رؤى / النقد في صدر الإسلام

تصغير
تكبير
| عبدالله عيسى |

ليس من المتوقع أن ينتقل الأدب من عصر الجاهلية إلى العصر الإسلامي دون تغيير بفصوله، وهذا ما كان رغم أن التغيير لم يكن بذاك الأثر، إلا أنه يعتبر نقلة من حيث المصادر النقدية.

بدأ كل شيء حين نزل القرآن مشيراً إلى الشعراء بالسورة المسماة باسمهم حيث قال (والشعراء يتبعهم الغاوون الم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون)، فإن هذه الآية أعطت توجيها للشعراء جديداً ينطلقون منه وظافرها في ذلك أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كقوله (لإن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلأ شعراً)، لذلك تنبه الشعراء إلى أنه قد شرع لهم صراط جديد يسيرون عليه، وهذا بحد ذاته نقد على أشعارهم السابقة مؤثر على اللاحقة منها – من ناحية المعنى على الأقل- رغم أن مثل هذه النصوص استشهد بها على أنها مضادة للأعمال الأدبية ممثلة بالشعر، ولا ننسى الأحاديث المضادة للسجع المشابه لسجع الكهنة كحديث الرجل الذي جاء يسأل عن دية الجنين قائلاً (أأدي من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل ومثل ذلك يُطلّ؟ فقال عليه الصلاة والسلام: أسجعاً كسجع الكهان؟)، استشهاداتهم هذه مردود عليها بأحاديث وآثار تبارك الشعر الطيب منه كقول النبي صلى الله عليه وسلم لحسان (قل وروح القدس معك)، وما أشبه ذلك من آثار كقول عائشة رضي الله عنها (الشعر كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح).

إن تأثير الدين على الشعر كان تأثيراً نقدياً من الناحية المعنوية؛ أي من ناحية الأغراض والموضوعات، وهذا النقد مباشر وغير مباشر، أما غير المباشر فمن خلال الرادع النفسي للشاعر المسلم عن إتيان المحرمات في الشعر وهذا الراد – ولا شك – أنه كان قوياً في صدر الإسلام نتيجة الاحتكاك المباشر بالدعوة والنبوة، أما المباشر ففي بعض المواقف التي تنوقلت إلينا؛ من ذلك ما كان بين النابغة الجعدي رضي الله عنه وبين النبي صلى الله عليه وسلم حيث أنشد الجعدي:

أتيت رسول الله إذ جاء بالهدى

ويتلو كتاباً كالمجرة نيرا

بلغنا السماء ومجدنا وجدودنا

وإنا لنرجو فوق ذلك مظهر

فقال له النبي صلى الله عليه: إلى أين يا أبا ليلى؟ (صارفاً إياه عن مفاخر الجاهلية) فقال: إلى الجنة.

ومنها قول أبي بكر حين سمع قول أمية بن أبي الصلت: ألا كل شيء ما خلا الله باطل، فقال: صدقت. وحين سمع القول:

وكل نعيم لا محالة زائل

قال: كذبت فإن عند الله نعيماً لا يزول.

ومن ذلك أيضاً قول عمر عندما سمع سحيماً عبد بني الحسحاس ينشد:

عميرة ودع إن تجهزت غازيا

كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا

فقال عمر: لو قدمت الإسلام على الشيب.

ففي الأمثلة خير بيان على وجود نقد، وإن كان نقدًا لا يرقى على النقد الجاهلي من ناحية الشكل، إلا أنه واضح المعالم من الناحية المضمونية منه.

مع ذلك لا يمكن أن نتلافى الدعوة إلا عدم التكلف والتنطع واختيار حوشي الكلام هذه الدعوة التي دعا إليها الإسلام أيضاً، فمن قول الله عز وجل( وما أنا من المتكلفين) على لسان نبيه، إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم (هلك المتنطعون) إلى نص نقدي واضح وصريح من عمر رضي الله عنه، حيث قال عن زهير حين فضله (كان لا يعاظل بين القول ولا يتبع حوشي الكلام ولا يمدح الرجل إلا بما هو فيه).

هذا وإن كان هناك من الشعراء الذين ما زالوا متمسكين بمنهج الصنعة كالحطيئة وكعب بن زهير، حتى أن عمر رضي الله عنه حين مر على قوم على نار لم يقل كما تدعو البديهة (السلام عليكم يا أهل النار) بل قال – بعد تفكير- (السلام عليكم يا أهل الضوء)، إذا فالصنعة يحتاج إليها بشكل أو بآخر، وإن كانت الدعوة إليها معارضة.

الخلاصة أن النقد في عصر صدر الإسلام لم يتغير في شكل العرض، إنما تغير في المضمون على جهتين: نقد المعاني والذي كان صاحب نصيب الأسد. ونقد الأطر وهو الذي كان تابعاً للأول أكثر تحرراً من الأول.


* شاعر كويتي

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي