فهد توفيق الهندالمشكلة الكثيرين من المفكرين والمثقفين العرب، ومن يرى نفسه معادلاً لهم، قضية التفكير ومنهجيته العقلية. فهناك الكثيرون منهم يملكون العديد من المؤلفات والدراسات ولهم مشاركات حثيثة دائمة في مختلف الندوات والمؤتمرات التي تحمل عناوين براقة ولامعة، تكاد تخرج المؤتمرين عن نطاق البشرية الأدنى إلى الدرجات العالية بكثير، والمصيبة أن منهم كثيرين لا يعتقدون ولا يؤمنون بأن العقل العلمي لا يزال قاصراً وعاجزاً عن إدراك الحقيقة كاملة.
عندما يتساءل القارئ لماذا جعلت التفكير مشكلة بالنسبة إلى هؤلاء «المتفكرين والمتثقفين»، سيجد أنني قرنت التفكير بمنهجيته العقلية، وهي خارطة معقدة جداً تبين مصادر الأفكار وكيفية نضجها وطريقة إرسالها للآخرين. فالتفكير منهج قائم على عاملين مهمين، هما الحدس والاستدلال. فالحدس من مصادر المعرفة التي تقوم على إدراك الأمور بصورة مباشرة، تتحكم فيها سرعة البدهية الحسية وغنى معرفة الشخص. والاستدلال مصدر آخر للمعرفة يرتكز على مجموعة من الوسائل الفكرية التي تقودنا إلى حقيقة جزئية عندما نعجز عن إدراكها بصورة مباشرة. وللاستدلال طرق تعين الباحث عن جزء الحقيقة تتلخص في الاستقراء، الاستنتاج، والقياس، وأحيل القارئ الكريم إلى الكتب المتخصصة في منهجية التفكير العلمي من أجل الاستزادة في هذه الحقول من دون الحاجة للإسهاب هنا.
الفرد منا يدرك ما حوله في بادئ الأمر بصورة حدسية، تقتضي استدلالاً على علاقة الأمور بعضها ببعض. عندما تجلس في أحد اللقاءات أو تقرأ بعض المؤلفات لمن يعتبرون أنفسهم مفكرين أو محسوبين على الثقافة، لا بد وأن تكون حواسك الخارجية والداخلية مستقبلة بصورة دقيقة لكل ما يمر عليها من جمل وأساليب تحمل أفكاراً معينة عن ما يرمي إليه هذا الباحث عن غيره، وما يحاول أن يظهره خلافاًَ لما يبطنه، ولما قد يكون واقعاً فعلاً وجزءاً صادقاً من شخصيته الفكرية. هنا يمكنك التفريق بين هؤلاء جميعاً عبر معيار واحد فقط تستطيع بموجبه التمييز بين باحث حقيقي وآخر ناسخ مدع، وأعني موضوعية الحقيقة. فمن يدع أنه توصل إلى هذه الخلاصة من دون منهج فكري ونضج عقلي واضح فهو قابع في خداع ذاتي قبل أن يكون خداعاً للآخر. والوصول إلى الحقيقة شبيه ببلوغ نهاية لا أمد بعدها، ولكن الوصول إلى جزء من الحقيقة يبقي العقل العلمي في نشاط فكري دائم لا يعتريه الجمود.
الحقيقة ليست مقصورة على المفكرين والباحثين، أو من يحاول أن يمتهن التفكير والبحث من دون موضوعية، إنما هي مشاع للجميع. قد نخطئ في إدراك الأمور، إلا أن ذلك لا يعني قصوراً في التفكير، بل هو إدراك ما لا نقصده. إلا أن الكارثة في أن نبالغ في الخطأ قصداً وندعي احتكار الحقيقية! والعاقبة لمن يعقل ويتدبر.