صبحي غندور / مفاوضات... لا حرب الآن مع إيران وسورية!

تصغير
تكبير
صبحي غندور



ما يحدث أخيراً من تناقض في التصريحات الأميركية والإسرائيلية في شأن احتمالات التصعيد العسكري ضد إيران وسورية يؤكد من جديد أن هذا العام هو عام «عض الأصابع» بانتظار «من يصرخ أولاً» وليس عام التصعيد العسكري أو إشعال حروب جديدة. وأشرت إلى هذا الاستنتاج في أكثر من مقال منذ عام تقريباً. ولم يحدث ما كان يتوقعه البعض من «صيف حار» في المنطقة أو من تصعيد عسكري ضد إيران أو سورية أو في لبنان.

إن المواقف الأميركية والإسرائيلية المتضاربة في شأن إيران وسورية هي أشبه ما تكون الآن بالمؤشر المالي في سوق البورصة، الذي يشهد ارتفاعاً أو انخفاضاً بشكل مفاجئ ولا يسير على خط مستقر لفترات طوال، بينما التصعيد الفعلي من أجل الحرب لا يأخذ بمنهج «المؤشر المالي»، بل يعتمد التدرج في خط تصاعدي متواصل وصولاً إلى الحرب، كما حصل من تمهيد وتهيئة أميركية ودولية للحرب على العراق في العام 2003.

إن ما يحدث الآن هو محاولة أميركية لتحسين الموقع التفاوضي الأميركي مع كل من طهران ودمشق وليس سعياً لإشعال الحرب معهما أو مع أي منهما. فرغم وجود تيار متشدد ومؤثر في الإدارة الأميركية، يقوده نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني، يضغط من أجل التصعيد العسكري خصوصاً ضد إيران، ورغم التحريض الإسرائيلي المستمر على هذا الأمر، فإن حسابات الإدارة الأميركية لم تصل إلى حتمية التصعيد بعد. ففي حساب قرار الإدارة الأميركية عناصر داخلية وخارجية، ومستويات سياسية وعسكرية، لم تحصل أي منها بعد على نسبة ترجيح كافية لقرار الحرب. إن إدارة بوش تعاني الآن من ضعف شديد في مستوى التأييد الشعبي الأميركي لها، فأكثر من ثلثي الأميركيين هم الآن ضد سياسة إدارة بوش، على عكس الحالة التي كانت عليها هذه الإدارة في عامي التحضير للحرب على العراق.

إن غالبية أعضاء الكونغرس الأميركي هم الآن في خانة حزبية وسياسية معارضة للإدارة، ولن يكون الكونغرس داعماً لبوش في سنة حكمه الأخيرة وفي موسم التنافس الانتخابي بين «الديموقراطيين» و«الجمهوريين» بالوقوف خلفه في قرار حرب جديدة، بينما مازالت أميركا الآن تعاني من حربها في العراق.

عسكرياً، تخشى واشنطن من تحوّل القوات والقواعد والسفن الأميركية في العراق ومنطقة الخليج إلى «رهائن» أو إلى «أهداف سهلة» في سياق الردود الإيرانية على التصعيد العسكري الأميركي، وسيكون مستحيلاً على الإدارة الأميركية غزو إيران ودفع قوات برية إلى العمق الإيراني، ما سيجعل الحرب مع إيران عبئاً إضافياً على الوجود العسكري الأميركي في المنطقة من دون قدرة على تغيير النظام السياسي في طهران أو إضعافه داخلياً.

إقليمياً، فإن معظم دول المنطقة (باستثناء إسرائيل) أعلنت رفضها لاعتماد الخيار العسكري في حل النزاع الأوروبي والأميركي القائم مع طهران على موضوع الطاقة النووية، فدول المنطقة هي التي ستدفع الثمن الباهظ لهذا الخيار غير المضمونة نتائجه السياسية والعسكرية.

دولياً، فإن الإدارة الأميركية ليست الآن بوارد قرار حرب جديدة من دون مرجعية مجلس الأمن. فتجربة الحرب على العراق عام 2003 والاستهتار الأميركي بالمجتمع الدولي أديا إلى نتائج أميركية وخيمة.

وها هي واشنطن تحاول الآن إظهار دعمها لمؤسسة الأمم المتحدة وحرصها على مرجعية مجلس الأمن ودوره في قضايا دولية عدة، بل إن واشنطن تحتاج لدور أكثر فعالية من الأمم المتحدة في التعامل مع إفرازات احتلال العراق، فكيف ستخوض إدارة بوش حرباً جديدة أخطر من الحرب على العراق بلا موافقة مجلس الأمن؟ ثم ما هي الأعذار التي ستبرر هذه الحرب بعدما انكشفت أكاذيب المبررات التي أعطيت للحرب في العراق؟

إن الوكالة الدولية للطاقة النووية مازالت تفاوض طهران على برنامجها النووي دون أي عراقيل. كذلك فإن روسيا والصين ترفضان الآن التصعيد في العقوبات الاقتصادية ضد إيران، فيكف بقرار الحرب عليها؟ بل حتى ألمانيا أعلنت أنها تحبذ العودة إلى مجلس الأمن في موضوع تشديد العقوبات وعدم اقتصاره على الطرفين الأوروبي والأميركي. ولم تنفع إدارة بوش التصريحات الفرنسية عن احتمالات الحرب مع إيران لكي تكون بديلاً عمّا فقدته واشنطن من دعم عسكري بريطاني كان متاحاً أيام حكومة طوني بلير ولا تريد حكومة غوردون براون الاستمرار به الآن في العراق، فكيف بحرب جديدة؟

إن الطرف الوحيد الممكن الاعتماد الأميركي عليه عسكرياً هو إسرائيل، لكن حتى إسرائيل فإنها عانت ولا تزال من نتائج عدوانها الأخير على لبنان في صيف العام الماضي، وبالتالي فإن دخول تل أبيب عسكرياً ضد إيران سيفتح جبهات عسكرية عدة في المنطقة، إضافةً إلى الرد الإيراني المباشر على إسرائيل.

هناك رسائل متناقضة تخرج من واشنطن وتل أبيب وباريس تجاه طهران ودمشق. بعض هذه الرسائل ينذر بالويل والثبور وبعضها الآخر يعد بالخيرات والمكاسب السياسية والاقتصادية. وفي تناقض هذه الرسائل ما ينبئ بطبيعة المرحلة المقبلة بأنها مرحلة تفاوض وضغوط متبادلة، لا مرحلة حروب وانفجارات عسكرية كبيرة.

ولا يمكن طبعاً فصل الملف الأميركي مع إيران وسورية عن ملفات «مثلّث الأزمات» الساخنة في المنطقة: العراق، لبنان، وفلسطين. فالمفاوضات الأميركية المباشرة وغير المباشرة مع طهران ودمشق هي التي ستحدّد أيضاً مصير الأوضاع في «مثلث الأزمات»، لكن المشكلة الآن هي في انعدام الوفاق العربي الذي لو كان قائماً لما كانت خيارات مستقبل أزمات المنطقة مرهونة فقط بإرادات أجنبية، دولية وإقليمية.

فغياب التضامن العربي الفعّال هو الذي يدفع بأطراف عربية إلى اللجوء للخارج بحثاً عن الحماية أو لدرء الأخطار أو لتأمين الدعم اللازم في مواجهة تحديات إسرائيلية وأميركية لا تأبه أصلاً لأي مصلحة عربية، ولا تريد أي وجهٍ من أوجه التنسيق العربي تجاه الأزمات الساخنة في المنطقة.

إن تعذر خيار الحرب الأميركية ضد إيران الآن يعني أن واشنطن مستعدة لخيار التفاوض معها. وكان تصريح الجنرال جون أبي زيد (القائد السابق للقوات لأميركية في المنطقة) عن إمكان التعايش مع إيران نووية مؤشراً لما يدور من مناقشات داخل مواقع صنع القرار الأميركي.

إن واشنطن تحتاج لطهران ودمشق في ترميم الأوضاع السياسية والأمنية في العراق، وفي معالجة الملفين الفلسطيني واللبناني. لكن ذلك لا يعني ان إدارة بوش سوف تقيم صفقات مع حكومات دعت وتدعو لإسقاطها. فقد كانت واشنطن تضع حكومتي طهران ودمشق أمام خيار أحد نموذجين: النظام الليبي الحالي أو النظام العراقي السابق. أي إما التسليم بشروط واشنطن للعلاقة معها وإما إسقاط النظام.

الآن، هناك نموذج ثالث وهو كوريا الشمالية التي وضعها بوش في «محور الشر» الذي أعلنه مطلع العام 2002، وهو نموذج يقوم على التفاوض التدريجي وأسلوب «الأخذ والعطاء» حيث يحصل كل طرف على شيء ما مقابل التنازل عن شيء آخر.

إن هذا «النموذج الكوري الشمالي» هو الأكثر تعبيراً عن طبيعة المرحلة المقبلة بين إدارة بوش وحكومتي دمشق وطهران. وسيعني ذلك أسلوب التفاوض بـ«المفرّق» على القضايا الساخنة وليس الحساب بـ«الجملة» على كل الأمور العالقة. فما سيحصل في العراق من تطوّر سياسي على صعيد الحكومة وموضوع المصالحة الوطنية أو الإجراءات الأمنية المطلوبة أميركياً على الحدود مع سورية وإيران، سيكون ذلك منفصلاً عمّا قد يتم التفاوض في شأنه في ملفي فلسطين ولبنان. والعكس صحيح أيضاً. فقد يحصل مؤتمر نوفمبر المقبل بحده الأدنى على الملف الفلسطيني، وقد تتوسع أجندته لتشمل استئناف المفاوضات السورية - الإسرائيلية التي توقفت في نهاية إدارة كلينتون، وما يعنيه ذلك من شمولية للجبهة اللبنانية مع إسرائيل ومن حل لقضية مزارع شبعا في لبنان، فيكون لبنان معنياً مستقبلاً بتوقيع معاهدة تسوية مع إسرائيل إذا ما أثمرت المفاوضات السورية - الإسرائيلية عن معاهدة أيضاً.

هي الآن مرحلة رمادية، وستبقى رمادية لفترة من الوقت، وسيستمر فيها ذر الرماد في العيون، لكن إلى متى سيستمر الوضع العربي الرسمي بانتظار شروق الشمس من الغرب حتى «يتبيّن له الخيط الأبيض من الخيط الأسود»؟


صبحي غندور

مدير «مركز الحوار العربي» في واشنطن

[email protected]

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي