في رواية الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي
قراءة / «الأسود يليق بكِ»... انتصار نسائي بهفوات أنثى
أحلام مستغانمي
| نهى غنام |
ربما أكثرما لفت في رواية «الاسود يليق بك» للكاتبة الجزائرية المبدعة احلام مستغانمي، ذاك الانتظار والشغف لصدور الرواية للذين وصلا لحد «الهوس»** ربما على مواقع التواصل الاجتماعي، في ظل ما نعيشه من أحداث سياسية جليلة تطغى على اهتمامات المواطن العربي، قد يرجع ذلك لقدرة الكاتبة على ارساء هوية ادبية مميزة يعنونها جمالية اسلوبها البليغ والمعبر في الوقت نفسه، ما خلق لها شعبية في اوساط القارئين عموما وليس المثقفين فحسب، او قد يكون ذاك الضغط الذي يعيشه العربي بعد ثورات الربيع جراء انغماسه في لعبة الديمقراطية والاصلاح، ما حدا به للاهتمام أدبيا بقصة عاطفية خفيفة وجميلة بقدر نضوجها وجديتها، او هو الوعي والادراك لقيمة نص أدبي ربما، في الاحوال كلها فإن من الجدير قوله ان ذاك الهوس المبالغ فيه لا يعني بالضرورة أننا قارئون جيدون، انما نحن مجتزئون لعبارات قد تمسنا وتعبر عن مواقف مررنا بها، نكررها ونرددها حتى قبل ان نقرأ الرواية.
هالة وطلال
نشأت قصة الحب بين بطلي الرواية هالة الوافي وطلال هاشم بطريقة درامية مشوقة ولكنها في مظهرها عادية جدا، حيث تعرف الرجل المليونير والذكي و«الشهريايري» كما وصفته الرواية الى المرأة الكئيبة والشجاعة والشموخة والمغنية التي تبدو بحالة تجهم وشحوب رغم مجالها الفرح والاهم انها لا تخلع اللون الاسود، عن طريق مقابلة تلفزيونية، لفتته اثناء امتطائه صدفة للريموت كنترول وما اعتاد أن يفعل ذلك.
ولأنه الرجل الفاره الذي يملك الدنيا بماله وسلطته اراد أن يقطف تلك الوردة لعقد تتكشف تواليا في الرواية، فقد لفتته بصورة سحرية غريبة عميقة.
فبدأ خطته باستدراج الجميلة وأي خيط افضل من باقة زهور لجذب امرأة بدا أنها راقية وعميقة التفكير، وهنا يدخل الى الرواية بطل ثالث اذا جاز التعبير وهو باقة ازهار التوليب البنفسجية مزينة بعبارة جاذبة شادة تقول « الاسود يليق بكِ».
من هنا بدأت الحكاية وتكررت العبارات الجميلة المرفقة بباقات التوليب الى ان نجح الصائد باستدراج الضحية المشتهاة وجرى اول اتصال يليه الكثير ثم اول لقاء بطريقة ساحرة اسطورية كلفت هذا الرجل الكثير من المال والوقت.
ونمت القصة مفصلة هذا الصراع الناضج بين امرأة ورجل هو يتباهى بماله وهي بشموخها.
استخدام بقية الشخصيات في الرواية جاء بمكانه على الرغم من ثانويتها، فهناك نجلاء ابن خالة البطلة ومرافقتها ومستشارها العاطفي ايضا، ثم والدة هالة السورية التي هجرت الجزائر بعد فقدان زوجها وابنها وعادت لحلب حيث ذكريات فقد والدها ايضا، كل هذه الاسوار جعلتها اكثر تشددا اتجاه ابنتها وتصرفاتها؛ فهي تحاصرها بالاسئلة والاستفسارات اينما ذهبت وترهقها بابتكار مبررات غيابها.
والد هالة المقتول كان فنانا قتله «الارهابيون» كما اسمتهم الكاتبة، وبقي ذكره حاضرا في الرواية، ثم قتل علاء شقيق هالة واحد اسباب «سوادها»، فقد انضم للاسلاميين ثم رغب بالانشقاق فقتلوه ايضا، لعلاء صديق اسمه اندير شاب جزائري بائس حاول الفرار الى اوروبا لكنه غرق بالبحر، وهو شقيق هدى حبيبة علاء المذيعة التلفزيونية التي هجرها ليلتحق بالمقاتلين بالجبل، في حين اكملت هي نحو التلفزيون بنجاح، ثم ظهر في المراحل المتقدمة من الرواية عز الدين الديبلوماسي الجزائري المعجب والمفعم بوطنيته وعمله الانساني.
بلاغة ونضج في الحوار
استطاعت الكاتبة ان تبقي بداخلنا رغبة بمتابعة المزيد والمزيد من حكايتها، فذاك الحوار الغني الجميل البليغ المتعالي بين البطلين، كان له اشد التأثير على القارئ وقد خرج به من مجرد قصة حب عادية الى ملحمة فكرية عاطفية فيها صراع محبب جدا، فهذا الرجل الذي لم يكمل دراسته الجامعية يتمتع بذوق رفيع؛ يسمع لستراوش ويمارس طقوس النبلاء في تنقلاته، ويعرف كيف يلاغي امرأة يمتحنها بكل ما اوتي من سطوة وجبروت، فها هو يحجز حفلة كاملة ليسمعها وحده رغم عدم اقتناعه بصوتها، ثم يتنقل بها من بيروت الى فرنسا الى النمسا ويعيشها كأميرة، وقد عرف بكل خطواتها بل يلاحقها كأنفاسها يتحدى تجاهلها له في اول موعد بالمطار، ثم تثيره عزة نفسها فيحاول أن يطوقها بالمزيد من الاعباء المادية الى أن يغويها الى سريره ثم يصارحها بتعرضه للخيانة على الرغم من استمرار زواجه فيتعرى امامها وتبدأ ذروة القصة بالهبوط ثم تعلو مجددا.
اما هالة الوافي فهي المعلمة التي تتحدر من جبال الاوراس المحافظة، حيث تتمتع النساء هناك بأخلاق الرجال ويولدن جبالا شامخة، لم تكن تغني لولا مشاركتها في تأبين والدها المطرب الذي طالما منعها من الغناء، ولكنها بغنائها تحررت من كل القيود ورافقت طلال الى مشتهاه وقد أحبته وتعلقت به رغم اكتشاف عقده من النساء.
وينشأ بين العاشقين حوار بليغ، فيه من الحبكة اللغوية ما تحتاج لاعادته مرة واثنتين ليصلك المقصود، وعلى لسان ابطالها توصل الكاتبة ما تريده حول تلك المنافسة الابدية بين رجل عاشق وأمرأة وقعت في شباكه، انه حوار القلب والعقل الموجب والسالب المتمنع والمشتهي الفائض والمقتضب، وتدرك العلاقة اشتعالها عندما تقاسمه السرير في تلك الليلة بشقته الباريسية، هو لم يطلب غير ضمها، وهي اعترفت انه الاول ثم لململت الكاتبة ذروتها فتهاوت القصة الى حيث بداية النهاية فيفترق العاشقان ثم يلتقيان.
ويستشعر القارئ النهاية منذ تلك اللحظة التي اعترف فيها بضعفه هناك في فيينا، أما هي فتجلت باعترافها «اريد أن اكون اما لابنك»، كان ذلك آخر الحب بينهما، فلما شك في تصرفاتها عند الحديث من الديبلوماسي الجزائري الذي التقته اكثر من مرة بدأ يهتز ثم يغضب فأراد أن يتيه بسطوة ماله فيذلها ربما او يذكرها، فأبت ذلك بعزتها وعنفوانها وكان الفراق.
تاريخيا واجتماعيا
لم تغفل الكاتبة البعد السياسي والاجتماعي لاحداث روياتها فها هي تعود وتذكر بما شهتده الجزائر من أحداث في التسعينات حيث انقلب الجيش على نتائج الانتخابات البرلمانية التي فاز بها الاسلاميون ممثلين لجبهة الانقاذ ما حدا بهم الى الثورة ونشأ نزاع أتى على البلاد بالويلات، الكاتبة تصف المقاتلين الاسلاميين بـ«الارهابيين» فهم اعداء البشر والحجر والفن، قتلوا والدها لانه مطرب وقتلو اخاها وعاثوا فسادا في الارض، خرجوا ليتحصنوا في الجبال ويواجهوا الجيش الجزائري في حين شملهم عفو رئاسي بعد انتهاء الاحداث فعاد قادتهم من كبار التجار مثل «عماد» الذي وشي بأخيها علاء للارهابيين واقنعهم بأن الثاني خائن على الرغم مما قدمه من خدمات انسانية لجرحاهم في الجبل.
المشهد نفسه يتكرر في سورية حيث قتل جدها على يد النظام السوري بمذابح حماه في 1982 وربما قصدت الكاتبة ان توازن بين الحادثتين من باب عدائها للعنف والقتل وتجريم القاتل ايا كان خطه السياسي او دينه، علما أن الصورة حاليا تتشابه فعلا سياسيا وتاريخيا.
تنتقل الكاتبة ايضا الى بغداد وقد أثخنتها جراح الاحتلال الاميركي في فترة كتابة الرواية، تعرض الكاتبة عبر «عز الدين» ما تعانيه بغداد من حرب ودمار وآهات، وتكون الخاتمة بخلع السواد والغناء من اجل بغداد، في ذلك الحفل الخيري المقام في ميونيخ.
اجتماعيا لم يكن الحب صافيا في الرواية؛ فهناك منغصات اجتماعية تعاني منها الجزائر، وهذا ما ورد ذكره على لسان حبيبها الاول مصطفى الذي اخبرها ان 10 في المئة من الجزائريين يعانون من امراض نفسية، وقد مر بهما شخص يحدث نفسه ويشتمها، ثم ان ذكرها الدائم للمجتمع المحافظ الذي يتباهى بامتلاكه للشرف هي سمة اجتماعية لم تندثر رغم اقبالها على الغناء، وأوضحت لنا قصة اندير حجم البطالة الذي عانى منه الشباب في مرحلة الحرب وما بعدها وهذا ما القى بهم الى ايدي «الحراقة» الذين يحرقون جوازات سفر المهاجرين بعد الزج بهم في عرض البحر حتى لا تتعرف عليهم الشرطة.
في غربة أمها وعودتها الى أحضان الوطن سورية ايضا صورة اجتماعية مهمة تمثلت في الحنين الى الوطن واللجوء اليه اخيرا في خضم الازمات، كما أن البذخ والرفاهية الذين عاشهما طلال وذاك التلذذ باستخدام امواله باستهتار يمثلان تصويرا لشريحة لم تعد قليلة في مجتمعاتنا العربية، رغبتها هي في مجاراة هذا المليونير وابهاره شكليا وماديا ايضا عرض لصورة يعاني منها البعض رغم ارهاقها ماديا وقلة تحصيلها في مجال العمل،واقتناعها بتواضع ما تقدمه، ولكن هذه الانثى حين تحب تعطي بلا ثمن وبلا مقابل وبسخاء عريض.
انتصار امرأة
عاشت هالة مرحلة انفصام انثى عن روحها نبضها حبها فتقلبت وتوجعت وانتظرت دون فائدة، الى ان عاد الديبلوماسي من جديد ليقدم لها حلما على طبق من ذهب، انه الاوبريت العالمي الذي يشبع طموحها ووطنيتها وغرورها الانثوي، ارادت ان تتحرر من غنائها له.. من كونها ملكه، وخلعت الاسود وكأن الاسود له فحسب.
أن اللحظة التي اشعلت غضب طلال بدفع من الغيرة وتأنيبا لنفسه على كشف اوراقه امام هالة كانت نقطة عودة هالة الى معدنها الاصلي المحافظ، كان قد تجهز للنيل من عذريتها التي «حمتها قبيلة من الرجال»، ولكنها رغم هفواتها وانسياقها الجنوني نحوه ثم مجاراته الى نومها في سريره واعترافها الصريح بحبه، آثرت العزة والعنفوان، فرمقته برفعة رأس ونظرة تعال حين عرض عليها امواله مغلفة بعبارات غضب كبير، ان اخلاقها الرجالية لم تسمح لها بالتمادي وهي تعرف انه ليس لها، فخرجت من ذاك الفندق الفخم في فيينا غير آبهة بجهلها بمعالم المدينة وقلة ما تملكه من مال.
إن جل ما يوثق انتصار المرأة في الرواية ليس ذاك الفرح والابداع الذي اظهرته في ميونيخ وفتح لها ابواب نجاح جديدة فحسب، وانما خلعها للاسود الذي لفته اليها وحببها باهتمامه، انها الان حرة وجاهزة لقلب الصفحة.
أما هو فيواصل تعاليه على نفسه، ولا يعترف بخسارته لها متخيلا انها الخاسرة وهذا من طباع الرجل العصية على التغيير في بلادنا.
لا شك أن الكاتبة قصدت للانثى أن تنتصر وهي المعروفة بانتمائها لانوثثها شعرا ونثرا، ولكن الانثى هذه المرة تحلت بأخلاق الرجال رغم هفواتها، وان كانت هذه الهفوات نسبية أي هي عادية جدا ولا تصنف كذلك في المجتمعات الفنية الاكثر تحررا.
ربما أكثرما لفت في رواية «الاسود يليق بك» للكاتبة الجزائرية المبدعة احلام مستغانمي، ذاك الانتظار والشغف لصدور الرواية للذين وصلا لحد «الهوس»** ربما على مواقع التواصل الاجتماعي، في ظل ما نعيشه من أحداث سياسية جليلة تطغى على اهتمامات المواطن العربي، قد يرجع ذلك لقدرة الكاتبة على ارساء هوية ادبية مميزة يعنونها جمالية اسلوبها البليغ والمعبر في الوقت نفسه، ما خلق لها شعبية في اوساط القارئين عموما وليس المثقفين فحسب، او قد يكون ذاك الضغط الذي يعيشه العربي بعد ثورات الربيع جراء انغماسه في لعبة الديمقراطية والاصلاح، ما حدا به للاهتمام أدبيا بقصة عاطفية خفيفة وجميلة بقدر نضوجها وجديتها، او هو الوعي والادراك لقيمة نص أدبي ربما، في الاحوال كلها فإن من الجدير قوله ان ذاك الهوس المبالغ فيه لا يعني بالضرورة أننا قارئون جيدون، انما نحن مجتزئون لعبارات قد تمسنا وتعبر عن مواقف مررنا بها، نكررها ونرددها حتى قبل ان نقرأ الرواية.
هالة وطلال
نشأت قصة الحب بين بطلي الرواية هالة الوافي وطلال هاشم بطريقة درامية مشوقة ولكنها في مظهرها عادية جدا، حيث تعرف الرجل المليونير والذكي و«الشهريايري» كما وصفته الرواية الى المرأة الكئيبة والشجاعة والشموخة والمغنية التي تبدو بحالة تجهم وشحوب رغم مجالها الفرح والاهم انها لا تخلع اللون الاسود، عن طريق مقابلة تلفزيونية، لفتته اثناء امتطائه صدفة للريموت كنترول وما اعتاد أن يفعل ذلك.
ولأنه الرجل الفاره الذي يملك الدنيا بماله وسلطته اراد أن يقطف تلك الوردة لعقد تتكشف تواليا في الرواية، فقد لفتته بصورة سحرية غريبة عميقة.
فبدأ خطته باستدراج الجميلة وأي خيط افضل من باقة زهور لجذب امرأة بدا أنها راقية وعميقة التفكير، وهنا يدخل الى الرواية بطل ثالث اذا جاز التعبير وهو باقة ازهار التوليب البنفسجية مزينة بعبارة جاذبة شادة تقول « الاسود يليق بكِ».
من هنا بدأت الحكاية وتكررت العبارات الجميلة المرفقة بباقات التوليب الى ان نجح الصائد باستدراج الضحية المشتهاة وجرى اول اتصال يليه الكثير ثم اول لقاء بطريقة ساحرة اسطورية كلفت هذا الرجل الكثير من المال والوقت.
ونمت القصة مفصلة هذا الصراع الناضج بين امرأة ورجل هو يتباهى بماله وهي بشموخها.
استخدام بقية الشخصيات في الرواية جاء بمكانه على الرغم من ثانويتها، فهناك نجلاء ابن خالة البطلة ومرافقتها ومستشارها العاطفي ايضا، ثم والدة هالة السورية التي هجرت الجزائر بعد فقدان زوجها وابنها وعادت لحلب حيث ذكريات فقد والدها ايضا، كل هذه الاسوار جعلتها اكثر تشددا اتجاه ابنتها وتصرفاتها؛ فهي تحاصرها بالاسئلة والاستفسارات اينما ذهبت وترهقها بابتكار مبررات غيابها.
والد هالة المقتول كان فنانا قتله «الارهابيون» كما اسمتهم الكاتبة، وبقي ذكره حاضرا في الرواية، ثم قتل علاء شقيق هالة واحد اسباب «سوادها»، فقد انضم للاسلاميين ثم رغب بالانشقاق فقتلوه ايضا، لعلاء صديق اسمه اندير شاب جزائري بائس حاول الفرار الى اوروبا لكنه غرق بالبحر، وهو شقيق هدى حبيبة علاء المذيعة التلفزيونية التي هجرها ليلتحق بالمقاتلين بالجبل، في حين اكملت هي نحو التلفزيون بنجاح، ثم ظهر في المراحل المتقدمة من الرواية عز الدين الديبلوماسي الجزائري المعجب والمفعم بوطنيته وعمله الانساني.
بلاغة ونضج في الحوار
استطاعت الكاتبة ان تبقي بداخلنا رغبة بمتابعة المزيد والمزيد من حكايتها، فذاك الحوار الغني الجميل البليغ المتعالي بين البطلين، كان له اشد التأثير على القارئ وقد خرج به من مجرد قصة حب عادية الى ملحمة فكرية عاطفية فيها صراع محبب جدا، فهذا الرجل الذي لم يكمل دراسته الجامعية يتمتع بذوق رفيع؛ يسمع لستراوش ويمارس طقوس النبلاء في تنقلاته، ويعرف كيف يلاغي امرأة يمتحنها بكل ما اوتي من سطوة وجبروت، فها هو يحجز حفلة كاملة ليسمعها وحده رغم عدم اقتناعه بصوتها، ثم يتنقل بها من بيروت الى فرنسا الى النمسا ويعيشها كأميرة، وقد عرف بكل خطواتها بل يلاحقها كأنفاسها يتحدى تجاهلها له في اول موعد بالمطار، ثم تثيره عزة نفسها فيحاول أن يطوقها بالمزيد من الاعباء المادية الى أن يغويها الى سريره ثم يصارحها بتعرضه للخيانة على الرغم من استمرار زواجه فيتعرى امامها وتبدأ ذروة القصة بالهبوط ثم تعلو مجددا.
اما هالة الوافي فهي المعلمة التي تتحدر من جبال الاوراس المحافظة، حيث تتمتع النساء هناك بأخلاق الرجال ويولدن جبالا شامخة، لم تكن تغني لولا مشاركتها في تأبين والدها المطرب الذي طالما منعها من الغناء، ولكنها بغنائها تحررت من كل القيود ورافقت طلال الى مشتهاه وقد أحبته وتعلقت به رغم اكتشاف عقده من النساء.
وينشأ بين العاشقين حوار بليغ، فيه من الحبكة اللغوية ما تحتاج لاعادته مرة واثنتين ليصلك المقصود، وعلى لسان ابطالها توصل الكاتبة ما تريده حول تلك المنافسة الابدية بين رجل عاشق وأمرأة وقعت في شباكه، انه حوار القلب والعقل الموجب والسالب المتمنع والمشتهي الفائض والمقتضب، وتدرك العلاقة اشتعالها عندما تقاسمه السرير في تلك الليلة بشقته الباريسية، هو لم يطلب غير ضمها، وهي اعترفت انه الاول ثم لململت الكاتبة ذروتها فتهاوت القصة الى حيث بداية النهاية فيفترق العاشقان ثم يلتقيان.
ويستشعر القارئ النهاية منذ تلك اللحظة التي اعترف فيها بضعفه هناك في فيينا، أما هي فتجلت باعترافها «اريد أن اكون اما لابنك»، كان ذلك آخر الحب بينهما، فلما شك في تصرفاتها عند الحديث من الديبلوماسي الجزائري الذي التقته اكثر من مرة بدأ يهتز ثم يغضب فأراد أن يتيه بسطوة ماله فيذلها ربما او يذكرها، فأبت ذلك بعزتها وعنفوانها وكان الفراق.
تاريخيا واجتماعيا
لم تغفل الكاتبة البعد السياسي والاجتماعي لاحداث روياتها فها هي تعود وتذكر بما شهتده الجزائر من أحداث في التسعينات حيث انقلب الجيش على نتائج الانتخابات البرلمانية التي فاز بها الاسلاميون ممثلين لجبهة الانقاذ ما حدا بهم الى الثورة ونشأ نزاع أتى على البلاد بالويلات، الكاتبة تصف المقاتلين الاسلاميين بـ«الارهابيين» فهم اعداء البشر والحجر والفن، قتلوا والدها لانه مطرب وقتلو اخاها وعاثوا فسادا في الارض، خرجوا ليتحصنوا في الجبال ويواجهوا الجيش الجزائري في حين شملهم عفو رئاسي بعد انتهاء الاحداث فعاد قادتهم من كبار التجار مثل «عماد» الذي وشي بأخيها علاء للارهابيين واقنعهم بأن الثاني خائن على الرغم مما قدمه من خدمات انسانية لجرحاهم في الجبل.
المشهد نفسه يتكرر في سورية حيث قتل جدها على يد النظام السوري بمذابح حماه في 1982 وربما قصدت الكاتبة ان توازن بين الحادثتين من باب عدائها للعنف والقتل وتجريم القاتل ايا كان خطه السياسي او دينه، علما أن الصورة حاليا تتشابه فعلا سياسيا وتاريخيا.
