على غرار الفيلم الأميركي الشهير «كنا جنوداً» تتوالى اعترافات مسؤولين كبار في الإدارة الأميركية تحت عنوان صريح «كنا كذابين»، وآخرهم المتحدث السابق الشهير للبيت الأبيض سكوت ماكليلان، والذي ظل أعواماً في منصبه يردد ما تريده الإدارة الأميركية، حتى خرج أخيراً على العالم في نهاية شهر مايو الماضي بكتاب أحدث ردود فعل شديدة، جاء فيه: «إن حرب العراق لم تكن ضرورية، وإن قرار الغزو كان خطأ استراتيجياً كبيراً». ولم يكتفِ في هذا، بل اتهم الرئاسة صراحة بـ«أنها خدعت الشعب الأميركي وكذبت عليه عن عمد لتمرير الحرب».
اللافت أن سكوت ماكليلان كان لسان بوش وإدارته، وما جاء ينتقده بعد ذلك «ربما هو تأنيب الضمير»، ومن قبل فعل كولن باول الذي ظل ساعتين، وهو وزير خارجية يبرر في مجلس الأمن العام 2003 القرار الأميركي بالحرب على العراق، ثم بعد استقالته انتقد قرار الحرب في محاضرة شهيرة في ميامي في يناير الماضي، ومن قبلهم فعلت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين أولبرايت التي عادت بعد استقالتها تنتقد الإدارة الأميركية.
وقد انهالت التقارير والدراسات التي تؤكد كذب الإدارة الأميركية في خطابها السياسي وتصريحاتها المقننة لقرارات سياسية بالغة الخطورة.
ومن تلك الدراسات ما نشرته أخيراً منظمتان أميركيتان مستقلتان في دراسة بعنوان «حجج واهية»، فهي تحتوي ما يعد فضيحة سياسية لمصداقية البيت الأبيض، وأركانه، التي تهاوت بشكل لافت في هذه الدراسة التحقيقية. ففي الدراسة إحصاء عدد التصريحات الكاذبة التي أدلى بها المسؤولون في الإدارة الأميركية بين العام 2001 والعام 2003 عن الخطر الذي يمثله العراق، وهي دراسة جعلت الإدارة محل نقد ساخر في العالم. فقد فضحت الدراسة دعاوى النزاهة كلها وآليات الديموقراطية التي تحقق المراقبة، كما زعموا.
الدراسة أعدها مركز النزاهة العامة والصندوق من أجل صحافة مستقلة بمناسبة قرب انتهاء ولاية بوش الثانية. والدراسة تعد بمثابة فضيحة مع نهاية ولاية رئاسة بوش وإدارته، وقد جاء في الدراسة: «إن تصريحات الإدارة شكلت جزءاً من حملة منظمة أثارت الرأي العام ودفعت البلاد إلى الحرب على أساس تصريحات كاذبة تماماً».
وأضافت: «إن الرئاسة الأميركية وسبعة مسؤولين كبار في الإدارة، بينهم نائبه ديك تشيني، ومستشارة الأمن القومي آنذاك كوندوليزا رايس، ووزير الدفاع (السابق) دونالد رمسفيلد أدلوا بما لا يقل عن 935 تصريحاً كاذباً في العامين اللذين تلا 11 سبتمبر 2001 عن الخطر الذي يشكله العراق في عهد صدام حسين على الأمن القومي الأميركي».
وأوردت الدراسة أن باول كان نصيبه 244 تصريحاً كاذباً عن أسلحة الدمار، وعشرة عن العلاقة مع «القاعدة»، ورايس كان نصيبها 56 تصريحاً كاذباً، وتشيني 48 تصريحاً كاذباً، وعلى هذا النحو تسجل الدراسة نصيب باقي أركان الإدارة من الأكاذيب.
وقد تناولت الدراسة مئات التصريحات والمداخلات العامة لمسؤولين كبار في الحكومة، وأشارت الدراسة إلى أن «خطابات ومؤتمرات صحافية ومقابلات لبوش ووزير الخارجية(السابق) كولن باول، ومساعد وزير الدفاع(السابق) بول وولفوفيتز، والمتحدثين باسم البيت الأبيض آري فلايشر وسكوت ماكليلان، والتي أكدت، خطأ، أن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل، أو يحاول امتلاكها، أو أن لديه صلات مع (القاعدة) أو الأمرين معاً نحو 532 مرة في العامين اللذين سبقا التدخل الأميركي في العراق في مارس 2003».
وتذرعت الولايات المتحدة وقتها بامتلاك العراق ترسانة من أسلحة الدمار الشامل لتبرير اجتياح هذا البلد، غير أنه لم يعثر على أثر لها بعد احتلاله. كما أوردت الدراسة خطاباً لتشيني في أغسطس العام 2002 قال فيه: «لا يوجد شك في شأن امتلاك صدام حسين أسلحة دمار شامل»، بينما أعلن مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (السابق) جورج تينيت في وقت لاحق أن هذه التأكيدات كانت تتجاوز كثيراً تقديرات الوكالة؟
ومن تلك التصريحات ما أعلنه بوش في كلمته الإذاعية الأسبوعية في سبتمبر 2002 أن العراق يمتلك أسلحة بيولوجية وكيميائية، وأعاد بناء منشآت لصنع المزيد منها، ويمكنه أن يشن هجوماً كيميائياً أو بيولوجياً في غضون 45 دقيقة، وهو يسعى إلى امتلاك القنبلة النووية، ويمكنه صنع واحدة خلال عام باستخدام مواد انشطارية.
وهكذا كانت تصريحات الإدارة محشوة بالكذب، ففي الشهر نفسه قالت رايس: «إن الولايات المتحدة يجب ألا تنتظر دليلاً على قدرات العراق النووية»، وحذرت من أن بلادها لا تريد أن تتحول بندقية الدخان إلى سحابة مطر.
وجمعت تلك التصريحات التي جمعتها المنظمتان في الدراسة من عدد من المصادر، من بينها موضوعات الأخبار وتقارير الحكومة والكلمات التي ألقاها الرئيس بوش ومعاونوه.
ومن الواضح أن الإدارة الأميركية أدمنت الكذب، وربما هي تراه كذباً أبيض، وبالتالي لا حرج للبيت الأبيض في الكذب الأبيض.
وأخيراً، لا يخفى أن النظام العراقي السابق كان مستبداً، ولكن أيضاً الإدارة الأميركية لم تكن صادقة في مبررات حربها باعتراف المسؤولين الأميركيين الذين تواترت تصريحاتهم ودراستهم عن حقيقة واحدة مفادها «كنا كذابين».
ومن اللافت أن الرئيس الأميركي اعتمد في دعايته الانتخابية للترشيح إلى الرئاسة الأميركية على مقولة انتخبوني لعودة النزاهة والمصداقية للبيت الأبيض؟
ممدوح إسماعيل
محامٍ وكاتب مصري
[email protected]