مقال / رغم لصوص الحياة !

تصغير
تكبير
منذ ما يزيد على عشر سنوات من اليوم، لفتتني حال السلحفاة البحرية التي تخرج من مياه البحر، ساعية إلى الرمال الدافئة لتضع بيوضها في حفرة تصنعها، فتبيض ثم تطمر الحفرة، عائدة إلى البحر من جديد لتتابع حياتها، آملة، بل وواثقة من أن البيوض ستفقس عن سلاحف صغيرة تتجه نحو البحر لتتابع الحياة رافدة جنسها بأجيال جديدة.

تعود واثقة بأملها، من دون أن تدري أن لصوصاً يتتبّعون خروجها وعودتها ليقوموا بسرقة البيوض كلها ونقلها إلى الأسواق بغية بيعها للزبائن الراغبين بها! وبالطبع، لن تخرج أجيال جديدة من الحفرة، ولن تحتوي هذه الأخيرة سوى الخواء والخيبة!

تساءلت حينها، وأتساءل اليوم: ولكنْ... ما عساها تفعل السلحفاة الأم لو هي علمت بما يحدث على أيدي اللصوص سوى أن تعاود ممارسة الحب، وتعاود الخروج والإباضة، ثم تعود إلى البحر آملة؟!

هل بإمكانها ـ أساساً ـ أن تفعل غير ما تفعله؟ هل من سبيل، وهي حيّة ترزق، سوى أن تسعى لاستمرار حياتها، وتجاهد ليحيا أبناؤها ويستمروا بالحياة؟ رغم وجود اللصوص؟ بلى! ورغم الاعتداء السافر على أحلامها وآمالها وحقها؟ بلى! إذ لا مناص، في الحياة، من استمرار المحاولة لاستمرار الحياة!

الأمر نفسه ما يجري الآن في عدد من بلدان الربيع العربي. ثمة مكافحون لإدامة الحياة، وللمحافظة على الحق في الحياة بكرامة وحرية. وثمة قتلة، طغاة، مستبدّون، يسرقون أحلام الناس، يهينون كراماتهم، ويجهزون على أبنائهم، والأجيال الجديدة.

ثمة مستبدّون لا عمل لهم، ولا همَّ لديهم، سوى أن يترقّبوا ويتتبّعوا، عبر العسس، الأزهارَ الواعدة لاستئصالها، وإعدام كل أمل بأن تتبرعم وتثمر وتعطي. ثمة مستأثرون لا يريدون الحياة لغيرهم، ولا الكرامة لغيرهم، ولا الحرية لغيرهم.

كل أفانين الاحتيال والقمع لديهم. كل إمكانات المصادرة والإلغاء في حوزتهم. وُجدوا في الحياة ليقضوا على الحياة... ما السبيل أمام الناس سوى أن يجاهدوا ليحيوا، وسوى أن يحاولوا لتستمر الحياة عبر أبنائهم وأحفادهم، وسوى أن يُقاوموا العسف والتنكيل والسجون والقتل؟

ليس النجاح المؤكّد هو الميزان، وليس الفوز بالحياة الكريمة هو الجدوى. بالطبع، النجاح هو الهدف، وبالطبع الجدوى هي الغاية، غير أن ذلك حين يمتنع- أو يُمنع من التحقّق- فإن الحياة لا تتوقّف، ومحاولة الحياة لا تمتنع، بل ما من سبيل لمنع الحياة وإعدامها..

ستكون آلام كبرى بالطبع. وستحدث كوارث في مسيرة الناس بالطبع. وستنشأ أحزان لا حصر لها بكل تأكيد. غير أن عبور الطريق إلى الحياة سيظل العبور إلى الحياة، حتى لو فشلت المحاولات مرات عديدة، ونجحت في مرات قليلة.

لطالما كنّا نستاء من التواكل، ولطالما كنا نذمّ التقاعس ونلعن عدم النهوض لدى شعوبنا العربية. لطالما شكونا في مختلف الأجناس الأدبية وألوان الفنون من غياب الفجر، واستمرار الليل الدامس في حيواتنا ومجتمعاتنا. لطالما قلنا ذلك حتى بتنا نخال أن هذه الشعوب العربية لن تقوم لها قائمة، ولن تنهض للدفاع عن حريتها وصون كرامتها من الاستبداد والهدر.

لكن شعوبنا ـ على عكس ما كنا نخاله ـ نهضت الآن وهي تسعى وتحاول.

بلى، تتعثر، وتشتبك، وتختلف، بل وتكاد تحيد عن الطريق إلى الحرية. غير أنه ما من سبيل سوى أن نحاول مرة بعد مرة حتى يحلّ الربيع الحقيقي، ونتجاوز قروناً من الظلام والظلم.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي