أعلام في ذاكرة الأمة
الشيخ سيد سابق... صاحب «فقه السنة»
|إعداد عبدالله متولي|
في مساء يوم الاحد 23 من ذي القعدة 1420هـ، الموافق 27/2/2000م، انضم الى موكب الراحلين عن الدنيا واحد من كبار العلماء - العالم الكبير الفقية الداعية المربي الشيخ سيد سابق - رحمه الله تعالى - بعد رحلة طويلة مع العلم استمرت 85 عاماً.
طالب الشريعة
كان الشيخ سيد سابق أحد علماء الأزهر الذين تخرجوا في كلية الشريعة، وقد اتصل بالإمام الشهيد حسن البنا وبايعه على العمل للإسلام ونشر دعوته، وجمع الأمة على كلمته، وتفقيهها في شريعته، وأصبح عضوًا في جماعة (الإخوان المسلمين) منذ كان طالبًا.
كان معاصرًا لإخوانه من أبناء الأزهر النابهين الذين انضموا إلى قافلة الإخوان المسلمين من أمثال الشيخ محمد الغزالي، والشيخ عبد المعز عبد الستار، وغيرهما، وإن كانوا هم في كلية أصول الدين، وهو في كلية الشريعة.
اشتغل الشيخ سيد سابق بالفقه أكثر مما اشتغل إخوانه من الدعاة الأزهريين، لأنه الأليق بتخصصه في كلية الشريعة، وقد بدأ يكتب في مجلة الإخوان الأسبوعية مقالة مختصرة في فقه الطهارة، معتمدًا على كتب (فقه الحديث) وهي التي تعنى بالأحكام، مثل (سبل السلام) للصنعاني، وشرح (بلوغ المرام) للحافظ ابن حجر، ومثل (نيل الأوطار) للشوكاني، وشرح (منتقى الأخيار من أحاديث سيد الأخيار) لابن تيمية الجد.
ومستفيدًا من كتاب (الدين الخالص) للعلامة الشيخ محمود خطاب السبكي، مؤسس (الجمعية الشرعية) في مصر، وأول رئيس لها، الذي ظهر منه تسعة أجزاء في فقه العبادات، وغير ذلك من المصادر المختلفة، مثل (المغني) لابن قدامة، و(زاد المعاد) لابن القيم، وغيرهما.
وقد اعتمد الشيخ سيد -رحمه الله- منهجًا يقوم على طرح التعصب للمذاهب مع عدم تجريحها، والاستناد إلى أدلة الكتاب والسنة والإجماع، وتبسيط العبارة للقارئ بعيدًا عن تعقيد المصطلحات، وعمق التعليلات، والميل إلى التسهيل والتيسير على الناس، والترخيص لهم فيما يقبل الترخيص، فإن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه، وكما يكره أن تؤتى معصيته، وحتى يحب الناس الدين ويقبلوا عليه، كما يحرص على بيان الحكمة من التكليف، اقتداء بالقرآن في تعليل الأحكام.
وكان من التسهيل الذي اتبعه الشيخ في منهجه الذي ارتضاه في كتابة الفقه البعد عن ذكر الخلاف إلا ما لا بد منه، فيذكر الأقوال في المسألة، ويختار الراجح أو الأرجح في الغالب، وأحيانًا يترك الأمر دون أن يرجح رأيًا، حيث لم يتضح له الراجح، أو تكافأت عنده الأقوال والأدلة، فيرى من الأمانة أن يدع الأمر للقارئ يتحمل مسؤولية اختياره، أو يسأل عالمًا آخر، وهذا ما لا يسع العالم غيره.
فقه السنة
أصدر الشيخ سيد الجزء الأول من كتابه الذي سماه (فقه السنة) في أواسط الأربعينات من القرن العشرين الميلادي، أو في سنة 1365هـ وهو رسالة صغيرة الحجم، من القطع الصغير، وكان في (فقه الطهارة)، وقد صدره بمقدمة من المرشد العام للإخوان المسلمين الشيخ الإمام حسن البنا، تنوه بمنهج الشيخ في الكتابة، وحسن طريقته في عرض الفقه، وتحبيبه إلى الناس، ومما جاء في هذه المقدمة قوله - عليه رحمة الله:
أما بعد.. فإن من أعظم القربات إلى الله -تبارك وتعالى- نشر الدعوة الإسلامية، وبث الأحكام الدينية، وبخاصة ما يتصل منها بهذه النواحي الفقهية، حتى يكون الناس على بينة من أمرهم في عبادتهم وأعمالهم، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، وإنما العلم بالتعلم، وإن الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر».
وإن من ألطف الأساليب وأنفعها وأقربها إلى القلوب والعقول في دراسة الفقه الإسلامي - وبخاصة في أحكام العبادات، وفي الدراسات العامة التي تقدم لجمهور الأمة - البعد به عن المصطلحات الفنية، والتفريعات الكثيرة الفرضية، ووصله ما أمكن ذلك بمآخذ الأدلة من الكتاب والسنة في سهولة ويسر، والتنبيه على الحكم والفوائد ما أتيحت لذلك الفرصة، حتى يشعر القارئون المتفقهون بأنهم موصولون بالله ورسوله، مستفيدون في الآخرة والأولى، وفي ذلك أكبر حافز لهم على الاستزادة من المعرفة، والإقبال على العلم.
وقد وفق الله الأستاذ الشيخ: السيد سابق، إلى سلوك هذه السبيل، فوضع هذه الرسالة السهلة المأخذ، الجمة الفائدة، وأوضح فيها الأحكام الفقهية بهذا الأسلوب الجميل؛ فاستحق بذلك مثوبة الله إن شاء الله، وإعجاب الغيورين على هذا الدين، فجزاه الله عن دينه وأمته ودعوته خير الجزاء، ونفع به، وأجرى على يديه الخير لنفسه وللناس، آمين.
وقال الشيخ سابق في مقدمته القصيرة المختصرة التي قدم بها كتابه:
هذا الكتاب يتناول مسائل من الفقه الإسلامي مقرونة بأدلتها من صريح الكتاب وصحيح السنة، ومما أجمعت عليه الأمة.
وقد عرضت في يسر وسهولة، وبسط واستيعاب لكثير مما يحتاج إليه المسلم، مع تجنب ذكر الخلاف إلا إذا وجد ما يسوغ ذكره فنشير إليه.
والكتاب يعطي صورة صحيحة للفقه الإسلامي الذي بعث الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم، ويفتح للناس باب الفهم عن الله ورسوله، ويجمعهم على الكتاب والسنة، ويقضي على الخلاف وبدعة التعصب للمذاهب، كما يقضي على الخرافة القائلة: بأن باب الاجتهاد قد سُدّ .
ظل الشيخ سيد يوالي الكتابة في الفقه بعد ذلك، ويخرج في كل فترة جزءاً من هذا القطع الصغير حتى اكتمل أربعة عشر جزءاً، ثم صدر بعد ذلك في ثلاثة أجزاء كبيرة. واستمر تأليفه نحو عشرين سنة على ما أظن.
سَدَّ كتاب الشيخ سيد سابق فراغًا في المكتبة الإسلامية في مجال فقه السنة، الذي لا يرتبط بمذهب من المذاهب، ولهذا أقبل عليه عامة المثقفين الذين لم ينشأوا على الالتزام بمذهب معين أو التعصب له، وكان مصدرًا سهلاً لهم يرجعون إليه كلما احتاجوا إلى مراجعة مسألة من المسائل.
وقد انتشر الكتاب انتشارًا، وطبعه بعض الناس من دون إذن مؤلفه مرات ومرات، كما يفعلون مع غيره من الكتب التي يطلبها الناس.
لقد انتقد الكتاب بعض العلماء الذين يرون أن الشيخ - وقد تحرر من المذاهب- لم يعطِ فقه المقارنة والموازنة حقها، في مناقشة الأدلة النقلية والعقلية، والموازنة العلمية بينها، واختيار الأرجح بعد ذلك ممن بينة وبصيرة.
والجواب عن ذلك: أن الشيخ لم يكتب كتابه للعلماء، بل لجمهور المتعلمين، الذين يحتاجون إلى التسهيل والتيسير، سواء في الشكل أم المضمون، وتوخي طريقة التسهيل والتبسيط، وكل ميسر لما خلق له.
في المعتقل
سمعنا أنه قدم للمحاكمة في قضية مقتل النقراشي باشا، حيث زعموا في ذلك الوقت أنه هو الذي أفتى الشاب القاتل عبدالمجيد حسن بجواز قتله، عقوبة على حل الإخوان، وكانت الصحف تلقب الشيخ في ذلك الوقت بـ (مفتي الدماء).
والحمد لله، قد برأته المحكمة، وخلت سبيله، ولكنه اعتقل مع من اعتقل من الإخوان في سنة 1949م واقتيد إلى معتقل الطور.
في المعتقل، وفي عنبر رقم (2) الذي كان إمامه الشيخ الغزالي، رحمه الله، كان الشيخ سيد يعقد حلقات في الفقه بعد صلاة الفجر وقراءة الأدعية المأثورات، كما كان الشيخ الغزالي يعقد حلقات أخرى في الدعوة إلى الله.
وبعد الخروج من المعتقل تألق في ساحة الدعوة إلى الله، وكان يسكن في حارة ضيقة في سوق السلاح، ثم مَنَّ الله عليه فسكن في شقة بجاردن ستي..
عمل مديرا لإدارة الثقافة في وزارة الأوقاف، وكان الشيخ الغزالي مديرًا للمساجد، وكان الشيخ البهي الخولي مراقبًا للشؤون الدينية، وذلك في عهد وزير الأوقاف المعروف الشيخ أحمد حسن الباقوري. وذلك في عهد الثورة.
وظل الشيخ مرموق المكانة في وزارة الأوقاف، حتى جاء عهد وزيرها المعروف الدكتور محمد البهي، فساءت علاقته بالشيخين الغزالي وسابق، رغم أنها كانت من قبل علاقة متينة، وسبحان مغير الأحوال.
وقد نقل الشيخان إلى الأزهر، لإبعادهما عن نشاطهما المعهود، وإطفاء لجذوتهما، وقد بقيا على هذه الحال، حتى تغير وزير الأوقاف، ودوام الحال من المحال.
كان الشيخ سيد سابق رجلاً مشرق الوجه، مبتسم الثغر، فكه المجلس، حاضر النكتة، ومما يحكى عنه أنهم حين قبضوا عليه في قضية مقتل النقراشي، وسألوه عن (محمد مالك) الذي ضخمت الصحافة دوره، واعتبروه أكبر إرهابي، وقد اختفى ولم يعثروا عليه فلما سألوا الشيخ: هل تعرف شيئًا عن مالك؟ قال: كيف لا أعرفه وهو إمام من أئمة المسلمين، وهو إمام دار الهجرة رضي الله عنه؟!
قالوا: يا خبيث، نحن لا نسألك عن الإمام مالك، بل عن مالك الإرهابي: قال: أنا رجل فقه أعرف الفقهاء ولا أعرف الإرهابيين.
أم القرى
كان الشيخ الغزالي في المعتقل، إذا سئل عن مسألة فقهية يحيلها إلى الشيخ سيد سابق، فقد كان هو المعتمد لدى الإخوان في الفقه، ومع هذا كتب الشيخ سيد في العقيدة (العقائد الإسلامية)، وفي الدعوة (إسلامنا) وغيره من الكتب.
انتقل الشيخ في السنين الأخيرة من عمره إلى (جامعة أم القرى) بمكة المكرمة، سعيدًا بمجاورة البيت الحرام، مع نخبة من أجلاء علماء الأزهر، الذين كان لهم دور يذكر ويشكر في ترسيخ جامعة أم القرى ورفع دعائمها، وتعليم أبنائها.
وفي سنة 1413 هـ حصل الشيخ على جائزة الملك فيصل في الفقه الإسلامي لقد رحل الشيخ سيد سابق تاركًا وراءه علمًا نافعًا، وتلاميذ بررة يدعون له بالمغفرة والرحمة، وذكرا طيبًا هو عمر آخر للإنسان بعد عمره القصير. رحم الله شيخنا الشيخ سيد سابق، وتقبله في الصالحين من عباده، وجزاه عن العلم والإسلام والأمة ما يجزي العلماء العاملين، والدعاة الصادقين، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
في مساء يوم الاحد 23 من ذي القعدة 1420هـ، الموافق 27/2/2000م، انضم الى موكب الراحلين عن الدنيا واحد من كبار العلماء - العالم الكبير الفقية الداعية المربي الشيخ سيد سابق - رحمه الله تعالى - بعد رحلة طويلة مع العلم استمرت 85 عاماً.
طالب الشريعة
كان الشيخ سيد سابق أحد علماء الأزهر الذين تخرجوا في كلية الشريعة، وقد اتصل بالإمام الشهيد حسن البنا وبايعه على العمل للإسلام ونشر دعوته، وجمع الأمة على كلمته، وتفقيهها في شريعته، وأصبح عضوًا في جماعة (الإخوان المسلمين) منذ كان طالبًا.
كان معاصرًا لإخوانه من أبناء الأزهر النابهين الذين انضموا إلى قافلة الإخوان المسلمين من أمثال الشيخ محمد الغزالي، والشيخ عبد المعز عبد الستار، وغيرهما، وإن كانوا هم في كلية أصول الدين، وهو في كلية الشريعة.
اشتغل الشيخ سيد سابق بالفقه أكثر مما اشتغل إخوانه من الدعاة الأزهريين، لأنه الأليق بتخصصه في كلية الشريعة، وقد بدأ يكتب في مجلة الإخوان الأسبوعية مقالة مختصرة في فقه الطهارة، معتمدًا على كتب (فقه الحديث) وهي التي تعنى بالأحكام، مثل (سبل السلام) للصنعاني، وشرح (بلوغ المرام) للحافظ ابن حجر، ومثل (نيل الأوطار) للشوكاني، وشرح (منتقى الأخيار من أحاديث سيد الأخيار) لابن تيمية الجد.
ومستفيدًا من كتاب (الدين الخالص) للعلامة الشيخ محمود خطاب السبكي، مؤسس (الجمعية الشرعية) في مصر، وأول رئيس لها، الذي ظهر منه تسعة أجزاء في فقه العبادات، وغير ذلك من المصادر المختلفة، مثل (المغني) لابن قدامة، و(زاد المعاد) لابن القيم، وغيرهما.
وقد اعتمد الشيخ سيد -رحمه الله- منهجًا يقوم على طرح التعصب للمذاهب مع عدم تجريحها، والاستناد إلى أدلة الكتاب والسنة والإجماع، وتبسيط العبارة للقارئ بعيدًا عن تعقيد المصطلحات، وعمق التعليلات، والميل إلى التسهيل والتيسير على الناس، والترخيص لهم فيما يقبل الترخيص، فإن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه، وكما يكره أن تؤتى معصيته، وحتى يحب الناس الدين ويقبلوا عليه، كما يحرص على بيان الحكمة من التكليف، اقتداء بالقرآن في تعليل الأحكام.
وكان من التسهيل الذي اتبعه الشيخ في منهجه الذي ارتضاه في كتابة الفقه البعد عن ذكر الخلاف إلا ما لا بد منه، فيذكر الأقوال في المسألة، ويختار الراجح أو الأرجح في الغالب، وأحيانًا يترك الأمر دون أن يرجح رأيًا، حيث لم يتضح له الراجح، أو تكافأت عنده الأقوال والأدلة، فيرى من الأمانة أن يدع الأمر للقارئ يتحمل مسؤولية اختياره، أو يسأل عالمًا آخر، وهذا ما لا يسع العالم غيره.
فقه السنة
أصدر الشيخ سيد الجزء الأول من كتابه الذي سماه (فقه السنة) في أواسط الأربعينات من القرن العشرين الميلادي، أو في سنة 1365هـ وهو رسالة صغيرة الحجم، من القطع الصغير، وكان في (فقه الطهارة)، وقد صدره بمقدمة من المرشد العام للإخوان المسلمين الشيخ الإمام حسن البنا، تنوه بمنهج الشيخ في الكتابة، وحسن طريقته في عرض الفقه، وتحبيبه إلى الناس، ومما جاء في هذه المقدمة قوله - عليه رحمة الله:
أما بعد.. فإن من أعظم القربات إلى الله -تبارك وتعالى- نشر الدعوة الإسلامية، وبث الأحكام الدينية، وبخاصة ما يتصل منها بهذه النواحي الفقهية، حتى يكون الناس على بينة من أمرهم في عبادتهم وأعمالهم، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، وإنما العلم بالتعلم، وإن الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر».
وإن من ألطف الأساليب وأنفعها وأقربها إلى القلوب والعقول في دراسة الفقه الإسلامي - وبخاصة في أحكام العبادات، وفي الدراسات العامة التي تقدم لجمهور الأمة - البعد به عن المصطلحات الفنية، والتفريعات الكثيرة الفرضية، ووصله ما أمكن ذلك بمآخذ الأدلة من الكتاب والسنة في سهولة ويسر، والتنبيه على الحكم والفوائد ما أتيحت لذلك الفرصة، حتى يشعر القارئون المتفقهون بأنهم موصولون بالله ورسوله، مستفيدون في الآخرة والأولى، وفي ذلك أكبر حافز لهم على الاستزادة من المعرفة، والإقبال على العلم.
وقد وفق الله الأستاذ الشيخ: السيد سابق، إلى سلوك هذه السبيل، فوضع هذه الرسالة السهلة المأخذ، الجمة الفائدة، وأوضح فيها الأحكام الفقهية بهذا الأسلوب الجميل؛ فاستحق بذلك مثوبة الله إن شاء الله، وإعجاب الغيورين على هذا الدين، فجزاه الله عن دينه وأمته ودعوته خير الجزاء، ونفع به، وأجرى على يديه الخير لنفسه وللناس، آمين.
وقال الشيخ سابق في مقدمته القصيرة المختصرة التي قدم بها كتابه:
هذا الكتاب يتناول مسائل من الفقه الإسلامي مقرونة بأدلتها من صريح الكتاب وصحيح السنة، ومما أجمعت عليه الأمة.
وقد عرضت في يسر وسهولة، وبسط واستيعاب لكثير مما يحتاج إليه المسلم، مع تجنب ذكر الخلاف إلا إذا وجد ما يسوغ ذكره فنشير إليه.
والكتاب يعطي صورة صحيحة للفقه الإسلامي الذي بعث الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم، ويفتح للناس باب الفهم عن الله ورسوله، ويجمعهم على الكتاب والسنة، ويقضي على الخلاف وبدعة التعصب للمذاهب، كما يقضي على الخرافة القائلة: بأن باب الاجتهاد قد سُدّ .
ظل الشيخ سيد يوالي الكتابة في الفقه بعد ذلك، ويخرج في كل فترة جزءاً من هذا القطع الصغير حتى اكتمل أربعة عشر جزءاً، ثم صدر بعد ذلك في ثلاثة أجزاء كبيرة. واستمر تأليفه نحو عشرين سنة على ما أظن.
سَدَّ كتاب الشيخ سيد سابق فراغًا في المكتبة الإسلامية في مجال فقه السنة، الذي لا يرتبط بمذهب من المذاهب، ولهذا أقبل عليه عامة المثقفين الذين لم ينشأوا على الالتزام بمذهب معين أو التعصب له، وكان مصدرًا سهلاً لهم يرجعون إليه كلما احتاجوا إلى مراجعة مسألة من المسائل.
وقد انتشر الكتاب انتشارًا، وطبعه بعض الناس من دون إذن مؤلفه مرات ومرات، كما يفعلون مع غيره من الكتب التي يطلبها الناس.
لقد انتقد الكتاب بعض العلماء الذين يرون أن الشيخ - وقد تحرر من المذاهب- لم يعطِ فقه المقارنة والموازنة حقها، في مناقشة الأدلة النقلية والعقلية، والموازنة العلمية بينها، واختيار الأرجح بعد ذلك ممن بينة وبصيرة.
والجواب عن ذلك: أن الشيخ لم يكتب كتابه للعلماء، بل لجمهور المتعلمين، الذين يحتاجون إلى التسهيل والتيسير، سواء في الشكل أم المضمون، وتوخي طريقة التسهيل والتبسيط، وكل ميسر لما خلق له.
في المعتقل
سمعنا أنه قدم للمحاكمة في قضية مقتل النقراشي باشا، حيث زعموا في ذلك الوقت أنه هو الذي أفتى الشاب القاتل عبدالمجيد حسن بجواز قتله، عقوبة على حل الإخوان، وكانت الصحف تلقب الشيخ في ذلك الوقت بـ (مفتي الدماء).
والحمد لله، قد برأته المحكمة، وخلت سبيله، ولكنه اعتقل مع من اعتقل من الإخوان في سنة 1949م واقتيد إلى معتقل الطور.
في المعتقل، وفي عنبر رقم (2) الذي كان إمامه الشيخ الغزالي، رحمه الله، كان الشيخ سيد يعقد حلقات في الفقه بعد صلاة الفجر وقراءة الأدعية المأثورات، كما كان الشيخ الغزالي يعقد حلقات أخرى في الدعوة إلى الله.
وبعد الخروج من المعتقل تألق في ساحة الدعوة إلى الله، وكان يسكن في حارة ضيقة في سوق السلاح، ثم مَنَّ الله عليه فسكن في شقة بجاردن ستي..
عمل مديرا لإدارة الثقافة في وزارة الأوقاف، وكان الشيخ الغزالي مديرًا للمساجد، وكان الشيخ البهي الخولي مراقبًا للشؤون الدينية، وذلك في عهد وزير الأوقاف المعروف الشيخ أحمد حسن الباقوري. وذلك في عهد الثورة.
وظل الشيخ مرموق المكانة في وزارة الأوقاف، حتى جاء عهد وزيرها المعروف الدكتور محمد البهي، فساءت علاقته بالشيخين الغزالي وسابق، رغم أنها كانت من قبل علاقة متينة، وسبحان مغير الأحوال.
وقد نقل الشيخان إلى الأزهر، لإبعادهما عن نشاطهما المعهود، وإطفاء لجذوتهما، وقد بقيا على هذه الحال، حتى تغير وزير الأوقاف، ودوام الحال من المحال.
كان الشيخ سيد سابق رجلاً مشرق الوجه، مبتسم الثغر، فكه المجلس، حاضر النكتة، ومما يحكى عنه أنهم حين قبضوا عليه في قضية مقتل النقراشي، وسألوه عن (محمد مالك) الذي ضخمت الصحافة دوره، واعتبروه أكبر إرهابي، وقد اختفى ولم يعثروا عليه فلما سألوا الشيخ: هل تعرف شيئًا عن مالك؟ قال: كيف لا أعرفه وهو إمام من أئمة المسلمين، وهو إمام دار الهجرة رضي الله عنه؟!
قالوا: يا خبيث، نحن لا نسألك عن الإمام مالك، بل عن مالك الإرهابي: قال: أنا رجل فقه أعرف الفقهاء ولا أعرف الإرهابيين.
أم القرى
كان الشيخ الغزالي في المعتقل، إذا سئل عن مسألة فقهية يحيلها إلى الشيخ سيد سابق، فقد كان هو المعتمد لدى الإخوان في الفقه، ومع هذا كتب الشيخ سيد في العقيدة (العقائد الإسلامية)، وفي الدعوة (إسلامنا) وغيره من الكتب.
انتقل الشيخ في السنين الأخيرة من عمره إلى (جامعة أم القرى) بمكة المكرمة، سعيدًا بمجاورة البيت الحرام، مع نخبة من أجلاء علماء الأزهر، الذين كان لهم دور يذكر ويشكر في ترسيخ جامعة أم القرى ورفع دعائمها، وتعليم أبنائها.
وفي سنة 1413 هـ حصل الشيخ على جائزة الملك فيصل في الفقه الإسلامي لقد رحل الشيخ سيد سابق تاركًا وراءه علمًا نافعًا، وتلاميذ بررة يدعون له بالمغفرة والرحمة، وذكرا طيبًا هو عمر آخر للإنسان بعد عمره القصير. رحم الله شيخنا الشيخ سيد سابق، وتقبله في الصالحين من عباده، وجزاه عن العلم والإسلام والأمة ما يجزي العلماء العاملين، والدعاة الصادقين، وإنا لله وإنا إليه راجعون.