No Script

إشراقات النقد / «الحزام» للروائي السعودي أحمد أبو دهمان ... سيرة وفاء لذاكرة قرية ورجل

تصغير
تكبير
| سعاد العنزي *|

حزام السارد...

قراءة رواية «الحزام» للروائي السعودي أحمد أبو دهمان... تمنح قارئها متعة سردية مكتملة العناصر الحكائية والتقنيات السردية، بموضوع إنساني جميل وبسيط وتلقائي كبساطة حياة القرى، وحياة الريف في السعودية، التي تحافظ على روح إنسانية جماعية استوطنت المكان، وتبادلت الأدوار عبر تاريخ القرية، لتشكل منظومة حياة أهل القرية، ليحاول سارد الرواية الحفاظ عليها من خلال هذه الرواية، التي يقدمها السارد، الداخلي، عبر ضمير الأنا، والشخصية الأساسية في الرواية، حزام، ساردا حكايته، حكاية السمي، والمسمى عليه، وكيف يحمل السمي وصاية على سميه، ويشارك الأهل في تربيته وصولا إلى النهايات مورثا إياه حزامه وخنجره، في تقاليد البدوي الأصيلة.

يبدأ أبو دهمان بسرد حكاية حزام وفاء للقرية بهذا الإهداء : «لبلادي، لكل القرى في العالم»، صادما القارئ الأجنبي، بقوله: «من لا يعرف نسبه لا يرفع صوته» مؤكدا على الإرث العميق لثقافة الاسم والنسب في فضاء عربي لايزال يستذئب من أجل حماية نسبه متقابلا مع قارئ أجنبي، بشكل عام، لا يعتني كثيرا في ثقافة الاسم والنسب كهويات هجينة ومسافرة دوما،. فيسرد اسمه بداية من الاسم الأول وصولا إلى قبيلته قحطان بني عامر، ليطرح منذ بداية السرد، الحيثيات والرواسب التربوية التي ينطلق منها السارد، من طقوس الحياة في القرية... وقيم القرية بسالبها وموجبها، بحميمتها الغالبة على روح السرد وهوية السارد، بفرح البدايات الزواج، والانجاب، وتكوين الأسرة، زواج أبيه من أمه، فينتقل إلى متن السرد، الحياة الأسرية الممتدة لأبناء القبيلة، والنهايات المؤلمة مختومة حتما بالموت والمرض، وانحناء الظهر، إيذانا بالرحيل، ليحمل الجيل التالي ألم الذكرى، وعذاب الرحيل، وعناء سرد الحكاية، وفتح أرشيف الذاكرة المخزون في وعي القاص، لتنفتح معها جروح أخرى، ويعرض الماضي فيلما سينمائيا حيا ومتدفقا كتدفق الأنهار العذبة لأنها حكاية أسرة بنى أعمدتها الحب. يحكي حزام حكاية أسرته، وكيف تكونت، وكيف تقاطعت مع الأسر الأخرى بعلاقة أسرية ممتدة مع أهل القرية جميعا، كأسرة كبيرة ممتدة، تجمعها مناسبات الفرح، والحزن، يحدد فيها يوما لختان الأبناء، في يوم واحد محدد بالسنة، وترسل المستحقين منهم ليدرسوا في المدينة، ليقدموا اختلافا ثقافيا، واجتماعيا مع نسق المدينة، لتتضح أولى صور التصادم مع الآخر المختلف، كالخجل البريء والحياء من معاينة الممرضة الباكستانية، لهم في مستشفى المدينة، أو مثلما حدث في حالة كتابة الرسائل لنساء حي المدينة، والدخول في الفن الحكواتي الذي يبعث السعادة والفرح في قلوب نسائها فيعجبن بهذا الفتى الريفي القروي، الذي جاء حاملا نقاء القرية، وصفاء ذهن ابن القرية، ليسرد لهن حكايات شيقة، تعكس شوق الإنسان للسرد، ونزوعه لمعرفة الآخر، وحكايات الآخر.

الغناء السارد انسجاما مع الوجود الإنساني والطبيعي

تغني الام أم حزام وتعلم الأبناء ثقافة الغناء والحب والتسامح والحرية ويأخذ منها حزام هذه الموهبة ليغني ويسير في القرية مغنيا، ومتغنيا بمظاهر الحياة، وعاشقا لقوس قزحه، التي تتزوج، فيحبس هذه الغصة في صدره وروحه، ويجد في الغناء هدوءا وسكينة للروح، فالغناء في القرية رديف الفلاحين في الأحزان والأفراح... وأساس تعلم الحرية والتسامح والعطاء... ألم تكن أم السارد تغني محبة للآخر، وتقدم تضحية التخلي من اجل التحلي بجميل العطاء للمحبوب، الزوج، ترحل عنه وتزوجه من زوجة أخرى، لتعتني بما تبقى من سنينه.

هذه القصة الانسانية الصادقة والحميمية والعفوية تنسج أحداثها بلغة السارد المتميزة بغنائيتها واحتفائها بالمكان، والزمان والأشخاص، حيث اللغة السردية تنبع من الروح وتحركها محبة الموضوع المكتوب، والأشخاص، فقارئ «الحزام» لا يشعر بغربة وبون بين السارد والموضوع المسرود، كأن السارد يروي حكايته وحكاية أشخاص يحلقون بذكراهم حول روحه، بذاكرة متدفقة، ولغة مشوقة لا تحيد بعيدا في استطراداتها غير المبررة، لغة تخرج من الروح، فتصل إلى روح المتلقي من دون عوائق وإشكاليات ثقافية تعطل عملية التلقي.

وهذا لا يحدث دوما في السرد، فهناك من الروائيين يكتبون عن مواضيع لا يجمعهم وإياه ألفة إنسانية، فتخرج أساليبهم اللغوية واصفة لشيء بعيد عنهم روحيا ولا يتآلفون معه، فتكون اللغة مسجلة لهذه المساحة الفاصلة بينهم... وهذه الفجوة.

تحزيم السرد والإمساك بمقابضه

بنيويا حرص الروائي على الامساك ببنية السرد العربي القديم بين خاتمة وتراحيب يمهد فيهما للقارئ الخلفية الاجتماعية والزمكانية للسرد والسارد، من ثم ينطلق إلى المتن: ليلتقط عدة صور من حياة القبيلة، والمدينة وما يعتريها من أمور طريفة، ومحزنة، وصولا إلى ما أشبه بنهاية بالفصل الخاص بالتضحية، ومن ثم الخاتمة التي تختتم العمل. إذ يقترن هذا معرفيا أيضا ببنية الكتابة الأكاديمية، بين مقدمة ومتن وخاتمة، تذكرنا بما قام به ادوارد سعيد في حياته الفكرية بكتابه البدايات، فمتون كتبه اللاحقة، من ثم الأسلوب المتآخر، وهذا من وجهة نظري ربط منطقي وعقلاني في حبكة الرواية، خصوصا إنها وجهت إلى القارئ الفرنسي، الذي يحتاج إلى بلاغة الوضوح أكثر من أي شيء آخر، كونه يقرأ نصا غريبا عليه وليس غرائبيا كما يقول البعض عن الرواية.

ولكن يتبقى هناك قفزة سردية وحذف لحكاية الصبي بعد فترة الإعدادي وصولا إلى مرحلة العيش في باريس، فالسرد كان تفصيليا في بدايات النشأة، ومن ثم اختزل مرحلة ما بعد المراهقة، فكأن الرواية كتبت خصيصا لرصد مراحل الطفولة بين القرية والمدينة.

العنونة حزام المتن الروائي

لقد ظهرت القرية كمكان طبيعي نقي وصافي، يحاول قدر المستطاع الحفاظ على سمات القرية المحافظة على أصالتها وأصالة نسبها منذ قرون، لترفض المدرسة، وذهاب الصبية ليتعلموا لأن من بين الأباء من يرى: «في المدرسة معملا لتجريدنا من كل قيم القبيلة وتراثها، وأن الحكومة تعد لنا نستقبلا نقيضا لذلك الذي قامت وتموت عليه القبيلة. ما حدا ببعضهم إلى انتزاع ابنه من المدرسة، من الغرق، ومنعه من الاختلاط نهائيا بأولئك الذين ظلوا يرهنون أبناءهم لمستقبل مظلم!». (ص 41)

تحاول القرية، بشخوصها التقليديين، أن تكون كالحزام الذي يشد ابنائها إليها، مثلما الحزام يحتفظ بالأشياء الثمينة، من مثل السكين، الخنجر، أو ليس الرجل سكينا حادا، بمفهوم القرية، وليتحول معنى العنوان فيصبح الحزام ضعيفا أمام قوة العلم المندفعة التي تضعف من قوته المهيمنة على عقلية القبيلة، فتمر دلالة الحزام في الرواية بعدة حالات تعديلية دلاليا... فيبيع الأب أبو حزام، خنجره الثمين الذي حافظ عليه سنوات القوة والشباب، والفحولة، إلى أن ضعف الأب وافتقر، فالحزام والخنجر متوازيان يذوبان في السرد من البداية إلى النهاية، وصولا إلى دلالة الحزام بالفرنسية، وهي مفردة مؤنثة، لتقول الرواية، إن الأشياء بحد ذاتها تحتمل جميع الدلالات الاجتماعية، فلا يعني تذكيره في مجتمع ذكوري، انه قوة، ولا تأنيثه في مجتمع تعددي، أنه فقد شيئاً من بريقه وقوته الرمزية في داخل القروي القادم إلى مدينة النور، يريد ان ينصهر فيجد هويته القروية مختزلة في روحه وذاكرته، لتظهر تلك الذكريات كالسكين الحاد الذي يشرخ الذاكرة كلما حاولت النسيان، ولتكون الرواية كلها حزاما لحكايات حقيقية التحمت بالسرد الأسطوري، كاشفة عن روح القرية، والمخيال الشعبي لأبنائها. متوازية مع الصخرة الذاكرة التي يزوها الحزامان في آخر الرواية، وعلى الرغم من كون الرواية حملت اسمه حزام الرجل المذكر إلا انها أصبحت تشير الى أكثر من حزام، واكثر من ذكرى تحزم السارد والقارئ جميعا بالقرية، فتغدو هذه الحكاية الجمعية «الـ» حزام الذي يربط أبي دهمان وقراءه متعددي الانتماءات بالقرية، التي لا تزول ذكراها، ليقدم لنا ابو دهمان ذاكرة القرية مشرقة جميلة، كما قدمها الروائي السعودي المحلق بأجنحة التسامح والتعدد عبدالله ثابت في روايته «الإرهابي 20»، والأردنية فادية فقير في روايتها «اسمي سلمى». راصدة جدلية الأنا والآخر بين فضاء قريتها الأم في الأردن، ومدينة اكستر البريطانية.



* ناقدة وكاتبة كويتية.

Su_ad81@

- أحمد أبو دهمان، « الحزام» رواية، دار الساقي، الطبعة الأولى 2001.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي