ضواحي / لاجئ!

تصغير
تكبير
| حميدي حمود |

اقتيد من أمام منزله على مرأى من أعين زوجته وأولاده، الذين لم يكن لهم حول ولا قوة غير البكاء والتوسل إلى رجال المباحث بتركه.

كان هذا القدر بالنسبة له أمرا غير مستغرب، بل إنه قد تأخر كثيرا.

في مكتب التحقيق...

كان باديا على المحقق آثار الغضب والحنق، شرع في طرح الأسئلة بطريقة ماكرة عله يخرج بإجابة واحدة تكون كافية لإدانته وزجه في السجن لفترة، فإما أن تتحلل فيها أفكاره العدائية، المؤججة لعقول الشعب، المطالبة بالتمرد، أو يتحلل هو نفسه بعد تعفنه وراء القضبان.

خلع المحقق بذلته الداكنة وقام بتعليقها في زاوية غرفة التحقيق ثم هم بطيّ أكمام القميص بعد أن حل أزراره، أدار الكرسي وجلس عليه بشكله المعكوس متكئا على الجزء العلوي له ثم نظر له بعين ثاقبة، تراشقا النظرات الحادة تحت مصباح قديم متدل في منتصف الغرفة ذي إضاءة ساطعة، كل هذا لم يحرك به ساكنا بل ظل على تحديه بتكرار نفس الإجابات ونفس التبريرات، أحس المحقق - بعد عناء - بأن ما يقوم به غير مجد أبدا وبدأ يتملكه اليأس من إمكانية الخروج بنتيجة معه.

مضى يُـقلب الملف الموضوع على الطاولة مجددا علّه يعثر على شيء يــعيد له بريــــقا من الأمل، لكن لا فائدة، دفع الملف تجاهه بقوة فانزلق سريعا ليحط بين يديه:

- هل توافق على ما هو موجود بهذا الملف؟ قالها بحدة

- لقد قلت لك سابقا يا سيادة المحقق بأنني أتفق معكم فقط على صحة بياناتي الشخصية المذكورة هنا. أجاب بثقة

- ولكـــن مـــا كــــُتـــب فـــي الملـــف الذي بين يديك ليس إلا بــعضا مما ذكرته أنت شخصيا في مقالات نشرت لك في عدة جرائد محلية!

- وهنا نقطة الاختلاف، فأنتم لم تأتوا بالمقالات كاملة، بل اقتصصتم ما أردتم منها وقمتم بتحويرها وتفسيرها بشكل يجعلني مجرما!

- يجب أن تفهم بأننا هنا لسنا أرشيفا لكتاباتك، وما ذكر هنا لا يحتمل تفسيرا آخر، تطاولك على الذات الرئاسية ونعتها بالدابة التي تتخبط في قيادة بقية القطيع في مقالتك الأخيرة أمر جلي واضح لا يختلف على تفسيره اثنان.

- وكيف أتيت بهذا التفسير!

- أنا من يسأل هنا لا أنت، ومع ذلك سوف أجيبك، أولا عنونت مقالتك بـ (دولة سعادة المرياع ميم) وكما الكل يعلم بأن سعادة الرئيس أطال الله عمره اسمه يبدأ بحرف الميم، ثانيا قمت بوصف دولة ذلك المرياع والمشاكل التي تعانيها وكأنك تصف دولتنا تماما وما نعانيه من مشاكل، بل إنك تماديت وذكرت بدقة متناهية الوصف حينما وصفت حدود الدولة وجيرانها، أبعد من كل هذا مازلت تصر على قولك وتزعم بأن هذه الاستنتاجات من وحي خيالنا!

- هاهاهاها لقد أضحكتني بتحليلك واستنباطك كل هذه الأمور، أنا كاتب، والكاتب كما تعلم ذا خيال واسع، يبدو أن لك مستقبلا باهرا في هذا المجال فما رأيك بتغيير وظيفتك؟

- إن عدت إلى الاستهزاء مرة أخرى فسوف أزج بك في الحبس الانفرادي. قالها بحنق

- في كل الحالات هو أهون من تحليلك الذي اتهمتني به والذي سيـُقطع جراءه رأسي.

- أوتريدني أن أصدّق أن مقالك الأخير إنما كان من نسج خيالك المحض!

- لا يهمني إن كنت تصدقني أم لا، المهم هو أن أصدُق مع نفسي ومع القـُرّاء.

بامتعاض شديد، ضرب المحقق بقبضته على الطاولة قبل أن ينهض قاذفا بالكرسي عرض الحائط، أدار ظهره تجاه النافذة الزجاجية العاكسة وتمتم بشفتيه دون أن يصدر صوتا.

في الصباح التالي، أُطلق سراحه وعاد إلى بيته فرحا مزهوا كبطل حرب أو زعيم ثورة قد انتصر.

أمام منزله وهو يحتضن زوجته الفرحة برجوعه، همس في أذنها: «وضبي حقائب السفر قبل أن يوضبوا تابوتي»!


www.hameady.net

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي