مقال

مَنْ تُنادي؟!

تصغير
تكبير
أوروبيون وأميركيون وأستراليون... وإلى آخر بقعة في الأرض، تضع أمام عيونهم الوثائق والحقائق والأرقام، تضع الصور وأشرطة الفيديو والشهادات بألسنة أصحابها، تشرح وتبسّط في الشرح، وتحرص على أن تكون هادئاً، متّزناً، ومتوازناً، من دون أيّ تطرف أو مغالاة.

تشرح ذلك كلّه، وتقدّمه بقصد نقل قضية شعبك إلى عقول الآخرين ـ البعيدين جغرافياً والبعيدين اهتماماً ـ ومحاولة المساهمة في تجاوز «التقصير العربي الحاصل أمام الرأي العام العالمي» فلا تجني ثمرةً!

تستعين بأبناء بلدك ممن يتقنون اللغات الأجنبية جيداً، ليقوموا عبر لغة الآخرين بنقل ما يحدث، وشرح أبعاده وخفاياه، ولكي لا تكون «اللغة» احتمالاً لعدم تفهّم الرأي العام لقضية شعبك.

لكنك عبثاً تحاول!

وفيما تكون منهمكاً بالشرح والتوضيح وبيان اشتباك المحلي بالإقليمي بالعالمي، وعرض الكوارث والآلام الواقعة بحق الناس في بلدك أو منطقتك... ستصفعك الوجوه الصامتة، الخرساء، نطقاً وتعبيراً، لكأنك تحكي مع جدار!!

ستشعر وكأن مفهوم «الرأي العام العالمي» بالنسبة لك كعربي، مفهوم محنّط، تمت قولبته حتى غدا كالزجاجات الفارغة، والبراميل الخاوية، المركونة في دول العالم أجمع، لا تملك غير انتظار من يملؤها بأفكاره ووجهات نظره وحقائقه أو أكاذيبه- لا فرق- حول مختلف القضايا الساخنة والباردة معاً ممّا يدور ويجري على ساحات العالم برمته.

وانطلاقاً من هذه النظرة السكونية لبنية الرأي العام العالمي وطبيعته، واستناداً إلى اعتباره آنية جوفاء، تم التنادي، ودب الصوت، في الحياة السياسية العربية، للإسراع إلى تعبئة ذاك الرأي العام بحقائق قضايانا وجذور أزماتنا وبنسخ من صور واقعنا الحقيقي، في تنافس مع الأعداء الهارعين إلى استباقنا، وحشو ذلك الرأي العام بالأكاذيب والتشويهات وقلب الحقائق!

ولعل من أتفه طرائق التفكير، عند معالجة مسألة ما، أن يتم آلياً إقرار نقيضها على الفور، فيقال: معنى ذلك أن لا دور للإعلام في توجيه الرأي العام، ولا سلطة له، ولا ضرورة للتنافس في حقله!! هذا الاستنتاج أكثر هشاشة من أن أسعى لنفيه.

الفكرة الأساس، عندي، أن الرأي العام كائن حي، له مواقفه واختياراته وانحيازاته، له رفضه وله قبوله، يرى ما يريد أن يرى، ويعمى عما يريد أن يعمى عنه، بدليل أن إعلام السلطات والأنظمة الحاكمة العربية وغير العربية، وعلى امتلاكها وسائل الإعلام والمنابر، وتدجيلها صبحاً وظهراً وعشية، لم تستطع السيطرة على الرأي العام، ولا حشوه بتلفيقاتها، ولا بسياستها، بحيث إذا ما أعطيت الأمان للمواطن العادي، ابن الشارع العريض، وطلبت منه رأيه الحقيقي وما يعتقد به فعلاً إزاء سلطات بلاده لحكى ما يُشيب له الولدان! كيف لم يقولب، ولم يدجن هذا الرأي العام بالرغم من جهود التضليل الكبيرة له؟! ببساطة لأن حقائق ما يعيشه على أرضه، وحوله، وداخل بيته صنعت رأيه.

أكل هذا العسف والقتل، والعسكرة، والتهجير، والممارسات الفاشية بحق العزل من الأطفال والنساء الذي أكره حتى بعض الغربيين والهيئات الدولية على معارضته واستنكاره، لم يوقظ الرأي العام ولا فتحه؟! هل لغموض في المرئي، أم لتجاهل عمد في الرائي؟! فإذا كان كل ما يحدث الآن على الأرض العربية، أمام العينين، وتحت الأنف، لم يفتح الرأي العام العالمي، أفتفتحه صحيفة أو شاشة أو بيان على ورق؟!
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي