العروة الوثقى

| u0627u0644u062fu0643u062au0648u0631 u0648u0644u064au062f u0645u062du0645u062f u0627u0644u0639u0644u064a |
| الدكتور وليد محمد العلي |
تصغير
تكبير
الحمد لله ذي الجلال والإكرام، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا خير الأنام، فإنَّ العُروة الوُثقى هي آيةُ الكُرسيِّ؛ الحافظةُ من أذى كُلِّ جنيٍّ وأنسيٍّ، وقد اشتملت هذه الآية على عشر جُملٍ يُصدِّق بعضُها بعضاً في الوعظ، وحوت خمسين كلمةً مُثْبِتَةً ونافيةً شافيةً وكافيةً وآخذٌ بعضُها بحُجَزِ بعضٍ.

ولذلك ستكون محور حديثنا على مدار أيام الشهر الفضيل إن شاء الله تعالى.

ادعاء معرفة الغيب افتراء على الله

وإنَّ من وُجوه ما تضَّمنته هذه الآية الكريمة من البَيان؛ وعظيم ما اشتملت عليه من الإعجاز والحُجَّة والبُرهان: أنَّ من ادَّعى علم الغيب فقد افترى على الله الكذب، وقد باء بعظم فريته بسخطٍ من الرَّبِّ تعالى وغضب، فقد أخرج مُسلمٌ في صحيحه عن مسروق بن الأجدع رحمه الله تعالى قال: (كُنتُ مُتِّكئاً عند عائشة رضي الله عنها فقالت: يا أبا عائشة؛ ثلاثٌ من تكلَّم بواحدةٍ منهنَّ فقد أعظم على الله الفرية. قلت: ما هُنَّ؟ قالت: من زعم أنَّ مُحمَّداً صلَّى الله عليه وسلَّم رأى ربَّه فقد أعظم على الله الفرية. قال مسروق: وكنتُ مُتَّكئاً فجلستُ فقلتُ: يا أُمَّ المُؤمنين؛ أنظريني ولا تعجليني، ألم يقل الله عزوجل: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ}. {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى}. فقالت: أنا أوَّل هذه الأُمَّة سأل عن ذلك رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال: إنَّما هو جبريل، لم أره على صُورته التي خُلِقَ عليها غير هاتين المرَّتيْن، رأيتُه مُنهبطاً من السَّماء؛ ساداً عِظَمُ خلقه ما بين السَّماء إلى الأرض. فقالت: أو لم تسمع أنَّ الله يقول: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}. أو لم تسمع أنَّ الله يقول: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ}. قالت: ومن زعم أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كتم شيئاً من كتاب الله: فقد أعظم على الله الفرية، والله يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}. قالت: ومن زعم أنَّه يُخبر بما يكون في غدٍ: فقد أعظم على الله الفرية، والله يقول: {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ}). وفي قول الرَّبِّ تبارك وتعالى: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء}: عَلَمٌ من أعلام استحقاق الله تعالى لكمال الأُلوهيَّة فلا يكون شيءٌ إلا إذا شاء.

فلا يُحيط أحدٌ في السَّماوات والأرض بشيءٍ ممَّا يعلمه الله تعالى إلا بما شاء، ولا يُحيط أحدٌ في السَّماوات والأرض بشيءٍ من أسمائه وصفاته إلا بما شاء، فعن عبدالله بن مسعودٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (ما أصاب أحداً قطُّ همٌّ ولا حَزَنٌ فقال: اللهمَّ إنِّي عبدك؛ ابن عبدك؛ ابن أَمَتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حُكمك، عَدْلٌ فيَّ قضاؤُك: أسألك بكلِّ اسمٍ هو لك؛ سمَّيت به نفسك، أو علَّمته أحداً من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك: أن تجعل القُرآن ربيع قلبي؛ ونُور صدري؛ وجلاء حُزني؛ وذهاب همِّي، إلا أذهب الله همَّه وحُزْنه؛ وأبدله مكانه فرحاً. فقيل: يا رسول الله؛ ألا نتعلَّمها؟ فقال: بلى؛ ينبغي لمن سمعها أن يتعلَّمها) أخرجه أحمد.

وذلك أنَّه لا سبيل إلى معرفة شيءٍ من علم الغيب إلا بطريقيِ الإفادة:

الأوَّل: هُو مشيئة الله تبارك وتعالى أن يُعلمه لمن شاء من خاصَّة عباده.

الثَّاني: هُو وقوعه فينتقل حينئذٍ العلم من عالم الغيب إلى عالم الشَّهادة.

قال الرَّبيع بن سليمان رحمه الله تعالى: سُئِلَ الشَّافعي رحمه الله تعالى عن القدر، فأنشأ يقول:

ما شئت كان وإن لم أشـأ

وما شئت إن لم تشأ لم يكن

خلقت العباد على ما علمت

ففي العلم يجري الفتى والمسن

على ذا مننت وهذا خذلت

وهذا أعنـت وذا لم تعـن

فمنهم شقـي ومنهم سعيـد

ومنهم قبيح ومنهم حسـن

فناسب لمَّا تقدَّم الإخبار عن كمال علم الرَّبِّ تبارك وتعالى المُحيطِ بجميع المخلوقات: أن يُخبر الله سُبحانه وتعالى بأنَّه وحده المُستأثر بمعرفة ما غيَّبه عن خلقه من المُغيَّبات.

فكلُّ من ادَّعى معرفة شيءٍ من علم الغيب من غير طريق الوحي فقد ظلم وأساء، لمُخالفته لقول الرَّبِّ تبارك وتعالى: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء}.

إذ كيف يُحيط المخلوقُ الصَّغير؛ علماً وإدراكاً بهذا الخالق الكبير؟ فالخالق سُبحانه وتعالى جبَّارٌ والمخلوق بين يديه كسيرٌ، والخالق سُبحانه وتعالى غنيٌّ والمخلوق مُستغيثٌ إليه فقيرٌ.

العميد المساعد للأبحاث والاستشارات والتدريب

كلية الشريعة - جامعة الكويت
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي