيري عابر للحدود ويستحضر الفتنة».
ورغم هذا الانقسام فان اللبنانيين المختلفين في «التوصيف» متفقون على أنهم لن يكونوا بمنأى عن حمم البركان المتفجر في المنطقة، بدليل موجة التفجيرات والسيارات المفخخة التي شهدها لبنان قبل نحو عام على وهج الأحداث في سورية، والموجة الجديدة التي زرعت الرعب في أرجائه اخيراً مع انفجار الوضع في العراق... فاللبنانيون متوجّسون من مظاهر التطرف وأثمانه والارهاب وأخطاره.
«الراي» سألت في هذه الحلقة كلاً من النائب أحمد فتفت (من كتلة الرئيس سعد الحريري) والنائب ياسين جابر (من كتلة الرئيس نبيه بري) عن قراءتيهما للمشهد العراقي، واستشرافهما لارتداداته على لبنان.
مفتي طرابلس والشمال اعتبر أن الغموض يلف تنظيم «الدولة الإسلامية» ومن يحرّكه أو يموّله
مالك الشعار: لا أعلم حقيقة «داعش» ... لكن الإسلام براء من العنف والإرهاب
اعتبر مفتي طرابلس والشمال الشيخ مالك الشعار أن «المرحلة التي تمر بها أمتنا العربية والإسلامية هي من أخطر المراحل وأدقها»، محذراً من أن «كل ما يحدث في منطقتنا العربية وفي الشرق الأوسط على وجه العموم، إنما يصب ابتداء في مصلحة إسرائيل ـ هذه الدولة المغتصبة».
ونبّه إلى ان «المنطقة برمتها ربما تدفع الثمن إذا استمر العراق بهذه القيادة التي لا تسمع ولا تبصر، بل التي تتحرك من خلال مشاعر مذهبية قاتلة»، لافتا إلى أن «كماً كبيراً من تصريحات نوري المالكي ينذر بخوف شديد وخطر كبير عندما يعتبر أن المعركة هي بين جيش الحسين وجيش يزيد».
? مقاربتان في دائرة الضوء لما يجري في العراق: واحدة للنظام وحلفائه تقول ان «داعش» ترسم خريطتها العابرة للحدود من سورية إلى العراق وأخرى عبّر عنها مفتي العراق الشيخ رافع الرفاعي وتتحدث عن ثورة سنية.. من موقعكم كيف ترون ما يجري في بلاد الرافدين؟
ـ كل ما يحدث في منطقتنا العربية وفي الشرق الأوسط على وجه العموم يصبّ ابتداء في مصلحة إسرائيل ـ هذه الدولة المغتصبة، خصوصاً أن كثيراً من المظاهر والمعطيات تشير إلى فكرة تقسيم وطننا العربي ابتداء من العراق وسورية لا قدّر الله، مما يفقد الدول العربية تماسكها وقوتها وهيبتها بل وحضورها السياسي والاقتصادي الفاعل. هذا بالإضافة الى ما يمكن حدوثه من إثارة النعرات والخلافات الداخلية والمذهبية بين أبناء المذهب الواحد أو الطائفة الواحدة لا سمح الله ولا قدّر. وأعتبر ان المرحلة التي تمر بها أمتنا العربية والإسلامية من أخطر المراحل وأدقها، ولذلك فإن الحاجة ملحة الى حركة سريعة من فريق العقلاء والأحرار والحكماء ومن الفرقاء جميعاً ليلتقوا ويتحاوروا ويدركوا ابتداء أنهم جميعا مستهدَفون. وأعني بالفرقاء أو الأطراف السنّة والشيعة والأكراد بصورة خاصة مع إخوانهم المسيحيين بصورة عامة، من أجل أن نحافظ على إرثنا الحضاري المتوارث وعلى ذاك التاريخ الذي بناه المسيحيون والمسلمون يداً بيد. ولئن كان يقال في هذه الأيام ويكثر الحديث عن الأقليات أو أن المسيحيين أصبحوا في عداد الأقليات، فينبغي أن نعلن ونقول ان وجود المسيحيين في شرقنا العربي والإسلامي كان سابقا للوجود الإسلامي. لذلك أدعو إلى لقاء عاجل أو مؤتمر على مستوى القمة في كلا الإطارين الديني والسياسي لكل أولئك الفرقاء الذين نوّهتُ بأسمائهم وأشرتُ إليهم من أجل أن نحتضن مخاطر هذه الفتنة التي تنذر بحريق هائل وكبير يبدد تاريخنا ويحرق حضارتنا ويُفقِد أجيالنا الصاعدة حاضرهم أو يطفئ نار الأمل بغدهم ومستقبلهم، ولذلك أحيي كل صاحب فكر ومبادرة، ولكنني أدعو إلى تفعيل كل ذلك بقطع الطريق على تلك الفتنة التي إن حدثت فإنها لا تبقي ولا تذر.
? غالباً ما يتم تحميل التطرف الديني مسؤولية انهيار الأوضاع على غرار ما يجري الآن في العراق وقبله في سورية. ما سرّ هذا الجنوح نحو التطرف، مَن ينتجه، ولأي حسابات؟
ـ إن قضية التطرف التي ذاع صيتها وكثر الحديث عنها هي من حيث المبدأ من أخطر القضايا التي تهدد الحياة الإنسانية فضلاً عن وجودنا الإسلامي والديني بصورة خاصة، لأن التطرف من حيث هو يعني التدمير ويعني أكثر من ذلك اي غياب العقل والحكمة وانتفاء لغة الحوار. إلا أن ما يقال في هذه الأيام عن أن التطرف الديني هو المسؤول عن كل ما يحدث في بلاد الرافدين وفي سورية وفي لبنان وربما في باكستان واليمن وغيرها، أعتقد أنه نسبة الشيء إلى غير فاعله لأن الدين لا يعرف معنى للتطرف. بل إن الرسالات السماوية كلها تقوم على القيم الإنسانية التي تقوم على العفو والمحبة والتسامح والتراحم. ولذلك فإن كل مظاهر التطرف خارجة كل الخروج عن أي قيمة دينية عند المسلمين والمسيحيين معاً. فنسبة الأمور إلى التطرف الديني هي نسبة الشيء إلى غير فاعله، أما الفاعل الحقيقي فهو تلك اليد الشريرة الآثمة التي تريد بشرقنا العربي وبواقعنا الإسلامي الشر والخراب. وما نسمعه ويقال من تغيير جغرافية الوطن العربي أو تغيير الحدود العربية لكياننا العربي القائم، إذا كان ذاك له قسط من الصحة والحضور، فإن كل ما يحدث في بلادنا ربما يعود إلى تلك الفكرة أو الخطة التي يصنعها عمالقة أهل الرأي الذين يتصرفون في بلادنا وكأنها عجينة في يد الخباز. لذلك أعتبر أن الدين بريء كل البراءة وأن الفكرة والثقافة كلاهما بعيد كل البعد عن كل تصرف يقوم على العنف أو التطرف أو الإرهاب أو حتى الاعتداء على حرية الآخرين.
وفي رأيي أن كل ما يُنسب إلى التطرف الديني إنما المستهدَف به هو نحن أرباب القيم الدينية، الذين سنبقى نصر على أن قيمنا هي التي تُستمدّ من الرسالات السماوية، وهي التي تستوهب حركة الإنسان والحياة في أمسه وحاضره وغده ومستقبله.
? هل تخشون على وحدة العراق في ظل كلام عن سقوط حدود سايكس ـ بيكو في المنطقة ومَن هو المستفيد من تقسيم المقسم؟
ـ أظن أن الذي تقدّم ذكره في إجابتنا الأولى والثانية يؤكد أن خوفاً كبيراً على جغرافية وطننا العربي بدأ جميع أبناء العرب يشعرون به. وأخشى أن يبدأ التقسيم من العراق ولمصلحة إسرائيل أولا وآخراً، وربما تكون هناك مصالح لجهات أخرى يتم التعاون معها من أجل تغيير جغرافية العراق وسورية وغيرها من البلدان العربية إلا أن المستفيد الذي لا يشك به عاقل هو إسرائيل. وان خشيتي على العراق كبيرة جداً، لأن العراق هو أول مدماك من مداميك قوة العرب العلمية والاقتصادية والسياسية معاً.
? نوري المالكي اتهم المملكة العربية السعودية برعاية ما وصفه بالإرهابيين والوزير سعود الفيصل حذر من حرب أهلية في العراق. هل يدفع العراق برأيكم ثمن الصراع السعودي ـ الإيراني في المنطقة؟
ـ أعتقد أن ما نُسب أو ما نقلته وسائل الإعلام إلينا من تصريحات متكررة من رئيس وزراء العراق نوري المالكي من اتهامه للملكة العربية السعودية ولمعالي وزير خارجيتها الأمير سعود الفيصل ولمجموع السنّة المقيمين في العراق، أعتقد أنه محض افتراء. والمنطقة برمّتها ربما تدفع الثمن إذا استمر العراق بهذه القيادة التي لا تسمع ولا تبصر بل التي تتحرك من خلال مشاعر مذهبية قاتلة. آن الأوان أن نخرج من هذا الإطار وذاك التاريخ لنعيش قضية الإنسان بقيمه الإنسانية والدينية وأن يشعر كل فريق وكل أبناء مذهب بكامل حقوقهم الإنسانية والدينية معاً.
? قيل الكثير عن «داعش»؛ الأفكار، التنظيم، مصادر الدعم، المشروع. مَن هو «داعش» برأيكم؟
ـ حتى اللحظة لا أستطيع أن أجزم بأنني أعلم حقيقة هذا التنظيم وولادته ومن الذي يستوعبه أو يحرّكه أو يموّله. ما زال الأمر عندي غامضاً، إلا أنني استطيع أن أعلن أن أيّ قضية اسلامية تقوم على العنف أو الإرهاب الإسلام بريء منها كل البراءة. ولا أعتقد على الإطلاق أن الإسلام يضطهد أحداً حتى في مخالفتنا لمعتقداتنا. فالله تعالى يقول «لا إكراه في الدين»، والله تعالى يقول «فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر»، وهو القائل سبحانه وتعالى «إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء». فلا أعلم حقيقة «داعش» ولا منبتها وولادتها ولا أعلم حتى اللحظة من ذاك الذي يموّلها ويحرّكها. الأمر عندي يحتاج إلى أناة وإلى نظر، إلا أنني أستطيع أن أجزم بأن جل الذي أسمعه ليس له علاقة بقيم التسامح والعفو والرحمة التي جاء بها النبي محمد صلوات الله وسلامه عليه.
رأى أن العراق يتحمل عبء عدم التوصل إلى آلية لحل الخلافات بين السعودية وإيران
النابلسي: ما الذي يضمن ألا نرى «داعش» في الكويت لو لم تتخذ «المرجعية» هذا الموقف الحاسم بقتالهم
رأى سماحة آية الله العلامة الشيخ عفيف النابلسي أن «ما يحصل في العراق ليس له علاقة بالأوضاع الاجتماعية من تهميش وحرمان وغير ذلك، والذي يتساوى فيه الشيعة والسنّة والأكراد وغيرهم»، معتبراً أن العراق «يتحمل عبء عدم التوصل حتى الساعة إلى آلية لحلّ الخلافات بين كل من السعودية وإيران»، ونافياً أن يكون رئيس الحكومة العراقي نوري المالكي «يتحمل مسؤولية ما جرى», مثمنا في الوقت نفسه «مسارعة المرجعية الشيعية إلى دعوة الشعب العراقي لحمل السلاح لقطع الطريق أمام مشاريع التقسيم والعنف الطائفي».
? مقاربتان في دائرة الضوء لما يجري في العراق، واحدة للنظام وحلفائه تقول ان «داعش» ترسم خريطتها العابرة للحدود من سورية إلى العراق، وأخرى عبّر عنها مفتي العراق الشيخ رافع الرفاعي حين تحدث عن انتفاضة سنية.. كيف تقرأون ما يجري في بلاد الرافدين؟
ـ بالرغم من وجود مطالب سنية، إلا أن التوصيف بأن هناك انتفاضة سنية غير صحيح البتة، بدليل أن عشائر كبيرة وعلماء دين ومفتين من السنّة لهم وزنهم في العراق عمدوا إلى دعم الحكومة ضد هذه الفئة التي تشكل تهديداً ليس للعراق فحسب وإنما للمنطقة بأسرها.
في الأساس ما يحصل في العراق ليس له علاقة بالأوضاع الاجتماعية من تهميش وحرمان وغير ذلك والذي يتساوى فيه الشيعة والسنة والأكراد وغيرهم. هناك عجز عن إعادة بناء العراق وتوزيع الثروة بشكل عادل، فالمشكلة إذاً ليست في الحرمان والتهميش رغم خطورتهما، وإنما في التدخلات الخارجية التي تهدف إلى تقسيم المنطقة ومن ضمنها العراق. وقد نُشرت مؤخراً العديد من الخرائط التي تستهدف تغيير الواقع الجيوسياسي في المنطقة حيث يُعمل على إلغاء دول بأكملها وتقسيم أخرى إلى دويلات عرقية وطائفية. وفي العراق مثلاً يُعمل على إنشاء دولة سنية وأخرى شيعية وثالثة كردية. ودور «داعش» تنفيذ الجزء المتعلق بإنشاء دولة سنية أما الكردية فهي بحكم الموجودة والشيعية تفرضها طبيعة التطورات الجيوسياسية.
لذلك نرى أن العراق ومعه المنطقة يدخل وضعاً جديداً ينذر باضطرابات واهتزازات أمنية لا حد لها. فما حصل في الموصل من انقلاب وتواطؤ جعل من قوات «داعش» تسيطر على أراضٍ شاسعة يمكن أن تمتدّ سريعاً إلى العديد من الدول المجاورة للعراق، ما يضع المنطقة بأسرها أمام مشهد من الحريق لا أحد يعرف كيف يسيطر عليه، وخصوصاً أن قادة التنظيم الإرهابي يتحدثون بلغة مذهبية ويتوعدون بممارسات دموية.
? ثمة انطباع بأن أداء رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي الذي حكم العراق لولايتين ويستعد للثالثة يتحمل مسؤولية انفجار الاحتقان السني ـ الشيعي، ما رأيكم بهذه الخلاصة؟.
ـ ليس صحيحاً أن المالكي يتحمل مسؤولية ما جرى. المالكي ورث تداعيات الاحتلال الأميركي للعراق. الجغرافيا العراقية تعرضت لهزة كبيرة أصبحت معها قابليات التفكك أكثر بساطة، وخصوصاً أن المحاصصة الطائفية التي رسّخها الأميركيون بعد احتلالهم للعراق جعلت الدولة مرتعاً للفساد وللأجنحة المتصارعة وللولاءات العشائرية والمذهبية والعرقية، حتى غدت أجهزة الدولة الأمنية على وجه الخصوص بلا فاعلية، أما المؤسسات السياسية فبدت عاجزة عن تخطي النزاعات وتوفير أرضية حقيقية للمصالحة.
فالمسؤولية عما آلت اليه الأوضاع في العراق من احتقان سني شيعي هي مسؤولية جماعية من قبل النخب والقيادات السياسية والدينية التي لم تستطيع بناء تفاهمات بمقدورها أن تشكل أنماط حياة واتخاذ تدابير ترمي إلى التخفيف من حدة الخطابات والممارسات الطائفية، وبالتالي رفْع مستوى الاندماج الوطني بين مختلف العوامل المكونة للدولة العراقية بحيث تكون الدولة هي الحيز الوطني الذي يضمن لحمة كل أبناء العراق ويحمي ويحترم الخصوصيات الثقافية والهويات التاريخية لكل الأقليات على اختلافها.
? غالباً ما يتم تحميل التطرف الديني مسؤولية إنهيار الأوضاع على غرار ما يجري الآن في العراق وقبله في سورية... ما سر هذا الجنوح نحو التطرف؟ مَن ينتجه، ولأيّ حسابات؟
ـ لا شك في أن التطرف الديني هو جزء من حراك الخراب في العالم العربي، لكن مَن أسس ودعم وساند وغطى هذا التطرف ليصبح متمكناً وله كل هذه القدرات والفرص؟ مَن سمح لمشايخ الفتنة أن يعتلوا المنابر الاعلامية ويحرّضوا المسلمين ضد بعضهم البعض ويخلقوا كل هذا المناخ المشحون؟ مَن دفع بالآلاف من هؤلاء المتطرفين ليشكلوا جماعات مسلحة تقتل على الظنة وتمارس أبشع صنوف الإرهاب والدموية وتجد لها من يُفتي بقطع الرؤوس وطبخها والتمثيل بالجثث وإعدام الأطفال والنساء والشيوخ لأنهم من أهل ملة أخرى؟
إن السؤال الكبير يعود لا إلى المباشر لهذه الممارسات الإجرامية الشنيعة التي قامت بها جماعات التطرف الديني بل إلى المسبب الذي صنع هؤلاء فأغرقوا العالم العربي والإسلامي بالدماء ويعملون حالياً على تقسيم المنطقة ورسم أخرى تتوافق مع المخطط الإسرائيلي الذي يسعى لإقامة كيانات مذهبية وطائفية وعرقية ضعيفة ومتحاربة.
إنّ هذا الجنوح الأعمى نحو التطرف لا يمكن أن يقف إلا من خلال دول وطنية تنظر إلى تطلعات شعوبها بالحرية والعدالة والمساواة والكرامة الإنسانية، وعبر خطاب ديني يجمع ولا يفرّق، يقف إلى جانب المظلوم ضد الظالم، يساعد على نهوض الأمة من التخلف والجهل والجاهلية إلى فضاء المعرفة والثقافة والإيمان الصحيح.
? هل تخشون على وحدة العراق في ظل كلام عن مؤشرات الى سقوط حدود سايكس ـ بيكو في المنطقة، ومَن هو المستفيد من تقسيم المقسم؟
ـ نعم هناك خشية حقيقية من تقسيم ليس العراق فحسب بل من تقسيم المنطقة كلها بما يحقق أهداف أميركا وإسرائيل والدول الغربية الاستعمارية.
هناك مخططات عمرها عشرات السنين يتم البوح بها بلا خجل لدفن سايكس بيكو وإعادة رسم خرائط جديدة تؤمن مصالح الاستعمار وتضمن بقاء المنطقة تحت هيمنته.
لقد بدأ المسار في السودان وكاد الأمر يتحقق في سورية إلى أن وصل بتجلياته الخطيرة إلى العراق، حيث وجدنا إجراءات انفصالية واضحة هدفها تثبيت التقسيم بالدرجة الأولى كأمر واقع ثم العمل لاحقاً على أن تنتشر حمى التقسيم في كل العالم العربي.
ونرى أن إسرائيل بعدما وجدت أنّ محوراً معيناً يهدد وجودها ويضعف دورها عمدت إلى تسريع وتيرة الاضطرابات والقلاقل في المنطقة تحرزاً من جانب، وتنفيذاً لمخطط مسبق من جانب آخر يجعل كل المنطقة في مهب التبعثر والتمزق والحروب المستمرة.
? المالكي اتهم المملكة العربية السعودية برعاية ما وصفه بـ «الإرهابيين»، والوزير سعود الفيصل حذر من حرب أهلية في العراق. هل يدفع العراق ثمن الصراع الإيراني ـ السعودي في المنطقة؟
ـ لا شك أن الخلافات الايرانية - السعودية جزء من الخزين الكلي للصراع على النفوذ في المنطقة. هناك محاور دولية وأخرى إقليمية تسعى لفرض رؤيتها فيما خصّ طبيعة العلاقات وأسس التوازن في العديد من المجالات.
وهذا بدوره ينعكس على دول ضعيفة كاليمن أو مدمرة كالعراق. وأعتقد أن الخلاف الإيراني - السعودي على الرغم من حساسيته إلا أنّه ليس لبّ الخلاف الذي يؤجج الأوضاع ويثير كل هذه الأزمات. المشكلة الحقيقية هي في وجود إسرائيل. هذا الوجود السرطاني الذي يمتدّ ليدمّر كل معالم الحضارة العربية والإسلامية وليشيع الفرقة والنزاعات في أقصى مدياتها.
كان بالإمكان تفادي كل هذا الذي يحصل في العراق لو تم تقديم دعم أولوية الحوار على أولوية النزاع وأولوية التفاهم على أولوية الخلاف.
السعودية تعاملت مع المالكي على أنه عدو وينفذ مخططات إيرانية في وقت كان المالكي يسعى للتقارب وتقديم وساطة تردم خندق الخصومة مع إيران. وعليه يمكن للدول الثلاث أن يشكلوا حلقات تكاملية في سبيل تنمية المنطقة والنهوض بها فيما لو حسنت النيات. وقد بدا أنّ سوء الفهم بين هذه الدول أكبر من أن يُعالج في ظل تصادم الايديولوجيات، ولهذا السبب يتحمّل العراق الذي يشكل الحلقة الأضعف عبء عدم التوصل حتى الساعة إلى آلية لحل الخلافات بين كل من السعودية وإيران.
* قيل الكثير عن «داعش»؛ الأفكار، التنظيم، مصادر الدعم، المشروع.. من هو «داعش» في رأيكم؟
ـ قلت مراراً ان داعش هي صنيعة تضارب المصالح الاقليمية والدولية على أرض المنطقة، هذا من ناحية السياسة. أما من ناحية الآليات والاجراءات فيعود لأجهزة استخبارية عربية وإسرائيلية وغربية وتركية اليد الطولى في تنظيمها ودعمها وتسليحها وتسهيل سيطرتها على هذه المساحة الواسعة الممتدة من سورية إلى العراق.
لكن هذا لا يعني أن أفرادها ليس لهم أجنداتهم الخاصة، فلطالما شهدنا في العديد من الساحات الصراعية تمردات واختراقات وتشكيلات تخرج من رحم التشكيل الأم التابع لهذا الجهاز الاستخباري أو ذاك.
? ألا تعتقدون أن دعوة مرجعية النجف العراقيين إلى حمل السلاح من شأنه نقل المواجهة من صراع بين الدولة العراقية والمسلحين (داعش) إلى صراع أهلي ميليشيوي؟
ـ المسألة في غاية التعقيد والحساسية. لا أستطيع أن أنفي حصول صراع أهلي بالمطلق ولكن لا تستطيع المرجعية إلا أن تلعب دوراً في حماية العراق الواحد قبل أن تأكله غيلان التقسيم. إنّ وقوف المرجعية على الحياد وعدم اتخاذها أي مبادرة لحماية العراق من همجية هؤلاء الإرهابيين سيؤدي إلى مخاطر مضاعفة على الشعب العراقي. إن مسارعة المرجعية الى دعوة الشعب العراقي لحمل السلاح يقطع الطريق أمام مشاريع التقسيم والعنف الطائفي ويضع حداً لهذه الفئة، وإن استدعى الأمر تضحيات أو مخاطر من حصول بعض التجاوزات هنا وهناك. ولكن قطع دابر الفتنة منذ البداية أهون وأقل كلفة من ترك «داعش» تتمدد لتنفذ مخططاتها الجهنمية حيث توعدت علناً بدخول كربلاء والنجف وهدم مقامات أهل البيت عليهم السلام. ومن غير المعروف والواضح أن مخططات «داعش» ستقف عند هذا الحد بل ربما ستلجأ إلى إعدامات جماعية وإبادة بشرية لكل مَن يخالفها المنهج والطريقة حتى من المسلمين السنّة، وإلى احتلال اراضي دول أخرى، هي التي أعلنت أن الكويت والأردن ولبنان ضمن دولتها المزعومة. فما الذي يضمن فيما لو لم تتخذ المرجعية هذا الموقف الحاسم ألا نرى «داعش» في الكويت مثلاً؟ من هنا قتال هذه الفئة ضروري وفيه مصلحة لكل العالم العربي والإسلامي.
? ثمة مخاوف من انعكاسات ما يجري في العراق على الوضع في لبنان، الذي لم يشف من تداعيات الأزمة السورية.. هل لهذه المخاوف ما يبررها؟
ـ بالتأكيد انعكاسات الأزمة السورية على لبنان واضحة. إذ لا يمكن لأي دولة تنشب أزمة على جوارها أن تنأى بنفسها عن التداعيات خصوصاً أن هناك ترابطاً وثيقاً بين لبنان وسورية يمتدّ إلى الكثير من المجالات والأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والجغرافية. وبهذا المعنى نرى أن دول الجوار للعراق ستتأثر عاجلاً أم آجلاً بما يجري من أحداث في العراق. وتأثيراتها ستمتد إلى دولٍ أخرى، وبالتالي النار ستصل إلى لبنان وها قد وصلت.
فقد أعلنت جماعة «داعش» وجودها على الأراضي اللبنانية وصرّحت عن نيتها تنفيذ عمليات أمنية، وقد جرت ملاحقة العديد من الخلايا التي تنتمي إلى هذا التنظيم ما يكشف عن مخططها لنقل المعركة إلى لبنان، خصوصاً أن هناك بيئة حاضنة في العديد من المناطق ما يشكل تهديداً مستمراً للبنان الذي يرزح تحت أزماته الكثيرة.
? يحمّل البعض «حزب الله» مسؤولية تعاظُم الاحتقان السني ـ الشيعي لمشاركته في الحرب في سورية، وربما لاحقاً في العراق، في الوقت الذي يقول أمينه العام السيد حسن نصرالله انه لولا تدخله في سورية لوصلت «داعش» إلى لبنان.. من موقعكم كيف ترون هذا الأمر؟
ـ «حزب الله» لم يدخل سورية إلا بعد أن دخل مئات الآلاف من الجهاديين إلى سورية وبعدما وصل الأمر بهؤلاء الجهاديين إلى تهديد الواقع الجغرافي في المنطقة من جانب، وتهديد وحدة لبنان وأمنه من جانب آخر، وأيضاً من خلال التحضير لعملية كبرى جرى الإعداد لها في منطقة القصير والقلمون لضرب بنية «حزب الله». لقد كشفت التقارير الاستخبارية عن وجود آلاف الجهاديين الذين كانوا يستعدون لدخول لبنان والقضاء على حزب الله، فهل يجلس ساكناً صامتاً على مثل هذه التهديدات الوجودية؟ ومن الغريب أن يقول البعض ان مشكلة الاحتقان السني - الشيعي هي بسبب دخول «حزب الله» إلى سورية.
الاحتقان سابق على الدخول ويُعمل عليه منذ ما قبل انتصار المقاومة على العدو الإسرائيلي العام 2000. إسرائيل لم تكن راضية أبداً على امتلاك المقاومة كل هذا السلاح وعلى بلوغها مرحلة متقدمة من التطوير والقدرة العسكرية ومن احتضان العالم الاسلامي والعربي لها وافتخار العرب والمسلمين بانجازاتها. إسرائيل وجدت أن أفضل وسيلة لضرب «حزب الله» وتشويه سمعته وإلهائه وإضعاف قدراته واستنزاف إمكاناته هي بدفع السنّة إلى معاداته وبالتالي تحويل المقاومة من مقاومة للأمة إلى حزب مذهبي معادٍ للأمة.
لقد نجحت إسرائيل إلى حد كبير بطبع «حزب الله» بهذه الصورة ولكن هذه الصورة ليست حقيقية. على إخواننا السنّة أن يفهموا أن إسرائيل تريد هذا النوع من الاحتقان والخلافات لتشتيت جهود المسلمين والعرب ولمنعهم من مواصلة طريق المقاومة واستعادة فلسطين. هي لا تريد فصيلاً مقاوماً، سنياً كان أو شيعياً أو غير ذلك. وقد جاءت هذه الجماعات المتطرّفة لتصرف الأنظار عن القضية الفلسطينية ولتحوّل الصراع من صراع من أجل الأمة وفلسطين إلى صراع مذهبي بين السنّة والشيعة، وكان هناك الكثير من الدول وأجهزة الاستخبارات التي عملت على تسميم قلوب وأذهان العرب والمسلمين من خلال فضائيات وإعلام تحريضي عاظَمَ من نزعات التطرف والكراهية وأوجد أجواء ليست في مصلحة المسلمين والعرب بشكل مطلق.
? كعلماء دين، هل من مبادرات لتفادي الانفجار المذهبي، وفي ظل أيّ سياقات يمكن معاودة لمّ الشمل؟
ـ تحدّثنا كثيراً حول هذا الأمر، إذ ان المشكلة غير محصورة بعلماء الدين. المشكلة هي مشكلة كل الأمة وعلى كل فرد أن يتحمل مسؤوليته في إنقاذ الأمة من جهل العصبيات وشرور الفتن والتطرف. وإذا أردنا أن نبدأ من مكان ما، فعلى الدول العربية والإسلامية وقف فضائيات الفتنة وإعلام الخلافات واستبدال ذلك بإعلام يدعو إلى الأخوّة والوحدة والتفاهم والحوار والنصيحة. على رؤساء الدول أن يعاودوا الاجتماع واللقاء في سبيل توطيد أواصر الأخوة والتعاون. يجب أن يظهروا وكأنهم جسد واحد. وعلى المستوى نفسه يجب عقد المؤتمرات بين علماء الأمة الواعين الحريصين على الأعراض والدماء والأرزاق، ويجب أن تُنقل صورهم إلى العلن وخطبهم الهادئة الموحِّدة إلى كل إنسان بحيث تعمّ أجواء الإخاء فتنعكس ذلك ثقافة واجتماعاً وتعاوناً على مختلف الصعد.
إن الحكومات العربية والإسلامية بمقدورها أن تحل مشكلة الاحتقان المذهبي لو أرادت ذلك، وعلماء الدين المؤمنون سيكون لهم دور فاعل ومؤثر فيما لو انسجمت وتوحدت الرؤى والأهداف، لكن هذا لا يلغي دور أحد. يجب ألا نيأس من لعب أدوار ولو كانت فردية وخجولة والعمل على بث الأمل في ان يعود العالم العربي والإسلامي واحة للأمن والسلام.