فيصل فالح السبيعي / الرأي المختلف / تطور القوى الكويتية وتقهقرها

تصغير
تكبير

ثمة استحقاق بتجديد مجتمع النخبة طوعياً، لأن العالم المتقدم لن يشكرنا إذا فكرنا جدياً في مستقبلنا، ولن ينتظر إذا تقاعسنا عن هذا التفكير.

ومعلوم أن مجتمعات النخبة هي التي رسمت، ومازالت ترسم مباشرة مستقبل الشعوب والأمم والعالم منذ خمسين عاماً على الأقل، خصوصاً المجتمع الكويتي، على نحو سافر كادت تتقارب معه منطلقات أيديولوجية متنافرة مثل الاشتراكية والرأسمالية.

ففي حمأة الحرب الباردة لم يجد الشرق الاشتراكي والغرب الرأسمالي بُداً من الاعتراف بأن من يصنع الكتلة الحرجة ويضمن التقدم لملايين الناس هم بضع مئات من المفكرين، والسياسيين، والرياضيين، والاقتصاديين، والعلماء، وبعض الأشخاص الرياديين في محيطهم، والمستقلين الذين يملكون القدرة على ضخ المزيد من الأفكار والبرامج والخطط والابتكارات الدافعة للمجتمعات، وقد غدا في حكم المؤكد أن السبب الرئيسي لانهيار الاتحاد السوفياتي تمثل في تآكل مجتمع النخبة لديه وعجزه عن تجديده والإبقاء عليه مندفعاً متحمساً. ولعل أبرز عوامل ذلك التباطؤ الذاتي قد تمثل أيضاً في اعتماد أجندة عمل واحدة أدت إلى تسرب أفراد ذلك المجتمع واحداً تلو الأخر باتجاه الغرب الذي بدا طوال الخمسينات متأخراً عن الاتحاد السوفياتي خطوة أو خطوتين لكنه تمكن من اللحاق به، وتجاوزه بفضل آليتين رئيستين ساعدتاه على تعظيم مجتمعات النخبة، لديه والمحافظة على إطاره الأيديولوجي العام وهما: تفعيل التفكير النقدي والمراجعة الدائمة لأوجه النظام الرأسمالي كلها، والحرص على توافر سلة من أجندات العمل في كل الأوقات.

ورغم أن النخب لم تكن وليدة تطور حقيقي في المجتمع المدني، بل وليدة مزيج من التفاعلات، والمفارقات، والمغامرات السياسية والعسكرية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ورغم أن هذه النخب كانت ومازالت في معظمها رسمية أو شبه رسمية، إلا أنها بدت في أواخر الثمانينات من القرن المنصرم قاب قوسين أو أدنى من قفزة متأخرة باتجاه المستقبل، وراحت نسائم الديموقراطية السياسية والفكرية تهب على الوطن... وقد أدت أيضاً إلى انسحاب كثيرين من رموز النخب العربية والكويتية من ساحة الفعل والعمل العام الى ساحة العزلة أو العمل الخاص، في ما استمر غير قليل من رموز النخبة في العمل دون أفكار أو ابتكارات جديدة.

صحيح أن وجوها جديدة برزت في الأونة الأخيرة لكنها في معظمها وجوه وظيفية ذات مهارات تنفيذية ولا تمتلك حضوراً ملموساً على صعيد تشكيل الرأي العام، أو بلورة أفكار وآراء جديدة، وملخص الحال أن مجتمع النخبة الرسمية وغير الرسمية في القطاع العام، أو القطاع الخاص الحكومي أو المعارض، يعاني أزمة حادة جراء الفراغ الكبير الذي أحدثه انسحاب أو وفاة كثيرين من رموز النخبة.

ويزيد من وطأة هذا الفراغ عجز البقية الباقية من هذه النخب عن الاستمرار في دفع وتحريك تيارات الرأي العام من جهة ثانية، وندرة الوجوه الجديدة المفكرة المنظرة الدافعة من جهة ثالثة، والاتجاه المتزايد إلى اعتماد أجندة عمل واحدة، ونحن هنا لدينا نخب لها نفوذ وسلطة وقادرة على التأثير بغض النظر عن أيديولوجياتهم، وهذا ما نلمسه خلال الانتخابات في مجلس الأمة، والبلدي، أو في انتخابات المجتمع المدني، أو في المجال الاقتصادي (غرفة التجارة)، أو في المجال الرياضي، والثقافي، والاجتماعي، وفي جميع المجالات، وهناك أيضاً فئة من النخب «أصحاب النفوذ» لهم دور ويؤثرون في الخريطة السياسية ويعتمدون على سلاح المال تارة، وتارة على الخدمات التي يقدمونها ولكن تأثيرهم محدود جداً.

أما بالنسبة إلى النخب المؤثرة والفاعلة سياسياً في المجتمع الكويتي هم (القبائل، الجمعيات الدينية بمذاهبها كلها، التيار الليبرالي، العوائل الأستوقراطية، والمستقلين).

نجد نخبة القبائل وهم رؤساء القبائل والمخضرمون كان لهم دور ريادي في تجييش رجالها، وتوجيهم لخدمة مصالحهم السياسية والاجتماعية بمساعدة ومباركة الحكومة التي فتحت أبوابها بمصراعيها لفئة من المخضرمين من بعض رجال القبائل، لكي تكون الرافد الأساسي والقوة الرئيسية التي تعتمد عليها في المجال السياسي، والاجتماعي، وفي مجالات أخرى، وتعتبر قوة جبارة مؤثرة في التركيبة السياسية، لما يكنون لقبائلهم الاحترام والطاعة والولاء المطلق. وغرس القبلية بين أبنائها شجعهم في دخولهم بدهاليز السياسة بإيعاز ودعم الحكومة في بداية الستينات إلى الثمانينات، وقد نجح بعض منهم. ولكن في التسعينات انقلبت عليهم القبائل بتحريض من المرشحين وقد فشلوا في الانتخابات البرلمانية... ولكن مازال لهم تأثير محدود اجتماعياً فقط. وكذلك فتح التجنيس في بداية الستينات بصورة مبالغ فيها، وقد أدى هذا إلى خلخلة التركيبة القبلية من ناحية دخول أشخاص من خارج رحم القبيلة وأصبحت تحمل اسم القبيلة نفسه... هذا كله من أجل الانتخابات البرلمانية ومساعدتهم للوصول إلى كرسي عضوية المجلس النيابي... وكانت الطامة الكبرى هي التقسيمة الجغرافية للمناطق والتي أدت إلى نزوح وهجرة كثير من أبنائها إلى هذه المناطق، وبتحريض ومساعدة نخبة رجال القبائل ليكون لهم رافد قوي للاستمرار في دفة الترشيح للانتخابات سواء إلى مجلس الأمة، أو البلدي، أو الجمعيات التعاونية، وقد أدى هذا إلى استفحال التعصب من البعض للقبائل الأخرى، وكانت في أوج قوتها ونفوذها من بداية مجلس الأمة التأسيسي حتى نهاية الثمانينات، ثم برزت بعض النخب من خلال «قوة أفخاذ القبيلة»، وهي العامل الأساسي، ثم مباركة الجمعيات الدينية، وأحياناً استغلالهم لمراكزهم الوظيفية، ودعم لوجستي من جهات أخرى ساعدهم لتبوؤ المناصب السياسية، ولكن تلاشت هذه القوة رويداً رويداً بفضل بعض النخب وأصبحت تعاني من ورم يجب استئصاله! وتغيرت نظرة رجالها العاطفية، وأصبحت أكثر إدراكاً ووعياً وعقلانية لما يدور وراء الكواليس، وقد وضح للعيان ما جرى في المناطق الخارجية في الانتخابات المنصرمة، وفشلهم المدوي في عقر دارهم، وسقوط بعض المرشحين بعد نجاحهم في الانتخابات الفرعية... وتأكد أن المصالح سواء المادية أو الخدماتية هي الفيصل والمحك، وتمرد شباب القبائل وخيبة أملهم أدى إلى تغيير قناعتهم السائدة.

لكن نخب رجال الجمعيات الدينية بدأت بانطلاقة مؤثرة منذ السبعينات ومازالت هي المسيطرة على الساحة السياسية، ولكن هناك هفوات من بعض نخبهم لاحتكار رموزها، ومواقف بعضهم المخذلة وتصرفاتهم اللامسؤولة أدى إلى ضعف بعض الحركات السياسية لعدم تبنيها لبعض القضايا الشعبوية... واستغل بعضهم الإمامة ومنابر المساجد والحسينيات وبعض القيادين منهم للوصول إلى قلوب الناس من خلال اطروحاتهم وخطابهم المتطرف للتأثير على الناس، وقد نجحت مساعيهم والهدف الأساسي الذي يراودهم الوصول إلى مجلس الأمة، وكذلك طبيعة المجتمع الكويتي والعربي المحافظ يتأثر بالدين لأنه جُبل عليه... ومرشح التيار الإسلامي دائماً هو الحائز على النجاح أو قريب منه، لأنه لو نظرنا إلى الخريطة السياسية في الكويت نجد أن الناس يلتفون حول المرشح الإسلامي، خصوصاً في المناطق الخارجية. وغالباً فإن الجمعيات الدينية يميزها عن غيرها أنها أكثر تنظيماً وحنكة من التيارات والجمعيات الأخرى.

أما بالنسبة إلى التيار الليبرالي وقد ولد طفلاً قوياً وتأتيه جوانب عرضية سرعان ما تتلاشى! بدأ التيار الليبرالي قوته منذ الخمسينات وكانت تنظيماته وجمهوره يشكلان قاعدة كبيرة وله تأثير على كثير من المجريات السياسية والاجتماعية، ولكن تلاشت هذه القوة في بداية التسعينات بعد أن ازداد حراكه المؤثر نوعاً ما واستقطب شريحة كبيرة من الشباب. وأكثر ما يعيب هذا التيار عدم خلق آلية عمل منظمة ومفعلة أسوة بالتنظيمات الدينية، لأن «التيار الليبرالي» لم يفهم اللعبة، ولا يستغل الإعلام المرئي والمقروء والمسموع الاستغلال الأمثل لمخاطبة الجمهور، والتأثير عليه بأطروحاته، واستقطاب الشباب ليكون داعماً ومسانداً لهم في مسيرتهم النضالية، وإعادة الأمجاد التي اضمحلت رويداً رويداً بسبب اللامبالاة، وعدم وضع استراتيجيات تكون الفيصل بإعادة قوة وعنفوان وإيجاد رموز جديدة تحمل لواء هذا التيار المريض.

أما التيار القومي والماركسي فقد ولد طفلاً مشوهاً سرعان ما احتضر ومات! أما نخب المستقلين فبدأت تشق طريقها باطراد لا متناهٍ منذ تأسيس المجلس التأسيسي الأول الى الآن، ويعتمد أفرادها على علاقاتهم الشخصية مع أبناء الدائرة وخارجها، وكذلك لجوء البعض منهم إلى سلاح المال والتحالفات واستغلال وظائفهم لمصالحهم، ونقل الأصوات، وبدا المستقلون أوفر حظاً خلال الأعوام المنصرمة من غيرهم، وبدأ الجمهور يلتف حولهم وأصبحت لهم كتلة مؤثرة في الحياة البرلمانية.

أما العوائل الأستوقراطية فقد ظهرت من بينها نخب تمارس اللعبة السياسية باقتدار ومهارة، وكذلك في المجالات الاقتصادية والرياضية والاجتماعية، تارة لإثبات الوجود، وتارة لتحافظ على كيانها وصيرورتها في ساحة اتخاذ القرار... واستطاعت أن تشق طريقها بقوة بجميع الإمكانات المتاحة لها، لتصبح جزءاً أساسياً في الخريطة السياسية والاقتصادية.

وعليه فليس من المستغرب أن نطالع هذا الحال من الواقع المر، ومن الاتجاه إلى الاستثمار في المستقبل عبر نسيان الماضي، ومستودعات الذاكرة، ومن الاكتفاء باعتماد أجندة عمل واحدة هى امتلاك الجمهور بطريقة غير ديموقراطية وسليمة وعادلة، واستخدام جميع أنواع الأسلحة المشروعة وغير المشروعة، حتى قام البعض من النخب يؤثر على طريقته الخاصة «الغاية تبرر الوسيلة» ومتماشياً مع مقولة «اللي تكسبو العبو»! نحن أمام تركة جاثمة على صدورنا وهما صنفان سيئان، وأسوأ من السيئ! وشجعهم وجود التربة الخصبة لمورثات بالية تقليدية يتم فيها إلغاء العقل والطرف الآخر والرضوخ إلى العواطف والفزعة الجاهلية... هذا واقعنا شئنا أم أبينا!


فيصل فالح السبيعي


محام ومستشار قانوني في جمعية الصحافيين

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي