العروة الوثقى

u0627u0644u062fu0643u062au0648u0631 u0648u0644u064au062f u0645u062du0645u062f u0627u0644u0639u0644u064a
الدكتور وليد محمد العلي
تصغير
تكبير
الحمد لله ذي الجلال والإكرام، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا خير الأنام، فإنَّ العُروة الوُثقى هي آيةُ الكُرسيِّ؛ الحافظةُ من أذى كُلِّ جنيٍّ وأنسيٍّ، وقد اشتملت هذه الآية على عشر جُملٍ يُصدِّق بعضُها بعضاً في الوعظ، وحوت خمسين كلمةً مُثْبِتَةً ونافيةً شافيةً وكافيةً وآخذٌ بعضُها بحُجَزِ بعضٍ.

ولذلك ستكون محور حديثنا على مدار أيام الشهر الفضيل إن شاء الله تعالى.

اسمَ الجلالة (الحيَّ)

وإنَّ من وُجوه ما تضَّمنته هذه الآية الكريمة من البَيان؛ وعظيم ما اشتملت عليه من الإعجاز والحُجَّة والبُرهان: أنَّ اسمَ الجلالة (الحيَّ) تضمَّن الدِّلالة على جميع الصِّفات الذَّاتيَّة، وهي الصِّفات التي لا تنفكُّ بحالٍ من الأحوال عن الذَّات العليَّة، كصفة علمه وعُلُوِّه وإرادته؛ وسمعه وبصره ويده وقُدرتِه.

فالله سبحانه وتعالى هو الحيُّ الموصوف بالبقاء؛ فحياته دائمةٌ لم يتقدَّمها عدمٌ ولا يلحقها فناء.

فإقرار العبد بحياة ربِّه تبارك وتعالى يستلزم الإيمان بأنَّه سميعٌ لجميع الأقوال، وأنَّه عليمٌ بالظَّاهر والباطن وخبيرٌ بالغيب والشَّهادة وبصيرٌ بجميع الأفعال.

ويُدرك حقاً بأنَّ الحيَّ سبحانه وتعالى كما أنَّه يُحيي الأرض بعد موتها بوابل السَّماء: فإنَّه يُحيي القلب بعد موته ليستوي على عرش مملكته فيتصرَّف أمراً ونهياً بالأعضاء.

فمن رام في هذه الدَّار حياة القُلوب: فعليه بذِكْر الحيِّ فهو علام الغيوب، كما قال الله تعالى في مُحكم الكتاب: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ}.

فالذِّكر حياة القُلوب وطُمأنينتُها، والغفلة موت القُلوب ووحشتُها، فعن أبي مُوسى الأشعريِّ رضي الله عنه قال: قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: (مثلُ الذي يذكر ربَّه والذي لا يذكر: مثلُ الحيِّ والميِّت) أخرجه البُخاريُّ ومُسلمٌ.

وإذا أدرك العبد بأنَّ الله تعالى هو الحيُّ الذي لا يموت؛ وأنَّه سميعٌ وبصيرٌ وعليمٌ فلا يضلُّ ولا ينسى ولا يفوت: علم أنَّه المُستحقُّ وحده للعبادة مع كمال الحُبِّ والذُّل بين الخوف والرَّجاء، فيُخلص الوجه والعمل لله تبارك وتعالى فلا يُبطل أعمالَه بشيءٍ من السُّمعة والرِّياء، لذا كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول في دُعائه: (اللهمَّ لك أسلمتُ؛ وبك أمنتُ؛ وعليك توكلَّتُ؛ وإليك أنبتُ؛ وبك خاصمتُ، اللهمَّ إنِّي أعوذ بعزَّتك لا إله إلا أنت أن تُضلَّني، أنت الحيُّ الذي لا يموت، والجنُّ والإنس يموتون) أخرجه البُخاريُّ ومُسلمٌ من حديث عبدالله بن عبَّاس رضي الله عنهما.

وأمَّا اسمُ الجلالة (القيَّوم) فإنَّه يتضمَّن الدِّلالة على جميع صفات الأفعال، وهي الصِّفات التي يفعلها الرَّبُّ تعالى مع غِنَاهُ المُوجبِ للعظمةِ والجَلال، كصفة الخلق والإماتة والإحياء؛ والقبض والبسط والمنع والإعطاء.

فالله سبحانه وتعالى هو القيُّوم القائم بنفسه فلا يحتاج إلى أحدٍ؛ وغيرُه مُحتاجٌ إليه ومُعوِّلٌ عليه ومُفتقرٌ بذاته إلى غوثٍ منه ومددٍ، فقيامُ العالَمِ العُلويِّ والسُّفليِّ وتدبيرُ شُؤونِهما إنَّما هو بأمره، فهو القائم على كُلِّ نفسٍ بما كسبت فهي تحت تصرُّفه وقهره، كما قال تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}. وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ} [سُورة الرُّوم: الآية 25].

فإذا أيقن العبد أنَّه لا قيام له في جميع شُؤونه وأُموره إلا بالله: آوى إلى رُكن الحوقلة الشَّديد فقال: لا حول ولا قوَّة إلا بالله.

فعلى قدر ما يستشعر العبد أنَّه مُفتقرٌ إلى أن يُقيمه القيُّوم بفضلٍ منه ومنَّة: على قدر ما يلهج بقوله (لا حول ولا قوَّة إلا بالله) فيُكثر من غراس الجنَّة، فقد أخرج أحمد والتِّرمذيُّ عن أبي أيوب الأنصاريِّ رضي الله عنه قال: (إنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم ليلة أُسري به مرَّ على إبراهيم عليه السَّلام فقال: يا مُحمَّد؛ مُر أُمَّتك أن يُكثروا من غراس الجنَّة. قال: وما غراس الجنَّة؟ قال: لا حول ولا قُوَّة إلا بالله).

فما أعظم هذين الاسمين وأدلَّهما على كُلِّ مطلوب، وأقربَهما إلى ظفر الدَّاعي بهما بمغفرة كبائر الذُّنوب، فعن أبي يسارٍ زيدٍ مولى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه سمع النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: (من قال: أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحيُّ القيُّوم وأتوب إليه: غُفِرَ له؛ وإن كان فرَّ من الزَّحف) أخرجه أبوداود والتِّرمذيُّ.

العميد المساعد للأبحاث والاستشارات والتدريب

كلية الشريعة - جامعة الكويت
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي