«الراي» في عرسال... رائحة البارود تهب من يبرود / يارا ومحمود وعدلا وسحر ومحمد أرادوا تفقد سقوط القذائف فأرداهم صاروخ سقط بالقرب منهم

عائلة تقيم في «الجحيم»... هكذا قضى أطفالها الخمسة بصاروخ

تصغير
تكبير
• وحدها الطفلة سمر «يتيمة الخمسة» تبقى الرمق الأخير للعائلة المفجوعة

• الوالدة عدنانة الحجيري: البيت كجهنم من دونهم أنا وزوجي وابنتي الوحيدة التي نجت نعيش بلا روح وبلا قلب وبلا عيون

• الوالد زاهر: ما من قوي وصلب يكابر على الألم في مسألة تتعلق بأولاده فما بالك بهذه المجزرة؟!

• النازحون من «قارة» السورية يتقاسمون الهمّ ويتشاطرون المُصاب بمصير ضبابي الملامح

• غرف متلاصقة تفوق الثلاثين تفصلها جدران خشبية ويجمعها سقف واحد وأبوابها مجرد ستائر

• الحال الاقتصادية تضطر النازحين إلى بيع بعض المساعدات التي تُقدمها منظمات إغاثية لشراء المازوت للتدفئة
على «كومة» البحص والتراب المرقطة بالدم، تركت يارا ذات الأعوام الستة حذاءها الزهري أمام منزل والديها في عرسال (البقاع الشمالي) ورحلتْ. هي لم «تتنازل» عنه بسهولة؛ فالصاروخ «الغاشم» الذي باغتها في يوم عطلتها المدرسية شظى الطفولة في عينيها... خارت قواها فسقط من قدميها، بعدما «لفظت» براءة ابتسامتها الأخيرة. أخوتها محمود، عدلا، سحر ومحمد، عانقوا روحها، فحلقوا سويا في السماء، تاركين أجساداً طرية أكبرها لم يتجاوز الثالثة عشرة وأصغرها رضيع في شهره الثامن عشر.

أبناء زاهر الحجيري ليسوا أول غيث قافلة الشهداء في عرسال ولا آخره. آخرون سبقوهم ولحقوا بهم، لكنهم الذاكرة الأكثر ايلاماً للاعتداءات المتكررة على البلدة من الجانبين اللبناني والسوري.

وبعد أقل من عشرين يوماً على «المجزرة» التي أودت بـ يارا وأشقائها اثر صاروخ شقّ طريقه الى فسحة الطفولة في عرسال، اصرارٌ من الأهالي على ان قصف البلدة ذات الغالبية السنية والتي تناصر بغالبيتها الثورة السورية جاء من الداخل اللبناني وليس من الجانب السوري، وغضبٌ يعتمل تحت دماءٍ جفت على التراب المفجوع. هنا تماثلت ذاكرة المكان لـ «المصاب»، وغابت «ضحكات اللهو المجنونة» في غفلة من الأيام الآمنة ونزفت «دموعاً ودماً».

داخل المنزل العرسالي - التوأم لكل بيوت البلدة بتواضُعه و«خشونته» لتحمّل «رداءة» البيئة الجبلية وصلافتها، لا صوت يعلو فوق هدير الصمت. لا خطوات مهرْولة تضجّ بين الغرف. لا أيادي متدافعة لالتقاط القوت. حقائب المدرسة في احدى زوايا الغرفة ما زالت في «عطلتها الأسبوعية» مذاك اليوم المشؤوم، فلا ترداد للمحفوظات أو مذاكرة لدروس القواعد. هنا لا بكاء لطفلٍ حان موعد رضّاعته، ولا نهرة أبٍ بأولاده لتقصيرهم في الدرس. لا أنفاس. وحدها الدموع المنهمرة من عينيْ الوالدة «المحروقة القلب» تنسكب من حدقتيها صامتة لتغسل في مسارها وجنتين شاحبتين أعياهما اللطم والبكاء فتتأوه.. بصمت أيضاً.

عدنانة الحجيري فَرُغ منزلها من المعزين، بقيت بضع جارات وقريبات ليقضين معها يومياتها الحزينة علهن يقطعن عليها لبرهة شريط الذكريات الموجعة منذ ولادة أطفالها حتى استشهادهم، دون أن يفلحن في تحقيق المبتغى. تجلس الوالدة المفجوعة بصمت. تشخص بنظرها عبر النافذة، كأنها تراقب أولادها في الأفق البعيد. تذرف دموعاً غزيرة وتكظم صرخة مدوية حين تذكّر نفسها بأنهم «في الجنة شهداء الى جوار ربهم».

تستذكر عدنانة في حديث متقطع لـ«الراي» بلّلته بدمع وفير، يوم الجمعة في 17 يناير الفائت، فتشير الى أن «أولادها كانوا في المنزل يقضون عطلتهم الأسبوعية، وقد هرعوا عند سقوط قذائف في محيط المنزل لتفقّد الأضرار التي أحدثتها، وعند وصولهم الواحد تلو الآخر الى المدخل الصخري، باغتهم صاروخ آخر دلف الى المنطقة بمكر، فسقط على بُعد خطوات منهم موزعاً شظايا قاتلة بكل اتجاه، فأرداهم».

السيدة الثلاثينية التي تتعثر الكلمات عندما تشقّ طريقها من فؤادها المحترق، تصمت بين الكلمة والأخرى. يطول الصمت. تكبح دمعة بمنديلها. وتقول بصوت خافت: «البيت كجهنم من دونهم، أنا وزوجي وابنتي الوحيدة التي نجت من المصيبة، نعيش بلا روح. بلا قلب. بلا عيون». وتضيف بمرارة: «سمر، ذات العشر سنوات والتي أصيبت في ذلك اليوم بجروح، كانت تعيش وسط أسرة سعيدة، تتواصل مع أخوتها وتتشاطر معهم يومياتهم بحُلوها ومُرها. باتت صغيرتي اليوم وحيدة دون أخت أو أخ».

الأم التي تخشى على مستقبل ابنةٍ ستتابع حياتها وحيدة تصارع مكائد القدَر، ترفض أن تتحدث سمر، التي عاشت الواقعة وشاهدت أخوتها طريحي «التراب» مضرجين بدمائهم، لـ «الراي» أو الى أي وسيلة اعلامية أخرى، لافتة الى أن «الطفلة لا تزال تحت وقع الصدمة، ناهيك عن أن جراحها لم تندمل بعد».

في غرفة الأطفال الستة، ألعاب مهملة راح الغبار يحيك ستاراً لها، فيخبئ تحت خيوطه الشفافة بصمات الأنامل الفتية. فلا يد ستمتدّ الى العربة الصغيرة. الدمية ستبقى في علبتها، ولن يُسرَّحَ شعرها الأشقر. الدب المحشو سينام وحيداً في فراش بارد لن يتسلل الدفء اليه مطلقاً. أما دفاتر الرسم وأقلام التلوين فهي ستمكث طويلاً على أحد الرفوف... وحتى سمر لن تهوى التلوين بعد اليوم من دون أشقائها.

وسط حاجيات شهدائها وذكرياتهم، ترفع عدنانة صورة أبنائها الست، تشير بالبنان الى كل واحد فيها، هذا محمود وذاك محمد. وهؤلاء سحر وعدلا ويارا. تضمها الى قلبها كمن يحتضن حبيباً في وداع أخير. تطبع عليها قبلة ما قبل نوم عميق لن يستقيظوا منه. «كانوا كالملائكة، يأخذون على عاتقهم قسطاً من أعمال المنزل»، تقول الأم الثكلى، مشيرة الى «أنهم لطالما تعاهدوا على عدم اغضابي كي لا أشعر بالحزن». تصمت. ثم تختصر ألمها بعبارة يتيمة زفرتها بأسى من أعماق محروقة: «اشتقتُ اليهم».

الوالد الذي يستعين بتلاوة القرآن الكريم والصلاة للتحلي بالصبر والسلوان لتحمل المصاب، يؤكد أن «ما من قوي وصلب يكابر على الألم في مسألة تتعلق بأولاده، فما بالك بهذه المجزرة».

دمعة تتلألأ في عينيه تخضب كلامه المتخم بالألم، حين يسأل بيأس: «ما ذنب أولادي ليُقتلوا؟»، ويأسف لأن «أحداً من المعنيين لم يحرك ساكناً حتى الساعة ليأخذ حق أبنائي»، متداركاً: «أولادي قُتلوا ظلماً وباذن الله لن يضيع حقهم عنده».

يستذكر زاهر الحجيري، بائع «الكنافة»، ذاك اليوم فيما كان يشير لـ «الراي» الى مكان سقوط الصاروخ والرقعة التي تهاوى عليها أبناؤه شهداء: «لم أكن في المنزل يومها، هاتفني أخي وقال لي ان أطفالي مصابون جراء القصف. سألتُه عن مزيد من التفاصيل، فأجاب بأنني سأطلع عليها كلها عند عودتي». ويضيف بغصة تبتلع صوته: «عرفتُ حينها أن مكروهاً أصابهم وأن المسألة تفوق الاصابة، لم تجفّ دمعتي منذ تلك اللحظة، قبل أن أودّعهم وحتى وأنا أودعهم في مثواهم الأخير».

الوالد الذي ترتسم ملامح أطفاله أمامه كلما وطأ عتبة المنزل، تتدافع الذكريات لتدمي مقلتيه عندما يعود من عمله فلا يسمع أصوات الأولاد مهلّلين بعودته ولا يراهم يتزاحمون من أكبرهم حتى أصغرهم ليعانقوه ويلاعبوه قبل الانصراف الى دروسهم وألعابهم. البيت اليوم مقفر، لا طعم للحياة فيه ولا لون. وحدها سمر هي الرمق الأخير للحلم. يتجرّع زاهر الكأس المُرة بصمت على مضض، ليتهرّب من الاجابة عن سؤالها المتكرر عن مصير أخوتها. «أترك المهمة لأمها عندما تسألني أين أخوتي.. لا أعلم بأي جواب تخدّر قلقها الذي لا يلبث يعاود السؤال بالحاح».

ولدى سؤاله عن الجاني الذي قتل أولاده، يؤكد زاهر أنه «الجاني نفسه الذي يقتل كل اللبنانيين، فالصواريخ معروفة المصدر كعين الشمس، وهي جاءت من منطقة لبنانية قريبة وليس من خلف الحدود كما تقول السلطات الرسمية»، مرجحاً «أن تكون عرسال كلها تدفع ثمن مواقفها السياسية».

وبعبارة «لا أعلم ما الذي يُطبخ لهذه البلدة»، يتوقّع «ابو الشهداء» زاهر الأسوأ، ويضيء لـ «الراي» على ما يقول انه «سوء المعاملة التي يَعامل بها العرسالي من الأجهزة الأمنية»، لافتاً الى أنه «عند نقل سمر الى المستشفى لمداواتها من الاصابة، لم يقبلوا ادخالها قبل الاطلاع على نشرتها (القضائية)».

ويضيف: «في اليوم التالي، ذهبنا لزيارتها فأوقَفنا حاجز الجيش واحتجزنا أنا ورجل آخر من عرسال. وفيما كنتُ أسرد لهم مصابي، كان العناصر يكبّلوننا بشرائط بلاستيكية ليتم اقتيادنا الى ثكنة قريبة دون أي وجه حق. ثم بعد مرور الوقت فكوا قيدنا بحجة الاطلاع على نشرتنا التي دحضت الاشتباه بنا، بحسب ما قالوا. لماذا هذا الذل المتعمد لأبناء عرسال؟»، مؤكداً أن «الجيش اللبناني بات طرفاً وهو لا يتوانى عن اهانة أيّ عرسالي».

زاهر ومَن تبقى من أسرته، الذين يطوّقهم الحزن كواقع لا انعتاق منه، لم يتقبلوا حتى الآن فكرة الغياب أو يصدّقوها حتى. وهم لا يعلمون كيف ستكون الحياة من دون الذين رحلوا... وحدها سمر تبقى «زهرة» أيامهم التي نخرتها «أشواك» موتٍ طرق بابهم 5 مرات في «زيارة» واحدة خطفت فلذات اكبادهم الخمس الذين غادروا المنزل في رحلة... بلا عودة.

... حكايا المعاناة للاجئين هربوا من الموت إلى الموت

| بيروت - من آمنة منصور |

تحت قرص شمس فبراير وأشعته الذهبية المنسدلة كحبال نجاة من برد عرسال القارس، يخرج الأولاد للعب. تُعلَّقُ مشابك الغسيل وتتلاصق البطانيات وقطع السجاد المتهالك على أسلاك مهملة تنازع الريح، فتجعل من «المجمع السكني» للنازحين السوريين المأوى «غير الشقيق» لخيم اللاجئين في عرسال المأهولة بما يزيد على ستين ألف نازح يكابدون مرارة الظروف فتنشد حناجر أطفالهم في ساحات الطفولة «الوعرة» أناشيد الحنين للوطن وتراتيل للحرية.

«الزُلم»، الذين حملوا أطفالهم وجاؤوا بنسائهم من قرية قارة السورية المجاورة عند اندلاع الاشتباكات فيها متأبطين ما تيسر من الحاجيات، يدخنون في القرِّ لفافات التبغ. يتحادثون. وحين تجد بعض النكات طريقها الى أحاديثهم المثقلة بصور الموت والدمار وروائح الدم والبارود، ترتسم ابتسامة طفيفة على وجوههم لبرهة ثم تختفي. تطول الجلسات اليومية بالأحاديث تارة وطوراً بالصمت. عقارب الساعة المتكاسلة تطوي النهار تلو الآخر بجهد. لا برَكة في أيام تخلو من الحركة؛ فقلة قليلة من الرجال النازحين تأويهم المقالع لنشْر الحجر العرسالي الشهير. بعضهم يتدبر أمره بورشة متواضعة هنا أو فرن هناك؛ الآخرون يشعلون ناراً يتحلقون حولها، أو يستندون الى حزنهم في زاوية مشمسة لينفثوا همومهم مع زفرات دخان سجائرهم ورشفات الشاي الشحيح. فيما يقضي عدد من الشبان نهارهم بالنوم استعداداً لنوبات الحراسة الليلية لأحلام الطفولة بالعيد، وأماني النسوة بالأمان وآمال العجائز بموت رحيم.

داخل المبنى غير المكتمل يتوزع البؤس على طبقتين يبلغ ايجارهما 2500 دولار أميركي، فتختزل مساحة متواضعة تعود ملكيتها لأحد أبناء عرسال مأساة على امتداد وطن. أهل قارة الذين نزحوا عنها مكرهين هرباً من الهلاك، يتقاسمون هنا الهمّ ويتشاطرون المُصاب عبر غرف متلاصقة تفوق الثلاثين تفصلها جدران خشبية ويجمعها سقف واحد تخترقه صلواتهم للعودة السريعة الى الديار صبح مساء.

الغرف المرصوصة يمنة ويسرة كأثلام زرعها العوز لترويها الدموع، تلتزم «ديكوراً» موحداً قوامه بضع بطانيات وقليل من الثياب الرثة، فضلاً عن عدد من الأطباق لا يوازي بالضرورة عدد أفراد الأسرة. المدافئ في هذا «النزل» الفقير المفتوح الاقامة، دليل نِعم، وشرارات الدفء لا تنبعث منها الا في الغرف الأقل بؤساً. أما المؤن فهي كنز ثمين يتوارى عن الأنظار ولا يعتلي الرفوف الخشبية المستحدثة للافادة من المساحة الواسعة طولاً، فالنازحون يحفظون رغيفهم الأبيض ليومهم الأسود، الذي تشحّ فيه المساعدات.

وفيما يأخذ الستار السميك على عاتقه دور الباب لكل حجرة، ليؤمن للعائلات شيئاً من الخصوصية وقليلاً من الأمان بين الجدران الأربعة الهشة، تحرّر الفتيات ضفائرهن السوداء والذهبية من الحجاب، وتتبادل النسوة بكثير من الفضول أطراف الحديث، أو يرضعن مواليدهن الجدد. المراحيض، فصل آخر من يوميات المعاناة، لا سيما مع الازدحام الدائم أمام بابين لا ثالث لهما لقضاء الحاجة، بينما ينظِم جدول للعائلات «المقيمة» مواعيد الاستحمام بعملية حسابية بسيطة لكن معقدة النتائج تقسم أكثر من ثلاثين عائلة على ثلاثة حمامات... غالباً ما «ينقطع ماؤها» فيتوجه الصبية الى سبيل ماء قريب ليملأوا الخزانات بدلو تلو آخر.

أهالي قارة الذين نزحوا عنها بسبب المعارك، ويبررون اختيارهم عرسال دون غيرها بقربها الجغرافي، يرفضون الحديث عن ميول سياسية حملتهم الى هنا، رغم الهوية المعلنة لعرسال التي «أشهرت» مبايعتها للثورة في سورية منذ اللحظات الأولى لاندلاعها واذا بها تدفع ثمن خيارها دماراً ودماً. هم هنا مهما كانت آراؤهم المضمرة أو المعلنة... ينتظرون على قارعة النزوح مصيراً ضبابي الملامح، شاكرين فضل بلدة أوتهم وأيدٍ أطعمتهم وكل محبّ خفف عنهم وطأة النزوح ولو بكلمة ود ومواساة.

فبسام من قارة، ذاق للنزوح طعماً أمرّ عندما قصد طرابلس بحثاً عن ظروف أفضل، فاذا بارتفاع أسعار الايجارات يحبط آماله باقامة مريحة ويعيده الى عرسال، ليحجز لنفسه غرفة تستر عياله وتوفر ماله. يرمق الرجل الخمسيني غرفته المتواضعة بحزن. يفرك كفيه استسلاماً لقضاء ربه. ويقول شاكياً: «لم أجد عملاً لي في عرسال ومحيطها. لطالما عملتُ كسائق (بولمان) في سورية، فأي صنْعة سأتقنها الآن في هذه السن؟».

دون تحفظ، يكشف بسام أن الحال الاقتصادية التي تزداد تردِّياً تدفعه وكل المقيمين الى بيع بعض المساعدات التي تُقدمها منظمات اغاثية وأياد بيضاء من وقت الى آخر ليشتروا المازوت للتدفئة «فالبرد قارس وأبناؤنا تصطك أسنانهم ليلاً».

«أبو فارس» يضحك ساخراً عند سؤاله عن «جنيف 2»، مؤكداً أن «أي مفاوضات لا تعنيني، ولا أعرف أي شيء لا عن جنيف 2 أو 3 أو 10». ويشير باصبعه الى الغرف المترامية في كل الاتجاهات: «هنا لا تلفزيون ولا جهاز راديو حتى، نطوي بجهد صفحة يوم لنبدأ آخر، بانتظار الفرج. لا نعرف ماذا يخبئ لنا الغد، ولا الساعات المقبلة حتى». ثم يصمت مبتسماً، ليترك لصدى الشقاء المنبعث من كل غرفة تأكيد أن المجمّع أُتخِمَ بالضجيج ولا يحتمل المزيد.

«أسيل» ابنة الأربع سنوات تكشف لـ«الراي» بفخر عن اسمها فيما تجهد لتخبئ وجهها الشاحب في بطانية تتدلى من احدى الغرف. توضح بصوت خافت سبب تجولها وحيدة بين الغرف، مشيرة الى «أنها تبحث عن صديقتيها «دلع» و«أريج»، لتلعب معهما». هي غير معنية بالسياسة، ولا تعرف معنى الكلمة حتى. جل ما يعنيها هو الانعتاق من غرفتها الضيقة، فتطلق في الفضاء المفتوح صخب طفولتها النازحة.

تشكو أسيل لـ «الراي» فراقها عن لعبتها الشقراء التي تركتها في سورية، وتتلعثم حين تكشف أنها لا تملك المال لشراء أدوات منزلية بلاستيكية جديدة للعب «بيت بيوت»، مشيرة الى «أنها ستنادي (بنات الجيران) للعب (يا سلوى) و(طميمة) (غميضة) في الخارج ككل يوم»، فغرفة والديها التي تأوي أسرتين تضيق على احتواء الطفولة وصخب فرحها.

أمها سناء، لا تخجل بحال غرفتها الضيقة التي تأوي 12 فرداً، مؤكدة أن «الناس للناس»، وهي لن ترضى أن تشرد أسرة صديقة جمعها بها طيب المعشر في الأيام الخوالي هناك في قارة «أم الكل». وبسخرية تصف غرفتها المتواضعة بالـ«قصر»، مشيرة الى أنها «لا تشبه اطلاقاً بيتنا الشاسع والمشمس في سورية». وتردف: «أفتقد أريكتي المريحة، وأحنّ الى صوت آلة الخياطة خاصتي. أريج أزهاري التي غرستها بيدي في خلفية المنزل أتنشقه كل صباح من هنا، فأتنفس الصعداء على أمل أن نستيقظ من هذا الحلم المزعج».

سناء التي تهمّ بتحضير وجبة العشاء لأسرتها وضيوفها، تشير بأسف الى أن عائلتها تشتهي الكثير من المأكولات التي لطالما تباهت بمهاراتها العالية في اعدادها. فتقول: «نشتهي الكباب واللحمة، لم نأكل منذ زمن بعيد المحاشي واليخنات الساخنة المطيبة بالسمن الحموي الشهير... سأعدّ كما في كل يوم المعكرونة لنتناولها على أنها احدى وجباتنا المفضلة. سمكة حرة أو دجاج مشوي ربما».
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي