مقال / لا بدّ من ثمن!

تصغير
تكبير
لفتني قول أحد السياسيين الليبيين تعقيباً على الأحداث الأخيرة والمظاهر المسلحة التي عمَّت طرابلس، وتجمّع متظاهرين حول البنك المركزي مطالبين بإسقاط الحكومة.. لفتني قوله: إن قانون العزل السياسي قد حرم ليبيا من كفاءات استخبارية مهمة جداً.

وهو «حرمان» لا بدَّ أن دول الربيع العربي عانت ـ وتعاني ـ من آثاره، سواء على الصعيد الأمني أو على الأصعدة الأخرى، لأن الكفاءات التي كانت تعرف مداخل حقول عملها ومخارجها، وسبل إدارتها- بصرف النظر عن وجهتها- قد أُبعدت باعتبارها جزءاً من النظام السياسي والسلطة الحاكمة التي تمَّ إسقاطها.

هل نستطيع القول: إن حلول الربيع العربي قد «رحَّل» الكفاءات ليجد البلد نفسَه إزاء قحط وجفاف من حيث أراد أن يُزهر ويُثمر ويزدهر؟ في الجواب السريع: بلى! ولكن مع شيء من التأني نجد أن لا سبيل إلى غير ذلك.

إذ كيف يمكن الإبقاء على الأجهزة الأمنية ورجالاتها، خبراء مداخلها ومخارجها وتفاصيلها، وهي، وهم، ركن من أركان الاستبداد الذي كان؟! رجال الأمن تحديداً هم حملة النظام الاستبدادي، وحماته، وكفاءاتهم هي الطاقة اللازمة لاستمراره عقوداً. من دون الأجهزة الأمنية على النحو الذي كانت عليه، ومن دون العقلية التسلطية، الإلغائية، القامعة لأي رأي آخر، ولأي قوى أخرى غير قوة النظام الحاكم، ما كان لهذا الأخير أن يستمر وأن «ينعم بالأمن» والسيطرة والهيمنة على مختلف القوى والأطياف السياسية!

ما الذي أبقى على نظام معمر القذافي وسلطته الفردية المطلقة ما يزيد عن عقود أربعة سوى أجهزة أمنه التي راح المسؤولون فيها يحصون على الليبيين أنفاسهم، وتحركاتهم، وكل شاردة لديهم وواردة؟ ما الذي أبقى على النظام السابق سوى «الكفاءة» في مراقبة الليبيين وقمعهم، وسوى «خبراء» إخلاء ليبيا من كل معارضة يمكن أن تشكّل خطراً على النظام؟

كيف لهؤلاء- بعقليتهم وفهمهم لدور أجهزة الأمن- أن يستمروا في تولّي مناصبهم في ظل ثورة قامت لإطاحة النظام الاستبدادي وعقلية رجاله؟ وبالمقابل، كيف للثورة أن تبني نظامها الديموقراطي، العادل، والحر من دون خبرة رجال الحرس القديم ومعارفهم العملية؟

من المؤكد أن ثورات الربيع العربي تفتقر إلى أصحاب الخبرة العملية ـ وإنْ كان ثمة كفاءات ومعارف نظرية- ممن يمكن لهم أن يديروا شؤون البلاد على أحسن وجه، وأن يمضوا بأهداف الثورة على خير ما يرام. الخبرة العملية لدى المستبدين، والمعرفة النظرية لدى أبناء الثورة، فما السبيل؟

تلك هي إحدى كبرى العقبات أمام الثورات بعامة، لأنها إذ تطيح بنظام استبداد دام لعقود، إنما تطيح معه «بكوادر» خبرت، وجرَّبت، ومارست، غير أنها صبَّت ذلك كله في طاحونة النظام الفردي الديكتاتوري.

لا بدّ من ثمن!

وربما كانت أحداث ليبيا مؤخراً، وتونس، ومصر، وغيرها جزءاً من الثمن الذي لا بدَّ من دفعه، سواء جاء تحت اسم العزل السياسي أم تحت أي مسمى كان. سيجد كل بلدٍ طريقه وطريقته إلى حياة الحرية والتعددية والتداول والكرامة. وسيتعثر لسنوات ربما، لكن لن يكون متعثراً إلى النهاية. وسيفتقر إلى الخبرات والكفاءات، لكنه يصعب أن يستعين بـ «كفاءات» الحرس القديم التي نمت وتشرّبت تجربة حياة أخرى غير الجديدة التي جاء بها الربيع العربي.

رغم ذلك ثمة ما تمنحه الحياة، ويكون قبلاً غير وارد على تفكير أو حساب. ثمة ما تبتكره التجربة. ثمة ما يوفّره التغيير، ولكن ليس دون أثمان ـ مع الأسف ـ وليس دون ضريبة تُدفع إلى أن تستقيم التجربة وتنهض.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي