مشاهد / سباق مع الموت

تصغير
تكبير
| يوسف القعيد |

يخيل إليًّ أن العربي باطما... كتب هذا الكتاب مرة واحدة. ولم يعد كتابة أي جزء فيه... فالعفوية هي أهم ما في هذا الكتاب، وأبرز سماته... ما يرد على الخاطر يدونه دونما تفكير. وهذا يجسد حالة كتابة. خاصة وأن الكاتب فنان ولا يعد محترف كتابة.

يقول:

- سرت في طريق الغواني. أغني. لم أجد إلا البيع والشراء. فأكثر الفاتنات تافهات. جمال غافل. وما أقل العقل المنبه. فالحب ذل في شرعهن. ولا دليل على ما قلته. كلام سمعته في يوم كنت بمدينة أكادير.

وعن أهله يكتب:

- اسم أبي رحال. اسم جدي رحال. اسم أمي حادة. الرحيل، الحدود، الحدة، أسماء تعني العنف والألم وعدم الاستقرار، هكذا كانت طفولتي رحيلاً بين الدار البيضاء والقرية. حتى في كل شيء في تربيتي.

عشت بين الشك واليقين، وفي كل مرة. كنت أسأل نفسي. وأجد الحكمة تعلو فوق كل التساؤلات.

المهم، ولا شيء مهم إلا أنا.

أعطي عمري كله شريطة أن أعود إلى ذلك الزمن الفتيّ.

نعم.

لم نتعلم شيئاً في ذلك الزمن. لكنه كان زمناً جميلاً.

ويعود إلى ظروف كتابه هذا، ويقول:

- أكتب هذا، وأنا في سباق مع الموت. لقد أخبرني الأطباء أن المرض قد امتلك الجانب الأيمن من رئتي. بعد أن تجاوز الجانب الأيسر.

لا يعلم بالعمر ونهايته إلا الخالق... «والموت علينا حق» والعمر بيد الله. في البيت المجاور. تتردد أغنية المرحوم محمد عبد الوهاب: «يامسافر وحدك» عجيب. أن الظروف في حياتي لها لقاء خاص. فمن جعل أذني تلتقط هذه الأغنية. وأنا أكتب عن مرضي. وعن السفر المنتظر من كل البشر. يا سبحان الله.

ويقول العربي إن له ثمانية أشقاء آخرين. ستة ولدوا في البادية واثنان ولدا في المدينة.

وينهي الكاتب طيّ ضلوعه الجميل. بهذا الكلام العذب:

- كان أحب الأوقات لدىّ... هومنتصف النهار. عندما يهرب الكل إلى الظل، حيوان وبشر. فأختلي في مكان وأراقب السراب المتصاعد على صفحة الأرض. أدخل وسطه بعقلي وأسمع ضجيج المدينة الذي رافقني طيلة حياتي بالبادية.

كنت ممزقاً بين البادية والمدينة. جاهلاً عذاب المدينة وصفاء القرية.

والفصل الثاني عنوانه: طيّ الضلوع القبيح. وهو فصل المرض الخبيث ويكتب فيه:

- أنا الآن وحدي في البيت.

بعض الناس من الجمهور يتمنون لي من خلال الهاتف سنة سعيدة.

يقولون: آلو.

أرد: آلو شكون.

يجيب: أنا معجب بناس الغيوان وأتمنى لكم سنة سعيدة.

أتصور أنا سنتي المقبلة.

صممت أن أبكي. عند إعلان الساعة الثانية عشرة ليلاً... فربما إن استقبلتها بالبكاء. قد يكون فيها شيء من السعادة. هذا إن عشت. فمريض مثلي مصاب بمرض خبيث. لا يمكن له أن يتصور ويتحدى الموت في كل دقيقة. فعندما كنت أنام فيما مضى. أي في السنة الماضية. كنت أقوم في الصباح. وأقول... بل أسأل نفسي: هل أنا ما أزال حياً؟!

الآن أبكي. وقد أعلنت الساعة دخول السنة الجديدة. سنة 1995.

كم من شخص الآن في العالم قبل صديقه أو حبيبته أو أخاه مهنئاً إياه؟

إن قبلتني دموعي.

كم من عشيق عانق عشيقته.

أنا عانقت دموعي.

أنا.

أنا الآن شيء ينتظر الموت ويعلم أن الكل ينتظر قدومه. لكن الفرق بيني وبين الكل. هو أنني أعرف مرضي القاتل. والآخرون لا يعرفون.

فالحمد لله والشكر لله على كل شيء.

“وتمنوا الموت إن كنتم صادقين”.

“صدق الله العظيم”

ويحكي يوم إخباره بمرضه هكذا:

- كنت بصدد تصوير مسلسل تلفزيوني من تأليفي. وكانت اللقطة التي نصورها في أحد المستشفيات. فانتقيت طبيباً وأخبرته بآلام أشعر بها. ولم أندم في حياتي على شيء قمت به. كندمي على تلك اللحظة التي أخبرت فيها الطبيب. أما كان الأحرى. أن أسكت وأترك الجرثومة تنهشني في جسمي. ثم أموت من دون عذاب ومن دون إشاعة وهموم وتحليلات. أما كان الأجدر بي هو السكوت.

قال لي الطبيب يومها: سنجري لك عملية بسيطة. ثم كان الخبر المفجع. قال الطبيب:

إنه حلم مفزع. وستستيقظ منه إن شاء الله.

- لا يا دكتور. إنه حلم مفزع أعيش فيه. ومازلت أراه في كل دقيقة، وخرجت من مكتب الدكتور. وقد اغرورقت عيناي بالدموع.

كانت الساعة تشير... إلى منتصف النهار. وقد أحببته فيما مضي. وأنا طفل بالبادية. وكرهته ساعتها. ووقع الخبر فوق رؤوس الأهل كالصاعقة. فحرفة الفن لا تترك للفنان حرية الستر.

ويختم هذا الفصل الباكي بقوله:

- إنها ذكريات طيّ ضلوع قتيل. حاولت جمعها وأنا أعلم أني نسيت الكثير منها. عذاب الغربة والوحدة بالرغم من أني أحب هذه الأخيرة.

إن الحياة كلها ذكريات طي ضلوع قبيحة. لكن علىنا قبولها. ومحاولة التعايش معها. مستعينين بالنسيان الذي هو أكبر هبة وهبها الله لخلقه. عطفاً منه علىهم سبحانه وتعالى. فلولا النسيان لجن الكل.

وفي الفصل الثالث. الذي عنوانه: طيّ الضلوع الفني. يبدأه بكلمات حادة مدببة:

- أنا لم يبق لي الحق في الأمل.

أنا لا يمكن لي تصور الغد.

أنام الليل ولا أنتظر قيامي في الصباح. ولماذا أستيقظ وأجد نفسي فوق الفراش. أتطلع إلى سقف بيتي لأتيقن من حقيقة وجودي. ثم أقول لنفسي: لقد ذبحت ليلة البارحة. فكيف سيكون النهار. جسمي الذي كان مضرب الأمثال للوسامة. صار الآن. إن لم تحقق فيه لا تراه.

نعم... أنا الذي لم يبق لي حق في الأمل.

لقد صعدت فوق صرح المجد والشهرة. وأطرب صوتي آلاف القلوب الحزينة. وكانت أغنياتي مربية لجيل بأكمله. كان ينام في حوض آسن. تطفو عليه أمواج سياسية قمعية. وعندما سمع كلمات أغنياتي. ثار ضد تلك الأمواج وهاجر الحوض الآسن.

في كتاب العربي باطما. بعد فصل الموت وفصل الرحيل يبقى أمامنا فصلان. هذا الفصل الذي خصصه للكتابة عن الفن. والفصل الرابع وهو الأخير في الكتاب. لتجربة ناس الغيوان. وأعتقد أن هذا ترتيب مقصود من قبل الكاتب فهو لا يريد ألا يعتبر الموت نهاية كل النهايات. وبعد الكلام الحزين عن الموت لا يحب أن يقول كلمة وداعاً. ولكنه يستأنف الحكي من جديد عن الموضوعين اللذين يشكلان تجربة عمره كلها. الفن وناس الغيوان.

هل هي رغبته في تحدي الموت؟! جائز. هل هو البحث المضني للإنسان عن الخلود؟! ربما. وفي كل الأحوال فالرجل يحب أن يؤكد لنا معنى الاستمرارية التامة. وأن الموت لم يكن بالنسبة له: نهاية النهايات. ربما كان بداية مرحلة أخرى. مرحلة من نوع جديد. هي رحلة الخلود.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي