رحلة أرضية سماوية أكرم الله تعالى بها نبيه محمد صلى الله عليه وسلم تثبيتاً لفؤاده
الإسراء والمعراج... أمر خارق للعادة ومعجزة عظيمة لنا فيها نحن المسلمين دروس وعبر
المسجد الحرام... أول بيت وضع للناس وأعظم بيوت الله وأشرفها قدراً ومنزلة... مهبط الوحي وفي رحابه انطلقت رسالة الإسلام إلى العالم أجمع وهو قبلة المسلمين
المسجد الأقصى... أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين اختاره الله تعالى ليكون نقطة الانطلاق لرحلة المعراج لقدره وشرفه وتأكيداً على أنه ميراث أمة الإسلام
• من دلالات
الإسراء والمعراج أن الإسلام هو كلمة الله الأخيرة إلى خلقه وأنه دين
الفطرة والهداية
• في ذكرى الإسراء والمعراج لابد أن يستشعر كل مسلم مسؤوليته أمام الله في تحرير الأقصى من غاصبيه
• أكدت رحلة الإسراء والمعراج أن أمة الإسلام هي صاحبة الميراث لرسالات الرسل والأقصى الشريف
• كانت الصلاة هي هدية الإسراء والمعراج إلى الأمة الإسلامية كمنهاج حياة من الميلاد إلى ما بعد الممات
• في ذكرى الإسراء والمعراج لابد أن يستشعر كل مسلم مسؤوليته أمام الله في تحرير الأقصى من غاصبيه
• أكدت رحلة الإسراء والمعراج أن أمة الإسلام هي صاحبة الميراث لرسالات الرسل والأقصى الشريف
• كانت الصلاة هي هدية الإسراء والمعراج إلى الأمة الإسلامية كمنهاج حياة من الميلاد إلى ما بعد الممات
أطلت علينا قبل يومين ومازلنا نعيش أجواءها ذكرى الإسراء والمعراج التي تعد آية من آيات الله تعالى التي لا تُعَدُّ ولا تُحصى، ورحلة لم يسبق لبشر أن قام بها، أكرم الله عز وجل بها نبيَّه محمد صلى الله عليه وسلم.إنها رحلة الإسراء والمعراج التي أرى اللهُ عز وجل فيها النبيَّ صلى الله عليه وسلم عجائب آياته الكبرى، ومنحه فيها عطاءً رُوحيًّا عظيمًا؛ وذلك تثبيتًا لفؤاده، ليتمكَّن من إتمام مسيرته في دعوة الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور، ولتكون تمحيصًا من الله للمؤمنين، وتمييزًا للصادقين منهم، فيكونوا خَلِيقين بصحبة رسوله الأعظم إلى دار الهجرة، وجديرين بما يحتمله من أعباء وتكاليف.
أمَّا الإسراء فهي تلك الرحلة الأرضيَّة وذلك الانتقال العجيب، بالقياس إلى مألوف البشر، الذي تمَّ بقُدْرَة الله عز وجل من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، والوصول إليه في سرعة تتجاوز الخيال، يقول تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء:1].
وأمَّا المعراج فهو الرحلة السماويَّة والارتفاع والارتقاء من عالم الأرض إلى عالم السماء، حيث سدرة المنتهى، ثم الرجوع بعد ذلك إلى المسجد الحرام، يقول تعالى: {وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:13-18].
وقد حدثت هاتان الرحلتان في ليلة واحدة، وكان زمنها قبل الهجرة بسَنَةٍ. على أنه أُثِيرَ حول الإسراء والمعراج جدل طويل وتساؤلات عِدَّة، فيما إذا كانت قد تمَّت هذه الرحلة بالرُّوح والجسد، أم بالروح فقط؟ ومتى وكيف تمَّت؟
ويمكن القول بأن الحكمة من رحلة الإسراء والمعراج تتلخص في أمور أولها : توالت على رسول الله قبيل حادثة الإسراء والمعراج الحوادث والأزمات الكثيرة، فإلى جانب ما كان يلاقيه من عنتٍ وعذاب الكفار له وتصديهم لدعوته وإنزال الأذى والضرر به وبمن تبعوه، فَقَد نصيرًا وظهيرًا له هو عمه أبو طالب، وكذلك فَقَد شريكة حياته وحامية ظهره السيدة خديجة التي كانت له السند والعون على تحمُّل الصعاب والمشقات في سبيل تبليغ دعوته السامية، فكلاهما مات قبيل حادثة الإسراء والمعراج؛ ولذا سمي هذا العام «عام الحزن». ومن هنا كان إنعام الله على عبده ورسوله محمد بهذه المعجزة العظيمة؛ تطييبًا لخاطره وتسرية له عن أحزانه وآلامه... ثم ليشهد فيها من عجائب المخلوقات وغرائب المشاهد.
وثانيًا: لما كان الإسراء وكذلك المعراج خرقًا لأمور طبيعيَّة ألفها الناس، فقد كانوا يذهبون من مكة إلى الشام في شهر ويعودون في شهر، لكنه -أي: رسول الله ذهب وعاد وعرج به إلى السموات العلا، وكل هذا وذاك في جزء من الليل فكان هذا شيئًا مذهلاً، أي أنه كان امتحانًا واختبارًا للناس جميعًا، وخاصة الذين آمنوا بالرسالة الجديدة، فصدَّق أقوياء الإيمان وكذَّب ضعاف الإيمان. وهكذا تكون صفوف المسلمين نظيفة، ويكون المسلمون الذين يُعِدُّهم الله للهجرة أشخاصًا أتقياء أقوياء، لهم عزائم متينة وإرادة صلبة؛ لأن الهجرة تحتاج لأناس تتوفر لديهم هذه الصفات.
وثالثا: لقد كان الصعود من بيت المقدس ولم يكن من مكة، ذا دلالات، إحداها الأمر بنشر الإسلام وتوسعة إطاره؛ وذلك لأنه الدين الخاتم الشامل الجامع الذي ارتضاه الله للناس كافة على اختلاف أجناسهم، وألوانهم، وشعوبهم، ولغاتهم.
أما رابعًا: فيعتبر فرض الصلاة بهيئتها المعروفة وعددها وأوقاتها اليوميَّة المعروفة على المسلمين في رحلة المعراج دليلاً على أن الصلاة صلة بين العبد وربه، وهي معراجه الذي يعرج عليه إلى الله بروحه، وأنها الوقت الذي يناجي العبد فيه ربه، ويبث إليه ما يرنو إليه. فالصلاة إذن عماد الدين؛ من تركها وأهملها فكأنه هدم دينه وأضاعه. وفيما يلي من سطور لنا وقفة مع الدروس والعبر المستفادة من رحلة الإسراء والمعراج وبعض ما يتعلق بها من أحداث... فتابع معنا،،،
هناك سؤال مهم يفرض نفسه حول حقيقة الإسراء والمعراج، هل كان الإسراء بالرُّوح والجسد، أم كان بالرُّوح فقط؟
المتَّفَقُ عليه لدى جمهور العلماء أنَّ الإسراء تمَّ بالروح والجسد معًا؛ لأنه لو كان بالروح فقط لما أحدث خلافًا، ولمَا كان هناك داعٍ لكُلِّ الضجَّة التي أحدثها بين القوم يومذاك، وكلُّ ما هنالك حينذاك -أي لو كان بالرُّوح فقط- أن يكون مجرَّدَ رُؤْيَا كما تحدث لأي إنسان في منامه، ومِن ثَمَّ فليس من شأنها أن تحرِّك ساكنًا.
والذين يُدركون شيئًا من طبيعة القدرة الإلهيَّة لا يستغربون واقعة كهذه؛ لأن تلك القدرة إرادة نافذة، تهون أمامها جميع الأعمال الَّتي تبدو في نظر الإنسان صعبة أو مستحيلة، حسبما اعتاده ورآه، وانطلاقًا من قدراته وطاقاته المحدودة، ولو كان الأمر موافقًا لهذه القدرات لما كان فيه معجزة تشهد لصاحبها بصدقه فيما جاء به؛ فالنُّقلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، والوصول إليه في سرعة تتجاوز الخيال ليست أغرب من الاتصال بالملأ الأعلى وتلقِّي القرآن والرسالة عنه، وقد صدَّقه أبو بكر رضي الله عنه وهو يردُّ المسألة المستغرَبة عند القوم إلى بساطتها وطبيعتها فيقول: «إني لأُصدِّقه بأبعد من ذلك! أُصَدِّقه بخبر السماء».
وقد ذهب قليل من العلماء إلى أنَّ الإسراء والمعراج كانا منامًا، تشبُّثًا بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60]، على أنَّ المراد بها ما رأى ليلة الإسراء، والرؤيا بالقصر ما يُرَى في المنام، وتشبُّثًا ببعض الروايات التي يدلُّ ظاهرها على أنه كان في المنام.
بالروح والجسد
أما جمهور علماء المسلمين فقد جزموا بأن الإسراء كان بالرُّوح والجسد يقظةً لا منامًا، معتمدين على أدلَّة كثيرة منها:
1- أنه ثبت أنَّ قريشًا كذَّبوه في الإسراء واستبعدوا وقوعه، ولو كان منامًا لما كذَّبوه ولا استنكروه؛ لجواز وقوع مثل ذلك وأَبْعَد منه لآحاد الناس.
2- أن التسبيح والتعجُّب في قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1]، إنما يكون في الأمور العظام، ولو كان ذلك منامًا لذكره الله تعالى كما ذكره عن إبراهيم وولده إسماعيل في قصَّة الذبح المعروفة، ولمَا كان له كبير شأن.
3- أن الله تعالى أثبت رؤيا القلب بقوله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11]، ورؤيا العين بقوله: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 17-18]. وأمَّا قولهم أن الرؤيا -بالقصر- مختصٌّ برؤيا المنام، فيمكن ردّ هذا الاستدلال عليهم بأنَّ هذا الاستعمال هنا في رؤيا العين دليل على أنَّ هذا اللفظ ليس خاصًّا بالمنام.
4- قوله تعالى: {بِعَبْدِهِ} يدلُّ على مجموع الروح والجسد.
5- أن التعبير القرآني جاء بلفظ السرى الذي يدلُّ على الستر والخفاء، وجعل هذا الستر والخفاء في مضمون سترٍ آخر هو الليل.
6- أنَّ عمليَّة الإسراء بهذه السرعة ممكنة في نفسها، بدليل أنَّ الرياح كانت تسير بسليمان عليه السلام إلى المواضع البعيدة في الأوقات القليلة، قال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} [الأنبياء:81].
7- أن في قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} تصريحًا بالإسراء، وتوضيحًا في أنه وقع بالفعل للنبي، وليس رؤيا مناميَّة، وإلاَّ لما استحقَّ أن يذكره القرآن الكريم بكلِّ ما يحيطه من تنزيهٍ وتسبيح لله العلي القدير، وأيضًا لما استحقَّ هذا الحادث أن يختص بسورة من القرآن تُسَمَّى باسمه بين دفَّتي المصحف الشريف.
8- أن ما استندوا إليه من ظاهر بعض الروايات، كرواية البخاري: «بينا أنا عند البيت مضطجعًا بين النائم واليقظان...»، و«إذ أتاني...». أو رواية: «بينا أنا نائم...». أن هذه الروايات محمولة على ابتداء الحال، ثم صار إلى اليقظة الكاملة r.
يقول ابن حجر: «وقد اختلف السلف بحسب اختلاف الأخبار الواردة؛ فمنهم من ذهب إلى أن الإسراء والمعراج وقعا في ليلة واحدة في اليقظة بجسد النبي r وروحه بعد المبعث، وإلى هذا ذهب الجمهور من علماء المحدِّثين والفقهاء والمتكلِّمين، وتواردت عليه ظواهر الأخبار الصحيحة، ولا ينبغي العدول عن ذلك؛ إذ ليس في العقل ما يحيله حتى يحتاج إلى تأويل».
القدرة الإلهية
والإسراء والمعراج من المعجزات العظيمة التي جرت في الإسلام، ولنا نحن المسلمين دروس وعبر نستنبطها من تلك المعجزة العظيمة أهمها:
الدرس الأول: الاطلاع على قدرة الله تعالى:
إن القدرة الإلهية التي خلقت هذا الكون الكبير، لن تعجز عن حمل بشر إلى عالم السماء، وإعادته إلى الأرض، في رحلة ربانية معجزة لا يدري كيفيتها بشر؛ فالإسراء: آية من آيات الله تعالى التي لا تُعَدُّ ولا تحصى، وهو انتقال عجيب بالقياس إلى مألوف البشر؛ ولهذا فقد أثار كفار قريش حوله جدلاً طويلاً، وتساؤلات كثيرة. ولا يخفى على كل ذي بصيرة أن الله تعالى واضع نظام هذا الكون وقوانينه، وأن من وضع قوانين التنفس والجاذبية والحركة والانتقال والسرعة وغير ذلك، قادر على استبدالها بغيرها عندما يريد ذلك.
الدرس الثاني: الاطلاع على بدائع صنع الله:
عندما يطلع الإنسان على عظمة الله سبحانه، ويدرك بديع صنعه، وعظيم قدرته، يثق بنفسه ودينه ويطمئن إلى أنه بإيمانه يكون قد لجأ إلى ركن وثيق لا يختار له إلا الأصلح، ولا يريد له إلا الخير، قادر على كل شيء، ومحيط بكل الموجودات.
الدرس الثالث: الإسراء والمعراج معجزة عظيمة من معجزات النبي:
لقد أكرم الله نبيه محمدًا برحلة لم يسبق لبشر أن قام بها، فقد شاهد من آيات ربه ما لا يمكن لبشر أن يراه إلا عن طريق العون الإلهي، ووصل إلى مستوى يسمع فيه كلام الله تعالى الأزلي الأبدي الذي لا يشبه كلام البشر، فقد منحه الله في هذه الرحلة عطاءً روحيًّا عظيمًا؛ تثبيتًا لفؤاده، ليتمكن من إتمام مسيرته في دعوة الناس إلى طريق الحق والهداية.
الدرس الرابع: التأييد الإلهي:
في صباح تلك الليلة المباركة أخبر الرسول أم هانئ بما حدث له في هذه الليلة، فتوجهت إليه بالرجاء أن لا يحدِّث بذلك أحدًا؛ حرصًا عليه أن تناله ألسنة أهل مكة بسوء، وهي تعلم عنادهم، وأنهم لن يتركوا فرصة للتشهير به إلا انتهزوها. ولكن رسول الله أَبَى إلا أن يصدع بالحق؛ لأنه صاحب دعوة ومأمور بالتبليغ، وليس من طبيعة دعوة الحق أن ترضى بالحصار أو تستكين للتعتيم عليها.
ولما أخبر الرسول قومه بخبر الإسراء، كذَّبوه وشككوا في قوله، وتحدوه أن يثبت صدقه إن كان صادقًا، وراحوا يسألونه: صِفْ لنا بيت المقدس. قال : «دخلت فيه ليلاً وخرجت منه ليلاً». وحينئذٍ أتاه جبريل بصورته، فجعل ينظر إليه ويخبرهم؛ فعن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله يقول: «لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ قُمْتُ فِي الْحِجْرِ فَجَلاَ اللَّهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ». وهذا أبلغ في المعجزة ولا استحالة فيه، فقد أُحضر عرش بلقيس في طرفة عين لسليمان وهو يقتضي أنه أزيل من مكانه حتى أُحضر إليه، وما ذاك في قدرة الله بعزيز.
الركن الثاني
الدرس الخامس: فضل وأهمية الصلاة:
لقد فرضت الصلاة من بين أركان الإسلام في السماء السابعة، فأصبحت الركن الثاني من أركان الإسلام، وفي هذا دليل على أهمية هذه الرحلة العظيمة وأهمية الصلاة، وعظمها في الإسلام؛ ولذلك شدّد الإسلام عليها كل التشديد، وأمر بالقيام بها في السفر والحضر، والأمن والخوف، والصحة والمرض، وأصبحت قُرَّة عين النبي ؛ فعن أنس قال: قال رسول الله : «... وجُعِل قُرَّة عيني في الصلاة». وكان إذا حزبه أمر قام إلى الصلاة، فعن حذيفة قال: «كان النبي إذا حزبه أمر صَلَّى».
وكتب عمر بن الخطاب إلى عُمَّاله فقال: «إن أهم أمركم عندي الصلاة، فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيَّعها فهو لما سواها أضيع». وفي هذا حض على الاهتمام بأمر الصلاة وتخصيصها بمزية من المراعاة؛ لأنها إن قُبلت منه نُظر في سائر أعماله ونفعه ما عمل من غير ذلك من أعمال البر، وإن لم تُقبل لم ينفعه شيء من عمله ولم يُنظر له فيه.
الدرس السادس: فضل ومكانة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم:
حيث صعد به رب العزة والجلالة إلى مكان عظيم لم يبلغه أحد من البشر قبله، حيث عرج به إلى السموات السبع، وتخطاهن حتى وصل إلى سدرة المنتهى، وكلَّمه رب العزة والجلالة.
الدرس السابع: شجاعة الرسول صلى الله عليه وسلم:
ويتضح ذلك عندما أخبر قريشا أنه أُسري به إلى بيت المقدس وعاد في نفس الليلة، ولم يتأخر ولم يتردد مع علمه بعناد كفار قريش، وعدم تصديقه في هذا الأمر العظيم حيث لا يمكن تخيل أن يتمكن بشر من الذهاب إلى بيت المقدس والعودة في نفس الليلة فيما كانوا يستغرقون في هذه الرحلة شهرين؛ شهرًا في الذهاب وشهرًا للعودة.
كلمة الله الأخيرة
الدرس الثامن: عموم رسالته صلى الله عليه وسلم:
لقد ثبت في الروايات المتعددة أن رسول الله صلى بالأنبياء إمامًا في بيت المقدس في ليلة الإسراء والمعراج، وفي هذا دلالات منها أن الإسلام هو كلمة الله الأخيرة إلى خلقه، ودليل على عالمية الإسلام، وعموم رسالة محمد، وأنه حامل لواء الهداية للخلق جميعًا، تحمَّلها سيدنا رسول الله بأمانة وقوة، وقام بحقها على خير وجه، ثم ورَّثها لأمته من بعده، وبذلك أصبحت خير أمة أخرجت للناس، ومسئولة عن إقامة حُجَّة الله على خلقه جميعًا، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].
الدرس التاسع: الاستفادة من الخبرات السابقة:
ويتضح لنا ذلك من خلال استجابة سيدنا رسول الله لنبي الله موسى بالمراجعة في أمر الصلوات: «... وَإِنِّي وَاللَّهِ قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ، وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لأُمَّتِكَ. فَرَجَعْتُ».
الدرس العاشر: الإسلام دين الهداية والفطرة:
من أحداث تلك الليلة المباركة أن رسول الله قد اختار إناء اللبن وشرب منه، جاء في الحديث أن جبريل قال له عندما أخذ اللبن: «هُدِيتَ الْفِطْرَةَ، أَوْ أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ». قال القرطبي: يحتمل أن يكون سبب تسمية اللبن فطرة؛ لأنه أول شيء يدخل بطن المولود ويشق أمعاءه، والسر في ميل النبي إليه دون غيره؛ لكونه كان مألوفًا له، ولأنه لا ينشأ عن جنسه مفسدة. وفي رواية: «هِيَ الْفِطْرَةُ الَّتِي أَنْتَ عَلَيْهَا وَأُمَّتُكَ».
إن سلامة الفطرة هي لب الإسلام؛ لأن عقيدته وشريعته وأحكامه كلها تتناسب مع مقتضيات الفطرة التي خلق الله الناس عليها، قبل أن تدنسها الشهوات والأطماع والأغراض الذاتية، وقد وصف الله هذا الدين بأنه دين الفطرة في قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [الروم: 30].
الدرس الحادي عشر: تعليم سيدنا محمد بالمشاهدة والنظر:
وذلك ليكون درسًا عمليًّا يتعلم فيه الرسول بالمشاهدة والنظر، ولقد كفل له ربه ذلك بما أراه من آياته الكبرى، وما أطلعه عليه من مشاهدة تلك العوالم التي لا تصل أذهاننا إلى إدراك كنهها إلا بضرب من التخيُّل، فأنَّى لنا أن نصل إلى ذلك وقد حُبس عنا الكثير من العلم، وما أوتينا منه إلا قليلاً، قال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء: 85]. والله قد أعطى كل نوع من مخلوقاته علومًا تتوافق مع استعداده وفطرته، ومهمته في هذا الكون.
الدرس الثاني عشر: أصل الدين واحد هو التوحيد:
إن أنبياء الله ورسله بعثهم الله إلى خلقه ليعرفوهم بالله، وكيف يعبدونه؛ ليُعلموهم أن الله وحده هو المستحق للعبادة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]. وهذا يعني أن رسالة الأنبياء واحدة، وأنهم جميعًا إخوة، وقد أكَّد رسول الله هذه الحقيقة في مناسبات عدة، منها: قوله عن نبي الله يونس «أخي كان نبيًّا، وأنا نبي».
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : «أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَالأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلاَّتٍ، أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى، وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ». والعَلات بفتح المهملة: الضرائر. وأصله أن من تزوج امرأة ثم تزوج أخرى كأنه عَلَّ منها. والعلل: الشُّرب بعد الشرب. وأولاد العلات: الإخوة من الأب. أي أن شرائعهم متعددة، وأصل الدين واحد هو التوحيد. وجاءت ليلة الإسراء والمعراج تؤكد المعنى السابق، فوجدنا أن العبارة التي رددها الأنبياء عليهم السلام ترحيبًا بسيدنا محمد حين استقبلوه في السموات العُلا هي: «مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ».
موقف أهل مكة
بعد رحلة الإسراء والمعراج العطرة، أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكشف لأهل مكة جميعًا ما كان له؛ فقد روى ابن عبَّاسٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَمَّا كَانَ لَيْلَةُ أُسْرِيَ بِي وَأَصْبَحْتُ بِمَكَّةَ فَظِعْتُ بِأَمْرِي، وَعَرَفْتُ أَنَّ النَّاسَ مُكَذِّبِيَّ». فَقَعَدَ مُعْتَزِلاً حَزِينًا، قَالَ: فَمَرَّ عَدُوُّ اللَّهِ أَبُو جَهْلٍ، فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ كَالْمُسْتَهْزِئِ: هَلْ كَانَ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «نَعَمْ». قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: «إِنَّهُ أُسْرِيَ بِي اللَّيْلَةَ». قَالَ: إِلَى أَيْنَ؟ قَال: «إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ». قَالَ: ثُمَّ أَصْبَحْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا؟ قَالَ: «نَعَمْ». قَالَ: فَلَمْ يَرَ أَنَّهُ يُكَذِّبُهُ مَخَافَةَ أَنْ يَجْحَدَهُ الْحَدِيثَ إِذَا دَعَا قَوْمَهُ إِلَيْهِ، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ دَعَوْتُ قَوْمَكَ تُحَدِّثهُمْ مَا حَدَّثْتَنِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «نَعَمْ». فَقَالَ: هَيَا يَا مَعْشَرَ بني كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ. حَتَّى قَالَ: فَانْتَفَضَتْ إِلَيْهِ الْمَجَالِسُ وَجَاءُوا حَتَّى جَلَسُوا إِلَيْهِمَا. قَالَ: حَدِّثْ قَوْمَكَ بِمَا حَدَّثْتَنِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي أُسْرِيَ بِي اللَّيْلَةَ». قَالُوا: إِلَى أَيْنَ؟ قُلْتُ: «إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ». قَالُوا: ثُمَّ أَصْبَحْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا؟ قَالَ: «نَعَمْ». قَالَ: فَمِنْ بَيْنِ مُصَفِّقٍ وَمِنْ بَيْنِ وَاضِعٍ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مُتَعَجِّبًا لِلْكَذِبِ زَعَمَ قَالُوا: وَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَنْعَتَ لَنَا الْمَسْجِدَ؟ وَفِي الْقَوْمِ مَنْ قَدْ سَافَرَ إِلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ وَرَأَى الْمَسْجِدَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «فَذَهَبْتُ أَنْعَتُ، فَمَا زِلْتُ أَنْعَتُ حَتَّى الْتَبَسَ عَلَيَّ بَعْضُ النَّعْتِ - قَالَ - فَجِيءَ بِالْمَسْجِدِ وَأَنَا أَنْظُرُ، حَتَّى وُضِعَ دُونَ دَارِ عِقَالٍ أَوْ عَقِيلٍ، فَنَعَتُّهُ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ». قَالَ: وَكَانَ مَعَ هَذَا نَعْتٌ لَمْ أَحْفَظْهُ. قَالَ: فَقَالَ الْقَوْمُ: أَمَّا النَّعْتُ فَوَاللَّهِ لَقَدْ أَصَابَ.
وهذه الحادثة معجزة أخرى؛ فقد أراه الله تعالى المسجد الأقصى أمامه، ينعته لأهل مكة، يصف أبوابه ومخارجه، وصفًا يحيِّر السامعين له، ويُؤَكِّد لمن أتى مشكِّكًا في نبوَّته أنه نبي مُرْسَل من قِبَلِ الله، وكان موقفُ صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ثابتًا راسخًا في قرارة أنفسهم.
ومن أعظم المواقف التي دلَّت على رسوخ اليقين عند أبي بكر رضي الله عنه ما ذكره ابن المسيب، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انتهى إلى بيت المقدس لقي فيه إبراهيم، وموسى، وعيسى عليهم السلام، وأنه أُتِيَ بقدحين: قدح لبن، وقدح خمر، فنظر إليهما، ثم أخذ قدح اللبن، فقال له جبريل: «هُدِيتَ الفطرة، لو أخذتَ الخمر لَغَوَتْ أُمَّتُكَ». ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة فأَخْبَر أنه أُسْرِيَ به، فافتُتِنَ ناس كثير كانوا قد صلَّوْا معه. قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: فتجهَّز ناس من قريش إلى أبي بكر، فقالوا له: هل لك في صاحبك، يزعم أنه قد جاء بيت المقدس ثم رجع إلى مكة في ليلة واحدة؟!
فقال أبو بكر: أَوَ قَالَ ذلك؟
قالوا: نعم.
قال: فأَشْهَدُ لئن كان قال ذلك لقد صدق.
قالوا: فتُصَدِّقه بأن يأتي الشام في ليلة واحدة، ثم يرجع إلى مكة قبل أن يصبح؟!
قال: نعم، إني أُصَدِّقه بأبعد من ذلك! أصدِّقه بخبر السماء. قال أبو سلمة: فبها سُمِّيَ أبو بكر الصِّدِّيقَ.
الأمة صاحبة الميراث
أكدت رحلة الإسراء والمعراج أن أمة الإسلام هي صاحبة الميراث لرسالة الرسل والأقصى الشريف، فلقد كانت محطة الإسراء النهائية إلى بيت المقدس، وأول المعراج من بيت المقدس، وصلى النبي بالأنبياء جميعًا إمامًا؛ كي يؤسس على هذا التوافق بين الأديان السماوية، وتبعية الرسالات السماوية لرسالة واحدة هي رسالة الإسلام، وبخاصة ما جاء به سيدنا عيسى وموسى وغيرهم عليهم الصلاة والسلام. وصار المسجد الأقصى بهذا أولى القبلتين، وميراث المسلمين، وظل سيدنا عمر حافظًا لدرس الإسراء والمعراج، وللعهد بالصلاة ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا، كما جاء في حديث البخاري بسنده عن البراء بن عازب، حتى أرسل خالد بن الوليد وأبا عبيدة بن الجراح وفتحت فلسطين والشام، وذهب بنفسه لاستلام مفاتيح القدس، ولم يذهب إلى بلد خارج الجزيرة غيرها، وأعطى من صور السماحة مع الأديان الأخرى ما بقي موضع ذكر من كل منصف..
وعاش غير المسلمين في ظل حكم الإسلام يمارسون شعائرهم، وتحترم دور عبادتهم، ويشاركون المسلمين في إدارة البلاد، دون أية حساسية حتى جاء الصليبيون يحملون حقدًا وغلاًّ، وتحركهم أهواء سياسية وشائعات كاذبة أن المسلمين هدموا قبر المسيح، وهي أكذوبة روَّجها البابا أوربان الثاني والساسة والقساوسة؛ لتحريك الجموع العمياء عن الحقيقة، وقتلوا وسفكوا وهتكوا وخاضوا في الدماء، وأمعنوا في الخراب بحقدٍ لا مثيل له، لكن صلاح الدين لما واجههم لظلمهم، وقاومهم لفسادهم، وقاتلهم لبغيهم قابلهم بسماحة الإسلام في التعامل مع الأسرى.
وها هي الأستاذة زيجريد هونكه المؤرخة الألمانية تروي في كتابها (الله ليس كذلك) ص25 على لسان أحد الألمان الذين شاركوا في الحروب الصليبية وهو «أوليفروس» حيث كتب عن معاملة صلاح الدين لهم فقال: «منذ تقادم العهود، لم يسمع المرء بمثل هذا الترفق والجود، خاصة إزاء أسرى العدو اللدود، ولما شاء الله أن نكون أسراك، لم نعرفك مستبدًّا طاغية، ولا سيدًا داهية، وإنما عرفناك أبًا رحيمًا شملنا بالإحسان والطيبات، وعونًا منقذًا في كل النوائب والملمات. ومن ذا الذي يمكن أن يشك لحظة في أن مثل هذا الجود والتسامح والرحمة من عند الله.. إن الرجال الذين قتلنا آباءهم وأبناءهم وبناتهم وإخوانهم وأخواتهم وأذقناهم من العذاب، لما غدونا أسراهم وكدنا نموت جوعًا، راحوا يؤثروننا على أنفسهم على ما بهم من خصاصة، وأسدوا إلينا ما استطاعوا من إحسان، بينما كنا تحت رحمتهم لا حول لنا ولا سلطان»!!
واليوم دنَّس الصهاينة الأقصى أرض القدس وفلسطين، وشردوا خمسة ملايين فلسطيني، وقتلوا الأطفال والنساء والشيوخ، واقتلعوا أشجار الزيتون، وهدموا البيوت وعاثوا في القدس فسادًا. ولا بد لكل مسلم أن يستشعر مسئوليته أمام الله -تعالى- عن رد البغاة، وطرد المعتدين، ولا سبيل لهذا إلا الجهاد المقدس لتحرير الأقصى الذي نتلو ذكره في آيات القرآن، ونعيش هموم الشعب الفلسطيني الذي يضحي كل عام بما يزيد عن ألف شهيد وأربعين ألف جريح، وهم عزل ماديًّا الأقوى روحيًّا، أمام طغمة من بني صهيون بدباباتهم ورشاشاتهم وطائراتهم وجرافاتهم لكنهم الأضعف قلبًا، والأبعد عن الله تعالى وعن أي دين.
تلك مسئوليتنا أمام رب الأرض والسماء، وأمام التاريخ والأجيال، أمام القيم الإنسانية. والحق أن النصوص تؤكد أنه لا يمكن أن يتم ذلك إلا على أيدي المسلمين الصادقين، الذين يبذلون كل غالٍ ورخيص لحماية العرض، وتحرير الأرض من الغزاة المحتلين.
أرقى صور السرعة
الإسراء والمعراج مثال لأحدث وأرقى صور السرعة في الاتصالات والمواصلات والفضائيات،
ففي عصر الجمل سفينة الصحراء كانت رحلة الإسراء والمعراج في سرعة فائقة في الزمان والمكان، حتى عاد الحبيب منها دون أن يبرد فراشه، كما روى البخاري بسنده عن أم هانئ رضي الله عنها. في هذا العصر قطعت المسافة من المدينة إلى المسجد الأقصى في ثوانٍ، ومن الأقصى إلى السموات العُلا في ثوان، وكانت العودة الحميدة، وإذاعة أنباء الرحلة في الصباح، ولم يكن أحدٌ يصدق إلا من آمن بالمعجزة الإلهية، والوحي الرباني، والقدرة التي لا يحدها شيء.
لكن أراد الله -تعالى- في هذا الزمن البدائي أن تكون معجزة النبي أبد الدهر أسبق من كل تكنولوجيا الاتصالات والفضائيات، فسألوه عن صفات المسجد الأقصى، وهم يعلمون أنه ما ذهب إليه في تاريخه قبل البعثة، فتجلى الأقصى مكانًا وشمالاً وجنوبًا وشرقًا وغربًا في شاشة لا يراها إلا النبي، وبُهِت الجميع لهذا الوصف الدقيق.
أليس هذا درسًا للذين ارتموا على أرجل الرجل الأبيض الذي أنشأ الفضائيات وطور الاتصالات؟ نحن -يا قومي- أصحاب سبق، لا تبهرنا الصور والأشكال، نحن ذوو عمق في النظر إلى الجوهر إلى الروح، إلى القيم والأخلاق، سواء كان الإنسان يركب حمارًا أو جملاً أو صاروخًا فضائيًّا، سواء كان فقيرًا أو غنيًّا.
هكذا المؤمن لا يبهر إلا بالحقائق، وهي وحدها في مكنون القرآن وصحيح السنن، وصريح العقول الراشدة، والحضارة المقترنة بالقيم الإنسانية، والأخلاق الإسلامية. ومن الضروري أن نراجع أنفسنا في تخلفنا عن السبق العلمي في المواصلات والاتصالات والفضائيات؛ فحيث كان يجب أن نكون الأسبق في العالم لهذه الاختراعات العلمية من فيض الآيات والأحاديث النبوية والوقائع التاريخية مثل الإسراء والمعراج، بل ومساهمات الحضارة الإسلامية في عصور الازدهار.. لكنا تأخرنا، فإذا توفرت إرادة إسلامية، وعزيمة إيمانية تستطيع أن نستوعب آخر الاكتشافات العلمية، وأن نضيف عليها إضافات جادَّة وفعليًّة، ونعطي للعالم مثالاً جديدًا على توافق الإسلام مع الحقائق العلمية التي تفيد كل الإنسانية.
الصلاة هدية الأمة
كانت الصلاة هي هدية الإسراء والمعراج إلى الأمة الإسلامية كمنهاج حياة، فلقد دنا النبي من ربه واقترب، ورأى من آيات ربه الكبرى، وقد علم الله حب نبيه لأمته، فأراد ألا يحرم كل مؤمن ومؤمنة من إسراء ومعراج، ففرضت الصلاة قبلتها الأولى إلى بيت المقدس حيث صلى بالأنبياء والرسل أجمعين، ثم معراج الروح لكل مصلٍّ إلى رب الأرض والسماء في كل سجدة، كما قال سبحانه: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19]. ولما رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ الله قَالَ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ».
وصارت الصلاة منهاج حياة تصنع المسلمين في أحسن صياغة، فيبادرون الطفل في أول لحظة من حياته بالأذان والإقامة ريثما يميز فيُعلَّم الصلاة ثم يؤمر بها، ثم يكلف بأدائها عند البلوغ، وتبقى عبادة يومية خمس مرات، وعشرات المرات لمن تطوع، فهي أول ما يبدأ به يومه في صلاة الفجر المشهودة، وآخر ما يختم به يومه في صلاة الوتر المحبوبة، وبينهما صلوات بين الفرض والنافلة، فإذا حزبه أمر صلى، وإذا تحيَّر في أمرٍ صلى صلاة الاستخارة، وإذا أذنب صلى ركعتين تغسلان ذنبه وترفعان وزره، وإذا خسفت الشمس أو كسف القمر صلى، وإذا أجدبت السماء صلى، وإذا بُشِّر بالخير سجد شكرًا وذكرًا لله تعالى، وإذا وافته المنية وقدم على ربه كان آخر عهده بالدنيا صلاة الجنازة.
فهي منهج حياة من الميلاد إلى ما بعد الممات، وهي النور في القبر والحشر، وأول ما يُحاسب عنه العبد يوم القيامة، وأول مفاتيح الجنة بعد رحمة الله.
هكذا رحلة الإسراء والمعراج لم تكن نزهة بل معجزة، ولم تكن خاصة بالنبي بل ترسم منهاج حياة لمن أراد النجاة، ووهب حياته كلها لدعوة الله.
هل الإسراء والمعراج معجزة؟
المعجزة -كما هو معروف- هي أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدِّي، سالم عن المعارضة، يَظْهَر على يد مدعي النبوَّة موافقًا لدعواه، وكانت تُطلَب من الرسول برهانًا ودليلاً على صدقه، «باعتبار أن الشواهد المادِّيَّة والمعنويَّة الخارقة للمعتاد المألوف في قوانين الكون وأنظمته تضع الباحث عن الحقِّ أمام البرهان الواضح الدالِّ على صدق الرسول في دعواه الرسالة؛ ذلك لأن الذين يتحدَّاهم الرسول بالمعجزة لا يستطيعون الإتيان بمثلها منفردين أو مجتمعين، في حدود قدراتهم الممنوحة لهم بحسب مستواهم».
ومعنى ذلك أنَّ المعجزة يُجْرِيها الله عز وجل على يد الرسول تأييدًا له، وأنَّ الرسول يتحدَّى قومه بهذه المعجزة؛ ليتأكَّدوا أنها من قِبَلِ الله عز وجل، ومن ثَمَّ يتأكَّدون من صدقه، وأنه مؤيَّد من السماء، وذلك بعد أنْ يَظْهَرَ لهم عجزهم عن الإتيان بمثلها، كما هو الحال مع معجزة القرآن الكريم.
وعلى ضوء هذا يمكن تفسير حادث الإسراء والمعراج؛ «فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يتحدَّ أحدًا بهذه الرحلة، ولم يطلب من المشركين أنْ يُعَارِضُوه فيأتوا بمثلها، ولذلك إذا قلنا: إنها معجزة. فإننا نقول ذلك على سبيل المجاز؛ فهي أمر خارق للعادة، ولكنه لم يكن للتحدِّي، ولم يرَهُ الناس بأعينهم حتى يؤمنوا به كإحدى معجزات النبوَّة، وإنما كان تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، واختبارًا للمسلمين المقبلين على مراحل أخرى من الجهاد يَعْلَمُها الله؛ كالهجرة وما بعدها من بناء دولة الإسلام الثابت الدعائم، القويِّ الأركان».
أمَّا الإسراء فهي تلك الرحلة الأرضيَّة وذلك الانتقال العجيب، بالقياس إلى مألوف البشر، الذي تمَّ بقُدْرَة الله عز وجل من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، والوصول إليه في سرعة تتجاوز الخيال، يقول تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء:1].
وأمَّا المعراج فهو الرحلة السماويَّة والارتفاع والارتقاء من عالم الأرض إلى عالم السماء، حيث سدرة المنتهى، ثم الرجوع بعد ذلك إلى المسجد الحرام، يقول تعالى: {وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:13-18].
وقد حدثت هاتان الرحلتان في ليلة واحدة، وكان زمنها قبل الهجرة بسَنَةٍ. على أنه أُثِيرَ حول الإسراء والمعراج جدل طويل وتساؤلات عِدَّة، فيما إذا كانت قد تمَّت هذه الرحلة بالرُّوح والجسد، أم بالروح فقط؟ ومتى وكيف تمَّت؟
ويمكن القول بأن الحكمة من رحلة الإسراء والمعراج تتلخص في أمور أولها : توالت على رسول الله قبيل حادثة الإسراء والمعراج الحوادث والأزمات الكثيرة، فإلى جانب ما كان يلاقيه من عنتٍ وعذاب الكفار له وتصديهم لدعوته وإنزال الأذى والضرر به وبمن تبعوه، فَقَد نصيرًا وظهيرًا له هو عمه أبو طالب، وكذلك فَقَد شريكة حياته وحامية ظهره السيدة خديجة التي كانت له السند والعون على تحمُّل الصعاب والمشقات في سبيل تبليغ دعوته السامية، فكلاهما مات قبيل حادثة الإسراء والمعراج؛ ولذا سمي هذا العام «عام الحزن». ومن هنا كان إنعام الله على عبده ورسوله محمد بهذه المعجزة العظيمة؛ تطييبًا لخاطره وتسرية له عن أحزانه وآلامه... ثم ليشهد فيها من عجائب المخلوقات وغرائب المشاهد.
وثانيًا: لما كان الإسراء وكذلك المعراج خرقًا لأمور طبيعيَّة ألفها الناس، فقد كانوا يذهبون من مكة إلى الشام في شهر ويعودون في شهر، لكنه -أي: رسول الله ذهب وعاد وعرج به إلى السموات العلا، وكل هذا وذاك في جزء من الليل فكان هذا شيئًا مذهلاً، أي أنه كان امتحانًا واختبارًا للناس جميعًا، وخاصة الذين آمنوا بالرسالة الجديدة، فصدَّق أقوياء الإيمان وكذَّب ضعاف الإيمان. وهكذا تكون صفوف المسلمين نظيفة، ويكون المسلمون الذين يُعِدُّهم الله للهجرة أشخاصًا أتقياء أقوياء، لهم عزائم متينة وإرادة صلبة؛ لأن الهجرة تحتاج لأناس تتوفر لديهم هذه الصفات.
وثالثا: لقد كان الصعود من بيت المقدس ولم يكن من مكة، ذا دلالات، إحداها الأمر بنشر الإسلام وتوسعة إطاره؛ وذلك لأنه الدين الخاتم الشامل الجامع الذي ارتضاه الله للناس كافة على اختلاف أجناسهم، وألوانهم، وشعوبهم، ولغاتهم.
أما رابعًا: فيعتبر فرض الصلاة بهيئتها المعروفة وعددها وأوقاتها اليوميَّة المعروفة على المسلمين في رحلة المعراج دليلاً على أن الصلاة صلة بين العبد وربه، وهي معراجه الذي يعرج عليه إلى الله بروحه، وأنها الوقت الذي يناجي العبد فيه ربه، ويبث إليه ما يرنو إليه. فالصلاة إذن عماد الدين؛ من تركها وأهملها فكأنه هدم دينه وأضاعه. وفيما يلي من سطور لنا وقفة مع الدروس والعبر المستفادة من رحلة الإسراء والمعراج وبعض ما يتعلق بها من أحداث... فتابع معنا،،،
هناك سؤال مهم يفرض نفسه حول حقيقة الإسراء والمعراج، هل كان الإسراء بالرُّوح والجسد، أم كان بالرُّوح فقط؟
المتَّفَقُ عليه لدى جمهور العلماء أنَّ الإسراء تمَّ بالروح والجسد معًا؛ لأنه لو كان بالروح فقط لما أحدث خلافًا، ولمَا كان هناك داعٍ لكُلِّ الضجَّة التي أحدثها بين القوم يومذاك، وكلُّ ما هنالك حينذاك -أي لو كان بالرُّوح فقط- أن يكون مجرَّدَ رُؤْيَا كما تحدث لأي إنسان في منامه، ومِن ثَمَّ فليس من شأنها أن تحرِّك ساكنًا.
والذين يُدركون شيئًا من طبيعة القدرة الإلهيَّة لا يستغربون واقعة كهذه؛ لأن تلك القدرة إرادة نافذة، تهون أمامها جميع الأعمال الَّتي تبدو في نظر الإنسان صعبة أو مستحيلة، حسبما اعتاده ورآه، وانطلاقًا من قدراته وطاقاته المحدودة، ولو كان الأمر موافقًا لهذه القدرات لما كان فيه معجزة تشهد لصاحبها بصدقه فيما جاء به؛ فالنُّقلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، والوصول إليه في سرعة تتجاوز الخيال ليست أغرب من الاتصال بالملأ الأعلى وتلقِّي القرآن والرسالة عنه، وقد صدَّقه أبو بكر رضي الله عنه وهو يردُّ المسألة المستغرَبة عند القوم إلى بساطتها وطبيعتها فيقول: «إني لأُصدِّقه بأبعد من ذلك! أُصَدِّقه بخبر السماء».
وقد ذهب قليل من العلماء إلى أنَّ الإسراء والمعراج كانا منامًا، تشبُّثًا بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60]، على أنَّ المراد بها ما رأى ليلة الإسراء، والرؤيا بالقصر ما يُرَى في المنام، وتشبُّثًا ببعض الروايات التي يدلُّ ظاهرها على أنه كان في المنام.
بالروح والجسد
أما جمهور علماء المسلمين فقد جزموا بأن الإسراء كان بالرُّوح والجسد يقظةً لا منامًا، معتمدين على أدلَّة كثيرة منها:
1- أنه ثبت أنَّ قريشًا كذَّبوه في الإسراء واستبعدوا وقوعه، ولو كان منامًا لما كذَّبوه ولا استنكروه؛ لجواز وقوع مثل ذلك وأَبْعَد منه لآحاد الناس.
2- أن التسبيح والتعجُّب في قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1]، إنما يكون في الأمور العظام، ولو كان ذلك منامًا لذكره الله تعالى كما ذكره عن إبراهيم وولده إسماعيل في قصَّة الذبح المعروفة، ولمَا كان له كبير شأن.
3- أن الله تعالى أثبت رؤيا القلب بقوله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11]، ورؤيا العين بقوله: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 17-18]. وأمَّا قولهم أن الرؤيا -بالقصر- مختصٌّ برؤيا المنام، فيمكن ردّ هذا الاستدلال عليهم بأنَّ هذا الاستعمال هنا في رؤيا العين دليل على أنَّ هذا اللفظ ليس خاصًّا بالمنام.
4- قوله تعالى: {بِعَبْدِهِ} يدلُّ على مجموع الروح والجسد.
5- أن التعبير القرآني جاء بلفظ السرى الذي يدلُّ على الستر والخفاء، وجعل هذا الستر والخفاء في مضمون سترٍ آخر هو الليل.
6- أنَّ عمليَّة الإسراء بهذه السرعة ممكنة في نفسها، بدليل أنَّ الرياح كانت تسير بسليمان عليه السلام إلى المواضع البعيدة في الأوقات القليلة، قال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} [الأنبياء:81].
7- أن في قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} تصريحًا بالإسراء، وتوضيحًا في أنه وقع بالفعل للنبي، وليس رؤيا مناميَّة، وإلاَّ لما استحقَّ أن يذكره القرآن الكريم بكلِّ ما يحيطه من تنزيهٍ وتسبيح لله العلي القدير، وأيضًا لما استحقَّ هذا الحادث أن يختص بسورة من القرآن تُسَمَّى باسمه بين دفَّتي المصحف الشريف.
8- أن ما استندوا إليه من ظاهر بعض الروايات، كرواية البخاري: «بينا أنا عند البيت مضطجعًا بين النائم واليقظان...»، و«إذ أتاني...». أو رواية: «بينا أنا نائم...». أن هذه الروايات محمولة على ابتداء الحال، ثم صار إلى اليقظة الكاملة r.
يقول ابن حجر: «وقد اختلف السلف بحسب اختلاف الأخبار الواردة؛ فمنهم من ذهب إلى أن الإسراء والمعراج وقعا في ليلة واحدة في اليقظة بجسد النبي r وروحه بعد المبعث، وإلى هذا ذهب الجمهور من علماء المحدِّثين والفقهاء والمتكلِّمين، وتواردت عليه ظواهر الأخبار الصحيحة، ولا ينبغي العدول عن ذلك؛ إذ ليس في العقل ما يحيله حتى يحتاج إلى تأويل».
القدرة الإلهية
والإسراء والمعراج من المعجزات العظيمة التي جرت في الإسلام، ولنا نحن المسلمين دروس وعبر نستنبطها من تلك المعجزة العظيمة أهمها:
الدرس الأول: الاطلاع على قدرة الله تعالى:
إن القدرة الإلهية التي خلقت هذا الكون الكبير، لن تعجز عن حمل بشر إلى عالم السماء، وإعادته إلى الأرض، في رحلة ربانية معجزة لا يدري كيفيتها بشر؛ فالإسراء: آية من آيات الله تعالى التي لا تُعَدُّ ولا تحصى، وهو انتقال عجيب بالقياس إلى مألوف البشر؛ ولهذا فقد أثار كفار قريش حوله جدلاً طويلاً، وتساؤلات كثيرة. ولا يخفى على كل ذي بصيرة أن الله تعالى واضع نظام هذا الكون وقوانينه، وأن من وضع قوانين التنفس والجاذبية والحركة والانتقال والسرعة وغير ذلك، قادر على استبدالها بغيرها عندما يريد ذلك.
الدرس الثاني: الاطلاع على بدائع صنع الله:
عندما يطلع الإنسان على عظمة الله سبحانه، ويدرك بديع صنعه، وعظيم قدرته، يثق بنفسه ودينه ويطمئن إلى أنه بإيمانه يكون قد لجأ إلى ركن وثيق لا يختار له إلا الأصلح، ولا يريد له إلا الخير، قادر على كل شيء، ومحيط بكل الموجودات.
الدرس الثالث: الإسراء والمعراج معجزة عظيمة من معجزات النبي:
لقد أكرم الله نبيه محمدًا برحلة لم يسبق لبشر أن قام بها، فقد شاهد من آيات ربه ما لا يمكن لبشر أن يراه إلا عن طريق العون الإلهي، ووصل إلى مستوى يسمع فيه كلام الله تعالى الأزلي الأبدي الذي لا يشبه كلام البشر، فقد منحه الله في هذه الرحلة عطاءً روحيًّا عظيمًا؛ تثبيتًا لفؤاده، ليتمكن من إتمام مسيرته في دعوة الناس إلى طريق الحق والهداية.
الدرس الرابع: التأييد الإلهي:
في صباح تلك الليلة المباركة أخبر الرسول أم هانئ بما حدث له في هذه الليلة، فتوجهت إليه بالرجاء أن لا يحدِّث بذلك أحدًا؛ حرصًا عليه أن تناله ألسنة أهل مكة بسوء، وهي تعلم عنادهم، وأنهم لن يتركوا فرصة للتشهير به إلا انتهزوها. ولكن رسول الله أَبَى إلا أن يصدع بالحق؛ لأنه صاحب دعوة ومأمور بالتبليغ، وليس من طبيعة دعوة الحق أن ترضى بالحصار أو تستكين للتعتيم عليها.
ولما أخبر الرسول قومه بخبر الإسراء، كذَّبوه وشككوا في قوله، وتحدوه أن يثبت صدقه إن كان صادقًا، وراحوا يسألونه: صِفْ لنا بيت المقدس. قال : «دخلت فيه ليلاً وخرجت منه ليلاً». وحينئذٍ أتاه جبريل بصورته، فجعل ينظر إليه ويخبرهم؛ فعن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله يقول: «لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ قُمْتُ فِي الْحِجْرِ فَجَلاَ اللَّهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ». وهذا أبلغ في المعجزة ولا استحالة فيه، فقد أُحضر عرش بلقيس في طرفة عين لسليمان وهو يقتضي أنه أزيل من مكانه حتى أُحضر إليه، وما ذاك في قدرة الله بعزيز.
الركن الثاني
الدرس الخامس: فضل وأهمية الصلاة:
لقد فرضت الصلاة من بين أركان الإسلام في السماء السابعة، فأصبحت الركن الثاني من أركان الإسلام، وفي هذا دليل على أهمية هذه الرحلة العظيمة وأهمية الصلاة، وعظمها في الإسلام؛ ولذلك شدّد الإسلام عليها كل التشديد، وأمر بالقيام بها في السفر والحضر، والأمن والخوف، والصحة والمرض، وأصبحت قُرَّة عين النبي ؛ فعن أنس قال: قال رسول الله : «... وجُعِل قُرَّة عيني في الصلاة». وكان إذا حزبه أمر قام إلى الصلاة، فعن حذيفة قال: «كان النبي إذا حزبه أمر صَلَّى».
وكتب عمر بن الخطاب إلى عُمَّاله فقال: «إن أهم أمركم عندي الصلاة، فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيَّعها فهو لما سواها أضيع». وفي هذا حض على الاهتمام بأمر الصلاة وتخصيصها بمزية من المراعاة؛ لأنها إن قُبلت منه نُظر في سائر أعماله ونفعه ما عمل من غير ذلك من أعمال البر، وإن لم تُقبل لم ينفعه شيء من عمله ولم يُنظر له فيه.
الدرس السادس: فضل ومكانة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم:
حيث صعد به رب العزة والجلالة إلى مكان عظيم لم يبلغه أحد من البشر قبله، حيث عرج به إلى السموات السبع، وتخطاهن حتى وصل إلى سدرة المنتهى، وكلَّمه رب العزة والجلالة.
الدرس السابع: شجاعة الرسول صلى الله عليه وسلم:
ويتضح ذلك عندما أخبر قريشا أنه أُسري به إلى بيت المقدس وعاد في نفس الليلة، ولم يتأخر ولم يتردد مع علمه بعناد كفار قريش، وعدم تصديقه في هذا الأمر العظيم حيث لا يمكن تخيل أن يتمكن بشر من الذهاب إلى بيت المقدس والعودة في نفس الليلة فيما كانوا يستغرقون في هذه الرحلة شهرين؛ شهرًا في الذهاب وشهرًا للعودة.
كلمة الله الأخيرة
الدرس الثامن: عموم رسالته صلى الله عليه وسلم:
لقد ثبت في الروايات المتعددة أن رسول الله صلى بالأنبياء إمامًا في بيت المقدس في ليلة الإسراء والمعراج، وفي هذا دلالات منها أن الإسلام هو كلمة الله الأخيرة إلى خلقه، ودليل على عالمية الإسلام، وعموم رسالة محمد، وأنه حامل لواء الهداية للخلق جميعًا، تحمَّلها سيدنا رسول الله بأمانة وقوة، وقام بحقها على خير وجه، ثم ورَّثها لأمته من بعده، وبذلك أصبحت خير أمة أخرجت للناس، ومسئولة عن إقامة حُجَّة الله على خلقه جميعًا، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].
الدرس التاسع: الاستفادة من الخبرات السابقة:
ويتضح لنا ذلك من خلال استجابة سيدنا رسول الله لنبي الله موسى بالمراجعة في أمر الصلوات: «... وَإِنِّي وَاللَّهِ قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ، وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لأُمَّتِكَ. فَرَجَعْتُ».
الدرس العاشر: الإسلام دين الهداية والفطرة:
من أحداث تلك الليلة المباركة أن رسول الله قد اختار إناء اللبن وشرب منه، جاء في الحديث أن جبريل قال له عندما أخذ اللبن: «هُدِيتَ الْفِطْرَةَ، أَوْ أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ». قال القرطبي: يحتمل أن يكون سبب تسمية اللبن فطرة؛ لأنه أول شيء يدخل بطن المولود ويشق أمعاءه، والسر في ميل النبي إليه دون غيره؛ لكونه كان مألوفًا له، ولأنه لا ينشأ عن جنسه مفسدة. وفي رواية: «هِيَ الْفِطْرَةُ الَّتِي أَنْتَ عَلَيْهَا وَأُمَّتُكَ».
إن سلامة الفطرة هي لب الإسلام؛ لأن عقيدته وشريعته وأحكامه كلها تتناسب مع مقتضيات الفطرة التي خلق الله الناس عليها، قبل أن تدنسها الشهوات والأطماع والأغراض الذاتية، وقد وصف الله هذا الدين بأنه دين الفطرة في قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [الروم: 30].
الدرس الحادي عشر: تعليم سيدنا محمد بالمشاهدة والنظر:
وذلك ليكون درسًا عمليًّا يتعلم فيه الرسول بالمشاهدة والنظر، ولقد كفل له ربه ذلك بما أراه من آياته الكبرى، وما أطلعه عليه من مشاهدة تلك العوالم التي لا تصل أذهاننا إلى إدراك كنهها إلا بضرب من التخيُّل، فأنَّى لنا أن نصل إلى ذلك وقد حُبس عنا الكثير من العلم، وما أوتينا منه إلا قليلاً، قال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء: 85]. والله قد أعطى كل نوع من مخلوقاته علومًا تتوافق مع استعداده وفطرته، ومهمته في هذا الكون.
الدرس الثاني عشر: أصل الدين واحد هو التوحيد:
إن أنبياء الله ورسله بعثهم الله إلى خلقه ليعرفوهم بالله، وكيف يعبدونه؛ ليُعلموهم أن الله وحده هو المستحق للعبادة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]. وهذا يعني أن رسالة الأنبياء واحدة، وأنهم جميعًا إخوة، وقد أكَّد رسول الله هذه الحقيقة في مناسبات عدة، منها: قوله عن نبي الله يونس «أخي كان نبيًّا، وأنا نبي».
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : «أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَالأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلاَّتٍ، أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى، وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ». والعَلات بفتح المهملة: الضرائر. وأصله أن من تزوج امرأة ثم تزوج أخرى كأنه عَلَّ منها. والعلل: الشُّرب بعد الشرب. وأولاد العلات: الإخوة من الأب. أي أن شرائعهم متعددة، وأصل الدين واحد هو التوحيد. وجاءت ليلة الإسراء والمعراج تؤكد المعنى السابق، فوجدنا أن العبارة التي رددها الأنبياء عليهم السلام ترحيبًا بسيدنا محمد حين استقبلوه في السموات العُلا هي: «مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ».
موقف أهل مكة
بعد رحلة الإسراء والمعراج العطرة، أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكشف لأهل مكة جميعًا ما كان له؛ فقد روى ابن عبَّاسٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَمَّا كَانَ لَيْلَةُ أُسْرِيَ بِي وَأَصْبَحْتُ بِمَكَّةَ فَظِعْتُ بِأَمْرِي، وَعَرَفْتُ أَنَّ النَّاسَ مُكَذِّبِيَّ». فَقَعَدَ مُعْتَزِلاً حَزِينًا، قَالَ: فَمَرَّ عَدُوُّ اللَّهِ أَبُو جَهْلٍ، فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ كَالْمُسْتَهْزِئِ: هَلْ كَانَ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «نَعَمْ». قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: «إِنَّهُ أُسْرِيَ بِي اللَّيْلَةَ». قَالَ: إِلَى أَيْنَ؟ قَال: «إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ». قَالَ: ثُمَّ أَصْبَحْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا؟ قَالَ: «نَعَمْ». قَالَ: فَلَمْ يَرَ أَنَّهُ يُكَذِّبُهُ مَخَافَةَ أَنْ يَجْحَدَهُ الْحَدِيثَ إِذَا دَعَا قَوْمَهُ إِلَيْهِ، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ دَعَوْتُ قَوْمَكَ تُحَدِّثهُمْ مَا حَدَّثْتَنِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «نَعَمْ». فَقَالَ: هَيَا يَا مَعْشَرَ بني كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ. حَتَّى قَالَ: فَانْتَفَضَتْ إِلَيْهِ الْمَجَالِسُ وَجَاءُوا حَتَّى جَلَسُوا إِلَيْهِمَا. قَالَ: حَدِّثْ قَوْمَكَ بِمَا حَدَّثْتَنِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي أُسْرِيَ بِي اللَّيْلَةَ». قَالُوا: إِلَى أَيْنَ؟ قُلْتُ: «إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ». قَالُوا: ثُمَّ أَصْبَحْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا؟ قَالَ: «نَعَمْ». قَالَ: فَمِنْ بَيْنِ مُصَفِّقٍ وَمِنْ بَيْنِ وَاضِعٍ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مُتَعَجِّبًا لِلْكَذِبِ زَعَمَ قَالُوا: وَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَنْعَتَ لَنَا الْمَسْجِدَ؟ وَفِي الْقَوْمِ مَنْ قَدْ سَافَرَ إِلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ وَرَأَى الْمَسْجِدَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «فَذَهَبْتُ أَنْعَتُ، فَمَا زِلْتُ أَنْعَتُ حَتَّى الْتَبَسَ عَلَيَّ بَعْضُ النَّعْتِ - قَالَ - فَجِيءَ بِالْمَسْجِدِ وَأَنَا أَنْظُرُ، حَتَّى وُضِعَ دُونَ دَارِ عِقَالٍ أَوْ عَقِيلٍ، فَنَعَتُّهُ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ». قَالَ: وَكَانَ مَعَ هَذَا نَعْتٌ لَمْ أَحْفَظْهُ. قَالَ: فَقَالَ الْقَوْمُ: أَمَّا النَّعْتُ فَوَاللَّهِ لَقَدْ أَصَابَ.
وهذه الحادثة معجزة أخرى؛ فقد أراه الله تعالى المسجد الأقصى أمامه، ينعته لأهل مكة، يصف أبوابه ومخارجه، وصفًا يحيِّر السامعين له، ويُؤَكِّد لمن أتى مشكِّكًا في نبوَّته أنه نبي مُرْسَل من قِبَلِ الله، وكان موقفُ صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ثابتًا راسخًا في قرارة أنفسهم.
ومن أعظم المواقف التي دلَّت على رسوخ اليقين عند أبي بكر رضي الله عنه ما ذكره ابن المسيب، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انتهى إلى بيت المقدس لقي فيه إبراهيم، وموسى، وعيسى عليهم السلام، وأنه أُتِيَ بقدحين: قدح لبن، وقدح خمر، فنظر إليهما، ثم أخذ قدح اللبن، فقال له جبريل: «هُدِيتَ الفطرة، لو أخذتَ الخمر لَغَوَتْ أُمَّتُكَ». ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة فأَخْبَر أنه أُسْرِيَ به، فافتُتِنَ ناس كثير كانوا قد صلَّوْا معه. قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: فتجهَّز ناس من قريش إلى أبي بكر، فقالوا له: هل لك في صاحبك، يزعم أنه قد جاء بيت المقدس ثم رجع إلى مكة في ليلة واحدة؟!
فقال أبو بكر: أَوَ قَالَ ذلك؟
قالوا: نعم.
قال: فأَشْهَدُ لئن كان قال ذلك لقد صدق.
قالوا: فتُصَدِّقه بأن يأتي الشام في ليلة واحدة، ثم يرجع إلى مكة قبل أن يصبح؟!
قال: نعم، إني أُصَدِّقه بأبعد من ذلك! أصدِّقه بخبر السماء. قال أبو سلمة: فبها سُمِّيَ أبو بكر الصِّدِّيقَ.
الأمة صاحبة الميراث
أكدت رحلة الإسراء والمعراج أن أمة الإسلام هي صاحبة الميراث لرسالة الرسل والأقصى الشريف، فلقد كانت محطة الإسراء النهائية إلى بيت المقدس، وأول المعراج من بيت المقدس، وصلى النبي بالأنبياء جميعًا إمامًا؛ كي يؤسس على هذا التوافق بين الأديان السماوية، وتبعية الرسالات السماوية لرسالة واحدة هي رسالة الإسلام، وبخاصة ما جاء به سيدنا عيسى وموسى وغيرهم عليهم الصلاة والسلام. وصار المسجد الأقصى بهذا أولى القبلتين، وميراث المسلمين، وظل سيدنا عمر حافظًا لدرس الإسراء والمعراج، وللعهد بالصلاة ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا، كما جاء في حديث البخاري بسنده عن البراء بن عازب، حتى أرسل خالد بن الوليد وأبا عبيدة بن الجراح وفتحت فلسطين والشام، وذهب بنفسه لاستلام مفاتيح القدس، ولم يذهب إلى بلد خارج الجزيرة غيرها، وأعطى من صور السماحة مع الأديان الأخرى ما بقي موضع ذكر من كل منصف..
وعاش غير المسلمين في ظل حكم الإسلام يمارسون شعائرهم، وتحترم دور عبادتهم، ويشاركون المسلمين في إدارة البلاد، دون أية حساسية حتى جاء الصليبيون يحملون حقدًا وغلاًّ، وتحركهم أهواء سياسية وشائعات كاذبة أن المسلمين هدموا قبر المسيح، وهي أكذوبة روَّجها البابا أوربان الثاني والساسة والقساوسة؛ لتحريك الجموع العمياء عن الحقيقة، وقتلوا وسفكوا وهتكوا وخاضوا في الدماء، وأمعنوا في الخراب بحقدٍ لا مثيل له، لكن صلاح الدين لما واجههم لظلمهم، وقاومهم لفسادهم، وقاتلهم لبغيهم قابلهم بسماحة الإسلام في التعامل مع الأسرى.
وها هي الأستاذة زيجريد هونكه المؤرخة الألمانية تروي في كتابها (الله ليس كذلك) ص25 على لسان أحد الألمان الذين شاركوا في الحروب الصليبية وهو «أوليفروس» حيث كتب عن معاملة صلاح الدين لهم فقال: «منذ تقادم العهود، لم يسمع المرء بمثل هذا الترفق والجود، خاصة إزاء أسرى العدو اللدود، ولما شاء الله أن نكون أسراك، لم نعرفك مستبدًّا طاغية، ولا سيدًا داهية، وإنما عرفناك أبًا رحيمًا شملنا بالإحسان والطيبات، وعونًا منقذًا في كل النوائب والملمات. ومن ذا الذي يمكن أن يشك لحظة في أن مثل هذا الجود والتسامح والرحمة من عند الله.. إن الرجال الذين قتلنا آباءهم وأبناءهم وبناتهم وإخوانهم وأخواتهم وأذقناهم من العذاب، لما غدونا أسراهم وكدنا نموت جوعًا، راحوا يؤثروننا على أنفسهم على ما بهم من خصاصة، وأسدوا إلينا ما استطاعوا من إحسان، بينما كنا تحت رحمتهم لا حول لنا ولا سلطان»!!
واليوم دنَّس الصهاينة الأقصى أرض القدس وفلسطين، وشردوا خمسة ملايين فلسطيني، وقتلوا الأطفال والنساء والشيوخ، واقتلعوا أشجار الزيتون، وهدموا البيوت وعاثوا في القدس فسادًا. ولا بد لكل مسلم أن يستشعر مسئوليته أمام الله -تعالى- عن رد البغاة، وطرد المعتدين، ولا سبيل لهذا إلا الجهاد المقدس لتحرير الأقصى الذي نتلو ذكره في آيات القرآن، ونعيش هموم الشعب الفلسطيني الذي يضحي كل عام بما يزيد عن ألف شهيد وأربعين ألف جريح، وهم عزل ماديًّا الأقوى روحيًّا، أمام طغمة من بني صهيون بدباباتهم ورشاشاتهم وطائراتهم وجرافاتهم لكنهم الأضعف قلبًا، والأبعد عن الله تعالى وعن أي دين.
تلك مسئوليتنا أمام رب الأرض والسماء، وأمام التاريخ والأجيال، أمام القيم الإنسانية. والحق أن النصوص تؤكد أنه لا يمكن أن يتم ذلك إلا على أيدي المسلمين الصادقين، الذين يبذلون كل غالٍ ورخيص لحماية العرض، وتحرير الأرض من الغزاة المحتلين.
أرقى صور السرعة
الإسراء والمعراج مثال لأحدث وأرقى صور السرعة في الاتصالات والمواصلات والفضائيات،
ففي عصر الجمل سفينة الصحراء كانت رحلة الإسراء والمعراج في سرعة فائقة في الزمان والمكان، حتى عاد الحبيب منها دون أن يبرد فراشه، كما روى البخاري بسنده عن أم هانئ رضي الله عنها. في هذا العصر قطعت المسافة من المدينة إلى المسجد الأقصى في ثوانٍ، ومن الأقصى إلى السموات العُلا في ثوان، وكانت العودة الحميدة، وإذاعة أنباء الرحلة في الصباح، ولم يكن أحدٌ يصدق إلا من آمن بالمعجزة الإلهية، والوحي الرباني، والقدرة التي لا يحدها شيء.
لكن أراد الله -تعالى- في هذا الزمن البدائي أن تكون معجزة النبي أبد الدهر أسبق من كل تكنولوجيا الاتصالات والفضائيات، فسألوه عن صفات المسجد الأقصى، وهم يعلمون أنه ما ذهب إليه في تاريخه قبل البعثة، فتجلى الأقصى مكانًا وشمالاً وجنوبًا وشرقًا وغربًا في شاشة لا يراها إلا النبي، وبُهِت الجميع لهذا الوصف الدقيق.
أليس هذا درسًا للذين ارتموا على أرجل الرجل الأبيض الذي أنشأ الفضائيات وطور الاتصالات؟ نحن -يا قومي- أصحاب سبق، لا تبهرنا الصور والأشكال، نحن ذوو عمق في النظر إلى الجوهر إلى الروح، إلى القيم والأخلاق، سواء كان الإنسان يركب حمارًا أو جملاً أو صاروخًا فضائيًّا، سواء كان فقيرًا أو غنيًّا.
هكذا المؤمن لا يبهر إلا بالحقائق، وهي وحدها في مكنون القرآن وصحيح السنن، وصريح العقول الراشدة، والحضارة المقترنة بالقيم الإنسانية، والأخلاق الإسلامية. ومن الضروري أن نراجع أنفسنا في تخلفنا عن السبق العلمي في المواصلات والاتصالات والفضائيات؛ فحيث كان يجب أن نكون الأسبق في العالم لهذه الاختراعات العلمية من فيض الآيات والأحاديث النبوية والوقائع التاريخية مثل الإسراء والمعراج، بل ومساهمات الحضارة الإسلامية في عصور الازدهار.. لكنا تأخرنا، فإذا توفرت إرادة إسلامية، وعزيمة إيمانية تستطيع أن نستوعب آخر الاكتشافات العلمية، وأن نضيف عليها إضافات جادَّة وفعليًّة، ونعطي للعالم مثالاً جديدًا على توافق الإسلام مع الحقائق العلمية التي تفيد كل الإنسانية.
الصلاة هدية الأمة
كانت الصلاة هي هدية الإسراء والمعراج إلى الأمة الإسلامية كمنهاج حياة، فلقد دنا النبي من ربه واقترب، ورأى من آيات ربه الكبرى، وقد علم الله حب نبيه لأمته، فأراد ألا يحرم كل مؤمن ومؤمنة من إسراء ومعراج، ففرضت الصلاة قبلتها الأولى إلى بيت المقدس حيث صلى بالأنبياء والرسل أجمعين، ثم معراج الروح لكل مصلٍّ إلى رب الأرض والسماء في كل سجدة، كما قال سبحانه: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19]. ولما رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ الله قَالَ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ».
وصارت الصلاة منهاج حياة تصنع المسلمين في أحسن صياغة، فيبادرون الطفل في أول لحظة من حياته بالأذان والإقامة ريثما يميز فيُعلَّم الصلاة ثم يؤمر بها، ثم يكلف بأدائها عند البلوغ، وتبقى عبادة يومية خمس مرات، وعشرات المرات لمن تطوع، فهي أول ما يبدأ به يومه في صلاة الفجر المشهودة، وآخر ما يختم به يومه في صلاة الوتر المحبوبة، وبينهما صلوات بين الفرض والنافلة، فإذا حزبه أمر صلى، وإذا تحيَّر في أمرٍ صلى صلاة الاستخارة، وإذا أذنب صلى ركعتين تغسلان ذنبه وترفعان وزره، وإذا خسفت الشمس أو كسف القمر صلى، وإذا أجدبت السماء صلى، وإذا بُشِّر بالخير سجد شكرًا وذكرًا لله تعالى، وإذا وافته المنية وقدم على ربه كان آخر عهده بالدنيا صلاة الجنازة.
فهي منهج حياة من الميلاد إلى ما بعد الممات، وهي النور في القبر والحشر، وأول ما يُحاسب عنه العبد يوم القيامة، وأول مفاتيح الجنة بعد رحمة الله.
هكذا رحلة الإسراء والمعراج لم تكن نزهة بل معجزة، ولم تكن خاصة بالنبي بل ترسم منهاج حياة لمن أراد النجاة، ووهب حياته كلها لدعوة الله.
هل الإسراء والمعراج معجزة؟
المعجزة -كما هو معروف- هي أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدِّي، سالم عن المعارضة، يَظْهَر على يد مدعي النبوَّة موافقًا لدعواه، وكانت تُطلَب من الرسول برهانًا ودليلاً على صدقه، «باعتبار أن الشواهد المادِّيَّة والمعنويَّة الخارقة للمعتاد المألوف في قوانين الكون وأنظمته تضع الباحث عن الحقِّ أمام البرهان الواضح الدالِّ على صدق الرسول في دعواه الرسالة؛ ذلك لأن الذين يتحدَّاهم الرسول بالمعجزة لا يستطيعون الإتيان بمثلها منفردين أو مجتمعين، في حدود قدراتهم الممنوحة لهم بحسب مستواهم».
ومعنى ذلك أنَّ المعجزة يُجْرِيها الله عز وجل على يد الرسول تأييدًا له، وأنَّ الرسول يتحدَّى قومه بهذه المعجزة؛ ليتأكَّدوا أنها من قِبَلِ الله عز وجل، ومن ثَمَّ يتأكَّدون من صدقه، وأنه مؤيَّد من السماء، وذلك بعد أنْ يَظْهَرَ لهم عجزهم عن الإتيان بمثلها، كما هو الحال مع معجزة القرآن الكريم.
وعلى ضوء هذا يمكن تفسير حادث الإسراء والمعراج؛ «فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يتحدَّ أحدًا بهذه الرحلة، ولم يطلب من المشركين أنْ يُعَارِضُوه فيأتوا بمثلها، ولذلك إذا قلنا: إنها معجزة. فإننا نقول ذلك على سبيل المجاز؛ فهي أمر خارق للعادة، ولكنه لم يكن للتحدِّي، ولم يرَهُ الناس بأعينهم حتى يؤمنوا به كإحدى معجزات النبوَّة، وإنما كان تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، واختبارًا للمسلمين المقبلين على مراحل أخرى من الجهاد يَعْلَمُها الله؛ كالهجرة وما بعدها من بناء دولة الإسلام الثابت الدعائم، القويِّ الأركان».