تنتقل الكاتبة ايضا الى بغداد وقد أثخنتها جراح الاحتلال الاميركي في فترة كتابة الرواية، تعرض الكاتبة عبر «عز الدين» ما تعانيه بغداد من حرب ودمار وآهات، وتكون الخاتمة بخلع السواد والغناء من اجل بغداد، في ذلك الحفل الخيري المقام في ميونيخ.
اجتماعيا لم يكن الحب صافيا في الرواية؛ فهناك منغصات اجتماعية تعاني منها الجزائر، وهذا ما ورد ذكره على لسان حبيبها الاول مصطفى الذي اخبرها ان 10 في المئة من الجزائريين يعانون من امراض نفسية، وقد مر بهما شخص يحدث نفسه ويشتمها، ثم ان ذكرها الدائم للمجتمع المحافظ الذي يتباهى بامتلاكه للشرف هي سمة اجتماعية لم تندثر رغم اقبالها على الغناء، وأوضحت لنا قصة اندير حجم البطالة الذي عانى منه الشباب في مرحلة الحرب وما بعدها وهذا ما القى بهم الى ايدي «الحراقة» الذين يحرقون جوازات سفر المهاجرين بعد الزج بهم في عرض البحر حتى لا تتعرف عليهم الشرطة.
في غربة أمها وعودتها الى أحضان الوطن سورية ايضا صورة اجتماعية مهمة تمثلت في الحنين الى الوطن واللجوء اليه اخيرا في خضم الازمات، كما أن البذخ والرفاهية الذين عاشهما طلال وذاك التلذذ باستخدام امواله باستهتار يمثلان تصويرا لشريحة لم تعد قليلة في مجتمعاتنا العربية، رغبتها هي في مجاراة هذا المليونير وابهاره شكليا وماديا ايضا عرض لصورة يعاني منها البعض رغم ارهاقها ماديا وقلة تحصيلها في مجال العمل،واقتناعها بتواضع ما تقدمه، ولكن هذه الانثى حين تحب تعطي بلا ثمن وبلا مقابل وبسخاء عريض.
انتصار امرأة
عاشت هالة مرحلة انفصام انثى عن روحها نبضها حبها فتقلبت وتوجعت وانتظرت دون فائدة، الى ان عاد الديبلوماسي من جديد ليقدم لها حلما على طبق من ذهب، انه الاوبريت العالمي الذي يشبع طموحها ووطنيتها وغرورها الانثوي، ارادت ان تتحرر من غنائها له.. من كونها ملكه، وخلعت الاسود وكأن الاسود له فحسب.
أن اللحظة التي اشعلت غضب طلال بدفع من الغيرة وتأنيبا لنفسه على كشف اوراقه امام هالة كانت نقطة عودة هالة الى معدنها الاصلي المحافظ، كان قد تجهز للنيل من عذريتها التي «حمتها قبيلة من الرجال»، ولكنها رغم هفواتها وانسياقها الجنوني نحوه ثم مجاراته الى نومها في سريره واعترافها الصريح بحبه، آثرت العزة والعنفوان، فرمقته برفعة رأس ونظرة تعال حين عرض عليها امواله مغلفة بعبارات غضب كبير، ان اخلاقها الرجالية لم تسمح لها بالتمادي وهي تعرف انه ليس لها، فخرجت من ذاك الفندق الفخم في فيينا غير آبهة بجهلها بمعالم المدينة وقلة ما تملكه من مال.
إن جل ما يوثق انتصار المرأة في الرواية ليس ذاك الفرح والابداع الذي اظهرته في ميونيخ وفتح لها ابواب نجاح جديدة فحسب، وانما خلعها للاسود الذي لفته اليها وحببها باهتمامه، انها الان حرة وجاهزة لقلب الصفحة.
أما هو فيواصل تعاليه على نفسه، ولا يعترف بخسارته لها متخيلا انها الخاسرة وهذا من طباع الرجل العصية على التغيير في بلادنا.
لا شك أن الكاتبة قصدت للانثى أن تنتصر وهي المعروفة بانتمائها لانوثثها شعرا ونثرا، ولكن الانثى هذه المرة تحلت بأخلاق الرجال رغم هفواتها، وان كانت هذه الهفوات نسبية أي هي عادية جدا ولا تصنف كذلك في المجتمعات الفنية الاكثر تحررا.