مقال / الاستبداد أم لونه؟!

تصغير
تكبير
يشترك الناس بشعور القهر جراء الظلم الواقع عليهم، ويشتركون في الرغبة العارمة لرفع الحيف ولاسترداد الكرامة والحرية، بيد أنهم، في الغالب، لا يتفقون على توزيع مساحات الحرية - حين يتمّ لهم اسقاط الاستبداد ـ فيما بينهم، ولا على كيفيات تداول السلطة، ولا على محتوى العقد الاجتماعي والسياسي المنظّم والناظم لحيواتهم وأفكارهم وانتماءاتهم السابقة على إسقاطهم لسلطة الاستبداد!!

في ظل القهر والظلم يجدون أنفسَهم أسرى قوة أكبر منهم. يجمعهم الليل الدامس، ويوحّد ملامحهم، وإمكاناتهم، ويمحو الفوارق التي تميّز الواحد منهم عن الآخر. وفي ظل القهر والظلم يتحوّلون- بالقوة العاتية- إلى أرقام. من كبيرهم إلى صغيرهم يتمّ إدخالهم في المطحنة. ما من رأي هنا، ولا من كرامة، ولا من تميّز، ولا من فرادة إمكانات، بل ولا من حقوق من أيّ حدّ كان!!

مع فجر الحرية تنقشع العتمة الموحِّدة. تنجلي الظلمة التي كانت تجعل الجميع مجرد أرقام مثل القطيع، فيجد الناس أنفسَهم أحراراً، ولدتهم أمهاتهم كذلك، واستعبدتهم قوى الطغيان لردح من الزمن. ههنا، مع الحرية، يتنامى بالضرورة الشعور بالفردية. الشعور باستقلال الرأي، واستقلال الاختيار، واستقلال الرؤية، ونضج الحق الموزّع بالعدل بين هذا وذاك. ههنا ما من قوة طاغية تحوّل التنوع إلى أعداد. يصبح التنوّع أساس الحياة وأساس العلاقة. ما من حقٍّ لك ليس لي نظيره. ورأيك- في ميزان الحرية - لا يزيد أهمية عن رأيي ولا بثقل حبة من الخردل.

من هنا أيضاً تتولد الصعوبة وتنشأ الاختلافات والتنازعات وحتى الاشتباكات الدموية التي نشهد فصولها الآن في بلدان الربيع العربي. الذي كان منضوياً في هذا الحزب المحظور سابقاً يجد فرصته الذهبية للعمل على تولّي حزبه دور القيادة، والذي كان منتسباً إلى ذلك التيار السياسي يرى الفرصة مواتية لإحقاق الحق بحسب رؤية تياره... لكأن الحرية باتت تعني أن يكون الجميع على ما أراه! وإن لم يكن، سأدخل في صراع مع الجميع حتى يكون!

الكثير من ظلال الخوف- خوف الإلغاء - تعتمل في هواجس الأحزاب والقوى السياسية. وكأن لسان حالها يقول: إنْ لم نتقدم الآن لنحتل الصدارة فإن التهميش سيكون من نصيبنا على نحو ما كنا عليه في مرحلة الاستبداد. وحتى صناديق الاقتراع - التي لم نجرّبها منذ عقود - فهمتها القوى والأحزاب، على اختلاف ألوانها واتجاهاتها، على أنها التنافس المحموم من أجل نيل الشرعية لهذا الفائز أو ذاك. شرعية الاستبداد بالجميع وفق لونه ورؤيته ومذهبه واتجاهه!

لكأن مشكلة الناس مع السلطات والأنظمة المستبدة التي كانت حاكمة هي أنها حكمت واستبدّت باغتصابها السلطة اغتصاباً، وليس عبر الانتخابات الشفافة النزيهة غير المزوّرة! ولو أنها حكمت جراء نتائج الانتخابات النزيهة والديموقراطية، ومن ثمَّ استبدّت فلا مشكلة معها، لأنها حكمت وفق الشرعية! الشرعية منحتها حقّ الحكم، وليس لنا أن ننتظر انتهاء فترة ولايتها لنتخلّص من استبدادها الجديد!

أليست هذه هي الديموقراطية؟

تُربك الحريةُ، بلا شك، بعد عقود من الاستبداد. ويدخل الناس في مماحكات ومنازعات كما نشهد الآن في بلدان الربيع العربي. تدخل القوى والتيارات والأحزاب في لعبة شدِّ الحبل، إلى أن ندرك - جميعنا ومن دون استثناء - أن ما نهضنا إلى إسقاطه هو الاستبداد وليس لونه، وهو الطغيان وليس طريقته، وهو الانفراد وليس مذهبه، سواء كان من أقصى اليمين أو من أقصى اليسار، أو مما بينهما.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي