«الراي» تكمل نشر فصول من ثلاثية «الحرب الكبرى بذريعة الحضارة» لروبرت فيسك

تصغير
تكبير

صدرت اخيراً عن دار المطبوعات للتوزيع والنشر في بيروت «ثلاثية» للصحافي البريطاني الشهير في جريدة «الاندبندنت» روبرت فيسك عنوانها العريض «الحرب الكبرى بذريعة الحضارة». وهي عبارة عن ثلاثة كتب «الحرب الخاطفة» «الابادة» و«الى البرية» مشكلة اطلالة تاريخية سياسية سوسيولوجية للنزاعات اللاهبة في الشرق الاوسط من ايران الى فلسطين مرورا بالعراق والخليج.

وبعد ان عرضت «الراي» أبرز ما ورد في الجزء الاول تبدأ الجزء بعرض الجزء «الثالث».

يقول فيسك في مقدمة ثلاثيته التي تنشر «الراي» فصولا منها: «عندما انطلقت لتدوين هذا الكتاب اردته ان يكون عرضا للاحداث بحسب تسلسلها الزمني في الشرق الاوسط على مدى ثلاثة عقود فهكذا كتبت كتابي السابق «ويلات وطن» وهو تقرير بصيغة المتكلم عن الحرب الاهلية اللبنانية والغزوتين الاسرائيليتين للبنان. ولكنني نقبت خلال الاوراق المتكدسة في مكتبتي التي تشمل اكثر من 350000 وثيقة وملف ودفتر ملاحظات كتبت بعضها بقلمي تحت وطأة القصف واثبت بعضها الاخر موظفو الاتصالات العرب المتعبون على اوراق التلغرافات ومنها ما ضرب ايضا على آلات الفاكس التي كنا نستخدمها قبل اختراع الانترنت. وبعد هذا الطواف بين تلك الاوراق الوثائقية، ادركت ان هذا الكتاب يكون مجرد تقارير شاهد عيان مرتبة بحسب تسلسلها الزمني».

ويضيف «اشعر بكل ذلك شخصيا لانني شهدت احداثا عبر الزمن لا يمكن ان نعرفها الا بانها عجرفة السلطة، كان الايرانيون يلقبون الولايات المتحدة الاميركية بانها «مركز الاستكبار العالمي» وكنت اضحك من ذلك لكنني بدأت افهم ماذا يعني هذا القول. فبعد النصرالذي احرزه الحلفاء عام 1918، قسم المنتصرون البلاد التي كانت تحت حكم اعدائهم السابقين وخلال 17 شهراً فحسب اوجدوا حدود ايرلندا الشمالية، ويوغوسلافيا، ومعظم الشرق الاوسط وقد صرفت كامل ايامي المهنية في بلفاست وسراييفو وبيروت وبغداد اشاهد الناس يحترقون ضمن تلك الحدود. لقد غزت اميركا العراق، لا من اجل اسلحة الدمار الشامل عند صدام حسين تلك التي دمرت منذ زمن طويل، بل من اجل تغيير خريطة الشرق الاوسط، على غرار ما فعل الجيل الذي كان ابي في عداده، منذ اكثر من ثمانين عاما فقد اسهمت الحرب التي كان احد جنودها في احداث اول ابادة جماعية في ذلك القرن ذهب ضحيتها مليون ونصف المليون نسمة من الارمن ممهدة بذلك للابادة الجماعية التالية لليهود في اوروبا».

ويتابع «ان هذا الكتاب يتمحور على التعذيب والاعدامات وربما فتح عملنا في الصحافة باب الزنزانة عرضا واتفاقاً وربما استطعنا احيانا ان ننقذ روحا من حبل المشنقة انما تجمع لدينا عبر الاعوام سيل من الرسائل المتزايدة الموجهة اليّ والى رئيس تحرير جريدة «الاندبندنت» يعرض فيها القراء افكارهم ويأسهم ويتساءلون كيف يمكنهم ان يسمعوا صوتهم عندما لا تعود الحكومات الديموقراطية تمثل المواطنين الذين انتخبوها فهؤلاء القراء يسألون كيف يقون اولادهم من السمّ الذي يقطر من قسوة هذا العصر؟ وكيف استطيع ان اساعدهم؟ فقد كتبت اليّ امرأة بريطانية تعيش في المانيا بعدما نشرت جريدة «الاندبندنت» مقالاً طويلاً لي عن اغتصاب نساء مسلمات في غاكو بالبوسنة، ان تلك النساء لم يحصلن على عناية طبية دولية او مساعدة نفسية او لفتة لطف واحسان بعد عامين من الاعتداء عليهن وبناء على ذلك، افترض اننا كصحافيين نحاول او يجب ان نحاول - في آخر المطاف. ان نكون اول شهود غير متحيزين على التاريخ. واذا كان هناك من سبب لوجودنا فيجب على الاقل ان نكون قادرين على ان نقدم تقارير عن التاريخ كما يحدث فعلاً بحيث لا يستطيع احد ان يقول: «لم  نعرف لم يخبرنا احد بذلك ولكن هل نستطيع كصحافيين ان نؤدي هذه المهمة؟ ان هذا الكتاب لن يعطينا جواباً عن هذا السؤال لقد كانت حياتي كصحافي مغامرة كبرى ولا تزال ولكن عندما نظرت الى هذه الصفحات بعد شهورمن كتابتها وجدت فيها اوصافا للألم والظلم والرعب انها خطايا الأباء التي يصاب بها الابناء كما انها تدور في شأن الابادات الجماعية لقد كنت ادعو يائسا إلى ضرورة ان يحمل كل مراسل كتاب تاريخ في جيبه الخلفي، وفي عام 1992 كنت في سراييفو. فمرّت قذيفة صربية من فوق رأسي في لحظة خاطفة، لقد كنت واقفا في المكان الذي وقف فيه غافريلو برينسيب واطلق النار، فاشعل شرارة الحرب العالمية الاولى التي جرت والدي الى خنادق الحرب وبالطبع كانت الطلقات تترى في سراييفو عام 1991وكان التاريخ عبارة عن قاعة كبرى يتردد فيها الصدى، وكان ذلك العام هو التاريخ الذي مات فيه والدي، وها أنذا اضع بين يدي القارئ قصة  جيله وجيلي».


الجزء الثالث / الحلقة الثانية والعشرون / إلى البرية في «البرية» / أشرطة الذبح المرعبة

في ساعاته الأخيرة كحاكم أميركي في بغداد، صيف 2004، قرر بول بريمر تشديد بعض القوانين التي وضعتها سلطة احتلاله في أنحاء العراق. وأصدر قانوناً جديداً يمنع العراقيين من قيادة سياراتهم بيد واحدة على المقود. واعتبر تعميم آخر قيام العراقيين بإطلاق أبواق سياراتهم جريمة إلا في حالة الطوارئ. في اليوم نفسه، وبينما كان بريمر يتحدث عن قواعد قيادة السيارات لدى العراقيين، قُتل ثلاثة جنود أميركيين بعبوة ناسفة على جانب الطريق شمال بغداد، وهذا واحد من أكثر من ستين هجوماً تعرضت لها القوات الأميركية في الأسبوع ذاته.

من الصعب إيجاد رمز أكثر إحباطاً وسخفاً لفشل بريمر وعدم قدرته على فهم طبيعة الكارثة التي جلبها هو وسلطة الاحتلال اليائسة. لم يكن الموضوع أن سلطة الائتلاف المؤقتة، التي تحولت الآن إلى 3 آلاف موظف قوي في السفارة الأميركية الأكبر في العالم، كانت خارج مجال الاتصال فهي لم تكن أصلاً تعيش على كوكب الأرض. جاءت لحظة بطولة بريمر الأخيرة عندما رحل عن بغداد في طائرة عسكرية بحماية اثنين من المرتزقة الأميركيين المسلحين، وجها بندقيتهما آلياً إلى كاميرا التلفزيون وهما يسيران إلى الوراء، رافقاه حتى إغلاق باب الطائرة. ولنتذكر أن بريمر عُين في منصبه لأنه كان خبيرا في مكافحة الإرهاب.


جواد مهدي الخالصي

كان صيفاً رهيباً. فإذا لم يستطع الثوار ضرب الأميركيين دائماً فإنهم كانوا يُجهزون «مخازنهم الكبرى» الانتحارية ويدمرون مَن يعتبرونهم عملاء.

يوم 28 يوليو، على سبيل المثال، جرى قتل جماعات من الفقراء المتقدمين لوظيفة شرطي، نحو مئة منهم من قرية بعقوبة السنية، بينما كانوا يصطفون من دون حماية على طول الجادة سعياً وراء إيجاد عمل. قاد الانتحاري، المجهولة هويته كالمعتاد، سيارته الرينو في وسط ستمئة عاطل عن العمل، من الشباب الباحثين عن وظيفة في قوة الشرطة، وفجر العبوات التي مزقتهم إرباً. وتركت القنبلة حفرة عمقها ستة أقدام على الطريق، وأصابت حوالي 150 رجلاً وامرأة بجروح، وكان العديد منهم يتسوقون في سوق مجاور.

كان ذلك الصيف هو الأخير الذي يستطيع المرء التحرك فيه على الطرقات في العراق مع بعض الأمل بعدم الموت، أوالخطف، أو قطع الرأس، وقد صعدت إلى مركب في نهر دجلة، عرض علي صاحبه أخذي إلى البصرة، وهو جندي عراقي اسمه صالح، كان أصيب في الحرب العراقية ــ الإيرانية.

فكرت أن الرحلة البعيدة على المركب سوف تستغرق أسبوعاً كاملاً لذلك أعددت نفسي لرحلة خارج بغداد، مروراً بمدرسة صدام القديمة، وأنقاض وزارة الدفاع، وجيوش الجالسين في رُكام الشقق. وبينما كنا نبحر في مياه دجلة، سألت صالح الذي كان شيعياً، ما إذا كان هناك أمل للشرق الأوسط، للعراق، لنا. أجاب: «قال إمامنا علي إن الناس إما أخ لك في الدين أو أخ لك في الإنسانية ونحن نؤمن بذلك. عليك العيش مع كل الناس بسلام تام لا تحتاج إلى قتالهم أو قتلهم. هل تعلم أن الإسلام دين يُسر، ولكن بعض المتطرفين يجعلون منه دين عُسر. نحن ضد أي شخص يقتل أو يخطف الأجانب. ليس ذلك من تعاليم الإسلام.»

ذهبت إلى الشيخ جواد مهدي الخالصي، وهو من أكثر زعماء الشيعة إثارة للإعجاب في بغداد. إنه رجل طويل، مميز، يتكلم بلباقة ومرح، ولديه حكمة وبصيرة جده، الرجل الذي قاد الثورة ضد الاحتلال البريطاني عام 1920، أحضر صورة لجده الثائر الكبير الذي كانت لديه لحية طويلة ومرتبة، كان أحد أبرز علماء عصره وقد أنهى حياته في المنفى يتفاوض مع حكومة لينين البلشفية ومات بشكل غامض، مسموماً من قِبل البريطانيين على ما يعتقد مؤيدوه.


عشر رصاصات

اهتزت كتفا الشيخ جواد من الضحك عندما أوحيت أن هناك تشابهاً بين انتفاضتي 1920 و2004. قال: «بالضبط، في عام 1920 حاول الإنكليز فرض حكومة شكلية فقط، بدت مثل نسخة عن قرار مجلس الأمن رقم 1546، وقد أصبح الشيخ مهدي الخالصي المرجع الأعلى بعد وفاة محمد الشيرازي، وأصدر فتوى تُطالب أتباعه وكل شيعة العراق بعدم المشاركة في الانتخابات، وعدم إعطاء شرعية لحكومة شكلتها قوات الاحتلال».

لم يستجب المسلمون الشيعة وحدهم للفتوى، بل السنة، واليهود، والمسيحيون، والأقليات الأخرى. وقد فشلت الانتخابات، ولذلك أجبر الإنكليز جدي على مغادرة العراق، اعتقلوه في منزله في الجهة الأخرى من هذه المدرسة الدينية حيث نحن الآن.(منزل دمره صدام حسين عمداً بعد أعوام عدة.)

كان ذلك عملاً استعمارياً مألوفاً. كان الإنكليز ينفون العلماء المشاغبين،  تذكرت الأسقف مكاريوس، خلال القرن العشرين... لكن الشيخ مهدي كان خطراً في الخارج بالنسبة إلى الانكليز بمقدار خطورته في الوطن. وقد نُقل إلى بومباي، لكن حشد الهنود المسلمين الذين جاءوا لاستقباله في الميناء، كان الحشد كبيراً جداً مما دفع القوات البريطانية إلى إبقائه على متن السفينة، ثم نقلوه إلى ميناء عدن الحار والبركاني.

قال للإنكليز: «لا تعرفون أين ترسلونني، وبما أن موسم الحج قد اقترب، فإني أرغب في الذهاب إلى مكة للحج». وعندما علم الشريف حسين بذلك، أرسل دعوة إلى جدي للمجيء إلى الحج. وقد التـــقى بالشـــريف حسين على جبل عرفـــات في مكة، ثم تسلم دعوة للذهاب إلى إيران موقعة من وزير الخــــارجية محـــمد مصدق. وفي إيران كان بانتظاره العديد من علماء النجف». بعد ثلاثين عاماً أسقط الأميركيون حكومة مصدق الإيرانية، بالتعاون مع الكولونيل وود هاوس «مونتي» من جهاز المخابرات البريطانيMI6 .

كان الشيخ جواد يستخدم يديه عندما يتحدث، إن رجال الدين الشيعة أكثر تعبيراً بأيديهم من رجال الدين الأنغليكان، وكانت كل مرحلة جديدة في حياة جده تستلزم إشارات بإصبعه. قال: «عندما وصل الشيخ مهدي الخالصي إلى ميناء بوشهر الإيراني، لقي استقبالاً كبيراً... لكن موظفاً في شركة النفط الإيرانية أطلق عليه عشر رصاصات، وقال العديد من الناس حينها إنها مؤامرة من قِبل الكولونيل ويلسون الذي كان قائد الاحتلال البريطاني في العراق عام 1920، وكان جميع كبار علماء قُم في إيران بانتظاره، النائيني، والأصفهاني، والشيخ عبدالحليم الحائري اليزدي الذي كان أستاذ آية الله الخميني، وقد أعلن الملك فيصل الذي عينه الإنكليز في بغداد أن باستطاعة علماء الدين المنفيين العودة إلى العراق، شرط التزامهم بعدم التدخل في السياسة.

رفض الشيخ مهدي بغضب الدعوة ووصفها بالاعتداء على دورنا كعلماء دين وعلى استقلال العراق. وبالمقابل، سافر إلى المدينة الإيرانية الشمالية الشرقية مشهد حيث أنشأ مجلساً لحماية الأماكن المقدسة في العراق، ونشر فتاوى بالعربية والفارسية والأوردو والروسية والتركية.»


أشرطة الخطف

وقال الشيخ جواد: «كان هناك حوار غير مباشر أيضاً بين جدي وثوار لينين البلشفيين. أرادوا استخدام الصعوبات الناشئة في الوضع الدولي لمساعدة العراق على أن يصبح دولة مستقلة حقيقية. وحصلت ثورة في العراق، وكانت هذه هي الفكرة. لكن جدي توفي فجأة عام 1925، زعموا أنه كان مريضاً لكن والدي اعتقد دائماً أن القنصل البريطاني في مشهد قام بتسميم الشيخ مهدي. وبعد ظهر يوم وفاته، دعا القنصل جميع أطباء مشهد إلى حفل استقبال خارج المدينة... وهكذا عندما أُصيب جدي بالمرض لم يستطع أحد إيجاد طبيب، ولم يكن هناك أحد للاهتمام به».

والآن ماذا؟ سألت الشيخ جواد. ماذا عن العراق اليوم وقد انتُخب هو عضواً شرفياً في «المؤتمر الإسلامي العراقي» الذي يضم علماء من الشيعة والسنة، والذي يطالب باستقلال العراق كما فعل جده الشيخ مهدي منذ ثمانين عاماً؟ أجاب: «لن ينفصل الشيعة ولن يعزلوا أنفسهم عن السنة. يجب أن تكون لهم حقوقهم، عندما يحصل الشعب العراقي على حقوقه. لنا الحق في مقاومة الاحتلال أيضاً بطرق متنوعة، ونحن نقوم بذلك سياسياً... يريد الأميركيون حرباً أهلية، لكنهم فشلوا لأن الشعب العراقي سيرفض الوقوع في حرب أهلية».

لكن هناك عرباً يمكن أن يثيروا حرباً أهلية أيضاً، وهم يريدون تصوير الإسلام على أنه دين انتقام وخوف. بدأت أراجع أشرطة الفيديو، أشرطة خطف الرجال والنساء، وهم يطالبون بإنقاذ حياتهم، تبدو الصور غير واضحة، والأصوات غير مُبينة أحياناً، وعندما صرخ الكوري الجنوبي كيم صن إيل تكراراً، كان خوفه جلياً وعندما عُرضت رؤوس الضحايا المخطوفين، أديرت تسجيلات آيات قرآنية، بصوت إمام مشهور، على سماعة الصوت. وفي عملية قطع رأس أميركي، قام القاتل مراراً بمسح السكين المليء بالدم مرتين بملابس الضحية. أصبح الإرهاب بواسطة الفيديو الآن وسيلة منظمة تنظيماً جيداً في الحرب العراقية، بدأت المقاومة، أو الإرهابيون، أو المقاتلون العراقيون المسلمون، كما صارت تشير القوات الأميركية الآن إلى أعدائها، بعدد من أشرطة الفيديو السيئة التصوير والتي تُظهر الهجمات على الأميركيين في العراق، وكانت تُصور من سيارة مارة على جانب الطريق، العبوات الناسفة وهي تنفجر قرب قافلة أميركية وكان يمكن رؤية المقاتلين وهم يطلقون قذائف الهاون على القواعد الأميركية خارج الفلوجة، ولكن عندما يبدأ الخطف تنتقل أشرطة الفيديو إلى عالم جديد ظلامي، أكثر من ستين أجنبياً خطفوا في العراق في شهر يوليو 2004، أُطلق سراح معظمهم، لكن العديد منهم صُوروا أثناء اعتقالهم بينما كان يقرأ الخاطفون مطالبهم. كان رأس أنجيلو ديلاكروز المرمي جانباً كافياً لاندلاع التظاهرات في مانيلا وللانسحاب المبكر للوحدة الفيليبينية الصغيرة من العراق، لكن السيناريو أصبح روتينياً مرعباً كانت الضحية المعنية تجثو أمام ثلاثة رجال قُساة يحملون رشاشات كلاشنيكوف، وفي بعض الأحيان كانت الضحية تتوسل لإنقاذ حياتها وأحياناً أخرى تكون صامتة غير مبالية ظاهرياً إذا قُتلت أو بقيت على قيد الحياة، غير أن المشاهد يلاحظ شيئاً رهيباً لا تبدو الضحية مهتمة له... إذ عندما يجري قطع رأس الضحية، كان المسلح الواقف خلفها يلبس قُفازات هناك قراءة لحكم الإعدام وبعدها، حتماً تُسحب الضحية إلى اليمين، ثم ينحني أحدهم لينفذ عملية نحرها. كانت الضحية الأخيرة مواطن بلغاري وبينما كان كين بيغلي من ليفربول يظهر مرتدياً ملابس سجين مثل غوانتنامو، ويصرخ طالباً النجدة من طوني بلير، كانت صور الرومانيين، والفرنسيين واليابانيين، والكوريين، والأتراك ومن جنسيات أجنبية أخرى تمر أمام الكاميرات.

وترسل أشرطة الفيديو عادة الى واحدة من محطتي تلفزيون عربيتين ونادراً ما تُعرض كاملة لكن بعض شبكات الإنترنت المخزية، ولا سيما واحدة في كاليفورنيا، كانت تنقل مضمون الأشرطة كاملاً، على سبيل المثال نقلت شبكة إنترنيت أميركية قطع رأس الأميركي فرانك بيرغ، والكوري الجنوبي بالتفصيل الدموي والكامل، وعرضت الشبكة النسخة المختصرة والنسخة الطويلة لعملية قطع رأس كيم صن إيل، وتُظهر النسخة المختصرة رجلاً يقطع رأس الرهينة، أما النسخة الطويلة فتُظهر طلب الرحمة، الذي يستمر على الأقل دقيقتين وتليه عملية الذبح، وعلى الشاشة نفسها، وفي الوقت عينه تظهر إعلانات لـ «فتيات البورنو» و«فتيات الحصان»!


تعليم الذبح

شاهدت الشرطة العراقية جميع أشرطة الإعدامات، وهي تعتقد بأنها تتبع نموذجاً معيناً في قطع الرأس، في حالات عدة تحدث الخاطفون باللهجات غير العراقية، لكن في الفيديو المصور عن ثمانية سائقين أجانب، من ضمنهم كينيون وهنود ومصري واحد، يظهر المسلحون وهم يتحدثون باللهجة العراقية وقد طالبوا بأن تنهي الشركات التي تستخدم السائقين عقودها مع الجيش الأميركي في العراق، كما فعلت شركة بوقف عملها بعد خطف موظف مصري آخر، وبشكل واضح كانت المقاومة تحاول حرمان الأميركيين من العمالة الأجنبية، وإجبار المزيد من القوات الأميركية على التوجه إلى الخطوط السريعة الخطرة لقيادة قوافل التموين التي تعبر العراق يومياً.

من أين يأتي الإلهام لكل هذه الأشرطة المـــرعبة؟ في يناير 2004، اكتشف زميل لي شريط فيديو يُباع في عاصمة الثوار الفلوجة، ويعرض عملية قطع رأس جندي أميركي، في الواقع يعرض الشـــريط قـــطع رأس جندي روسي اقتيد إلى غرفة من قِبل رجال مسلحين في الشيشان.

أُجبر الجندي على الاستلقاء، غير عابئ ظاهرياً بمصيره، وفي البداية حاول التأقلم مع الألم، فيما كان رجل يوجه سكيناً إلى نحره، ثم قطع رأسه. وقد احتجت إلى شهور عدة قبل أن أدرك لماذا يجري تداول هذا الشريط؟ كان الهدف تقديم نموذج تدريبي للجلادين العراقيين الجُدد يعلمهم كيف يذبحون الإنسان، أخ لك في الدين أو أخ لك في الإنسانية.

لكن من وراء ذلك كله، وفوق ذلك كله، كان الشبح الذي يظهر في مؤخرة الكهف التاريخي هو شبح أسامة بن لادن. كل بضعة أشهر يُرسل شريط تسجيل صوتي، أو شريط فيديو لبن لادن شخصياً إلى قناة «الجزيرة»، وغالباً ما يُسلم إلى مندوبها في إسلام أباد وسيصبح هناك روتين محدد يعمل وفقه المراسلون، هل كان هو حقاً، متى صُور الشريط؟ وسيقول البنتاغون إنه يدرس الشريط، فيما ينهمك الصحافيون في التقاط أي تهديد كان يعلنه بن لادن غير أنهم نادراً ما كانوا يستمعون إلى الخطاب بكامله، والقيام بترجمة كاملة له ومعرفة ما كان يقوله بن لادن فعلاً، ذلك أنه لمعرفة ما يدور في ذهن بن لادن عليك الاستماع إلى الصوت، حتى لو كان الشريط مليئاً بالعبارات البلاغية حول امتطاء الجياد ونشر الرماح، ما يجعله مملاً إلى حد ما، يوم 27 ديسمبر 2001 على سبيل المثال، قرأ بن لادن قصيدة موجهة على ما يبدو إلى قتلة 11 سبتمبر، وكانت تحتوي على عبارات مثل: «سيف غاضب»، و«دروع»، «وصواعق مضيئة»، و«انفجارات»، و«عاصفة».


أحلام سبتمبر

مع ذلك فإن ما كان واضحاً أيضاً من هذه الأشرطة هو الاهتمام الكبير الذي يُبديه بن لادن بالتاريخ، كانت هناك إشارات إلى «وعد بلفور»، و«اتفاق سايكس ـ بيكو»، يوم 20 فبراير 2003 أوحى بأن صداقة بوش ـ بلير هي ترجمة لذلك، وبالطبع «معاهدة سيفر».

«إن أمتنا (العالم الإسلامي) تعاني من هذا الإذلال والانحطاط لأكثر منذ ثمانين عاماً.» هذا ما قاله يوم 7 أكتوبر 2001، وفي الشريط نفسه يلوم الولايات المتحدة على تقسيم فلسطين عام 1947 قال: «يجب أن لا نقبل أبداً أن تتكرر مأساة الأندلس في فلسطين». ربما كانت الأندلس أكبر عملية تطهير عرقي حصلت ضد العرب عندما قام فرديناند وإيزابيلا من إسبانيا بإقصاء المغاربة، واليهود، مع أن بن لادن لم يُظهر أي تعاطف معهم رغم أنهم كانوا من أهل الكتاب، من جنوب غرب أوروبا عام 1492.

وفي الشريط الذي زعموا أن عميل مخابرات بريطانياً وجده في منزل في جلال أباد بعد سقوط طالبان، ظهر بن لادن وهو يعترف بمسؤوليته عن هجمات 11 سبتمبر 2001، وبما أن معظم الشريط كان غير مسموع فقد ارتبت أساساً في ادعاء البنتاغون أنه استطاع ترجمة ملاحظات بن لادن وذلك إلى أن قرأت هذه المقتطفات: «كنا في معسكر أحد الأخوة الحرس في قندهار، وينتمي هذا الأخ إلى الأغلبية في المجموعة جاء إلى جانبي وأخبرني بأنه رأى في المنام مبنى مرتفعاً في أميركا، عند تلك النقطة صرت قلقاً من أن السر (الهجوم المقترح يوم 11 سبتمبر) سوف يُكشف في حال بدأ كل شخص يراه في حلمه، لذلك أقفلت الموضوع، أخبرته بأنه إذا حلم حُلماً آخر ألا يخبره لأحد.»

كيف أنسى تلك اللحظة المخيفة؟ قبـــل أربعـــة أعوام عندما ابتسم أُســـامة بن لادن لي قائلاً: «إن أحد الأخوة رأى حُلماً، وإن الأخ رآني على حصان وأنا مُلتحٍ، وأرتدي ملابس مثل ملابسهم، وإنني لذلك يجب أن أصبح مسلماً.» كانت الأحلام تتردد في أقوال أتباع بن لادن الآخرين وإن تأثيرها على «القاعدة» هو حتماً أكبر مما نتصور. ولنظريات الأحلام تاريخ طـــويل في الإســــلام منذ عام 866 ميلادية ناقش الفيلسوف الإسلامي ابن إسحاق الكندي هذا الأمر، وقال بأن النفس وقت النوم تتحرر من عالم الحواس وتصبح على تواصل مباشر مع «القوة المتخيلة»، ولا شك في أن أتباع بن لادن علموا بأن زعيمهم يحلم في كهوف أفغانستان.

بحلول عام 2004، لم يحاول بن لادن إخفاء تورط القاعدة في هجمات 11 سبتمبر 2001، خصوصاً مع قائد الخاطفين قال يوم 30 أكتوبر: «وافقنا مع محمد عطا، رحمه الله، على القيام بكل العمليات خلال عشرين دقيقة قبل أن يدرك بوش وإدارته ماذا يحصل». في هذا الشريط الذي جرى توقيته ليصادِف موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، توجه بن لادن خصوصاً إلى الأميركيين، كانت معظم رسائله موجهة إلى المستمعين العرب، ورد على خطاب بوش حول القاعدة قائلاً: «إنهم يكرهون الحرية».

قال بن لادن: «نحن نقاتلك لأننا أحرار لا نقبل الاضطهاد نريد أن نعيد الحرية إلى أمتنا، وكما ترمي القُمامة على شعبنا فإن علينا رمي القُمامة على شعبك».

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي