مشاهد / جارودي ونجيب محفوظ

تصغير
تكبير
| يوسف القعيد |

في زيارة جارودي التسعينية إلى لقاهرة، والتي تمت تحت عباءة العداء للصهيونية. لم أتمكن من متابعة لقاءاته كلها لظروف العمل والإرهاق النفسي. وحالة من الاكتئاب الطارئ التي أحاول جاهداً طردها عن نفسي والخروج من نفقها بأقل الخسائر الممكنة.

لكني شهدت بأم عيني لقاء جارودي مع نجيب محفوظ... على مركب جاثية على شاطئ النيل بالقرب من الجيزة. استمر اللقاء كله خمسة عشرة دقيقة بالضبط، وقد جاء خطفاً في وقت بين لقاء تم في مكتبة القاهرة الكبرى في الزمالك. ولقاء آخر كان من المفروض أن يتم في مقر اتحاد الكتاب في الزمالك أيضاً.

بين هذا وذاك... جاء إلينا جارودي. ومعه سعد الدين وهبة وزوجته السيدة سلمي الفاروقي. ومكث معنا «ربع ساعة» حسب التعبير المصري ومضى. وقد شهدته في هذا الوقت القصير. وفكرة لقاء جارودي بنجيب محفوظ نبتت في اتصال تلفوني بيني وبين سعد الدين وهبة. وعلى طريقته في التقاط «الجوهري» من الأمور رأساً.

رحب هو بالفكرة التي كانت تدور في ذهنه قبل أن أطرحها عليه. ولكن بشرطين: أن يعرضها هو على جارودي ويحصل على موافقته. وأن أعرضها أنا من جانبي على نجيب محفوظ وأحصل على موافقته.

من باب التذكير فقط. أقول إن سعد الدين وهبة كان قد سبق وصنع لقاءً بالتنسيق معي بين الممثل الهندي أميتاب باتشان ونجيب محفوظ. كان قد دعاه – باتشان – لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي. وأتى به لنجيب محفوظ. وأعطى موعداً للفنان عادل إمام ليحضر اللقاء. ويبدو أن عادل إمام لم يكن يعرف بوجود الممثل الهندي. فتصرف بقدر من العصبية. لكن هذه قصة جانبية قد تأخذنا من قصتنا الأصلية.

اتصلت بنجيب محفوظ في بيته... كان الوقت صباحاً... ربما كانت من المرات القلائل التي يرد على التلفون مباشرة. دون وساطة أحد من أهل بيته. لأن الرجل يتكلم في التلفون بصعوبة بالغة. رغم وجود آلة جديدة عنده. أهديت له بعد نوبل. ترفع صوت المتحدث. كما لو كان يتكلم في ميكروفون.

ومع هذا، كان من الصعب أن يصله صوتي... قلت في نفسي. لعن الله الشيخوخة وما تفعله بالإنسان. ولولا وجود الزميل محمد صبري السيد. المحرر بالأهرام معه في ذلك الوقت... من أجل أن يقرأ له صحف الصباح لما تمكنت من إتمام الاتصال به، وعبر التلفون أولاً، وصبري السيد ثانياً. وبجهد ضخم وخارق. أوصلت له حكاية أن جارودي سيمر علينا مساء الثلاثاء بعد غد – كان يوم الاتصال هو الأحد – للسلام عليه. قال لي على الفور. «طيب وليه؟».

ولكنه استدرك مرحباً، ثم قال بعد قليل «وإن كان لم يعد حمل مناقشات ولا يحزنون... فإن هذا الرجل – يقصد جارودي – يجادل كثيراً، وفي أمور وقضايا من المفروض أن نكون مستعدين لها... قبل اللقاء».

سألني نجيب محفوظ بعد ذلك باهتمام عن صاحب فكرة اللقاء. هل هو سعد الدين وهبة أم أنا؟ أم أن فكرة حضور جارودي إلينا نابعة من جارودي نفسه؟.

ونحن نلتقي عادة مع نجيب محفوظ مساء الثلاثاء من كل أسبوع... من السادسة مساء، حتى العاشرة مساء... أربع ساعات كاملة يتخللها عشاء خفيف لا يخرج عن الطعمية والجبنة البيضاء والسلاطة الخضراء. وخبز ساخن.

وهذا العشاء يقدم عادة في الثامنة والنصف تماماً. ذلك أننا لا ننسى أبداً أننا نجلس مع الرجل الساعة. أو الرجل الذي جرى تركيب ساعة بداخله ... تضبط له إيقاع كل ما في الحياة بصورة مذهلة. وأي تأخير أو تقديم في عاداته اليومية يعطيه الانطباع أن ثمة مشكلة كبرى قد حدثت.

إن التعود هو مفتاح شخصية نجيب محفوظ. وعندما يصل الأمر إلى حد العادة. تصبح لها القداسة عما سواها من الأمور الأخرى. والرجل يبدو مطمئناً وربما سعيداً. ما دامت عاداته تسير وفق النظام الذي وضعه. وأي خلل – مهما كان ضئيلاً – يشعره بحالة من القلق من الصعب وصفها.

جاء إلينا جارودي في الثامنة تماماً. وانصرف في الثامنة والربع. وهكذا لم يتسبب حضوره في أي تغيير يذكر لعاداتنا... كان معه سعد الدين وهبة. وزوجته السيدة سلمى. وحراسة أمنية مكثفة. «وهذا وضع طبيعي، فالرجل يهاجم إسرائيل». وجيش من الصحافيين ومندوبي وكالات الأنباء والتلفزيونات.

حدثت حالة من الكركبة في المكان. وكنت أنا قد ذهبت إليه... مسلحاً بزميلي وصديقي «المصور» شوقي مصطفى «كبير مصوري عموم مصر»، في ذلك الوقت.

كانت ملابس سعد الدين وهبة بيضاء. يشرب من فوقها العصفور. وكانت ملابس زوجة جارودي سوداء. وهكذا فقد كونا نوعاً من التقابل اللوني حول الرجل. وبينهما جارودي الذي كان يرتدي بذلة كحلية اللون. ورابطة عنق من اللون نفسه. وقميصا أبيض.

قبل الدخول إلى رواق ما جرى في هذا اللقاء أقول إن جارودي. كان مثقفاً صلباً. شعرت أنني أمام مثقف قوي بموقفه وعملاق بما يقوم به. وهو الإحساس الذي لا أشعر به إزاء العديد من المثقفين العرب في هذا الزمان الصعب والعصيب. كنت أمام رجل يصل في كل مرحلة من عمره إلى قناعة معينة. ثم يدافع عن هذه القناعة حتى الموت. وربما ما بعد الموت نفسه. والموت في هذه الحالة قد يعتبر استشهاداً. لا نملك سوى الانحناء أمامه في احترام حقيقي.

ها هو كيان ثقافي. يقول لك ان المثقف الحقيقي موقف. وان هذا الموقف عندما يخرج من اختيار صادق يساوي العمر بكل ما فيه. تحت وابل من أضواء أدوات التصوير. وأمام ميكروفونات وكالات الأنباء المختلفة. جرى اللقاء. قامت بدور المترجمة زوجة جارودي. «ربما كان هذا هو السبب في وجودها في كل لقاء عقده هنا في مصر  سواء أكان لقاءً عاماً أم خاصاً؟!».

المصافحة، وخلالها يتحدث نجيب محفوظ الإنكليزية بطلاقة. وعنده القدرة على نطق بعض الكلمات التي تسعف الموقف بالفرنسية... إنه واحد من الجيل الذي أسس نفسه. ووضع أسسا مشروعة... قبل زمان السرعة. وحالة اللهاث التي وصلنا إليها.

لكن ماذا جرى في اللقاء؟ ماذا قال نجيب محفوظ؟ وماذا قال جارودي؟ لنا بقية.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي