زملاء وتلاميذ مصطفى ناصف ... أبّنوه في القاهرة
أقامت لجنة الدراسات اللغوية بالمجلس الأعلى للثقافة في مصر... حفلا لتأبين الدكتور مصطفى ناصف... شارك فيه عدد من النقاد وتلاميذ الراحل، وأدار اللقاء مقرر لجنة الدراسات اللغوية بالمجلس الدكتور أحمد درويش... الذي أكد أن مصطفى ناصف... اختار أن يطرح التساؤلات بدلا من أن يرضى بالإجابات، وأنه خطا في مجال تخصصه إلى العمق، وكشف عن منابع... كان من قبله ظنوا أنها استنفدت فإذا بها مليئة بالاكتشافات البكر.
حفل التأبين لم يقتصر على كلمات الرثاء وحديث الذكريات - الذي يغلب على حفلات التأبين... فقد اتخذ المتحدثون من هذه الذكريات مدخلاً لتناول بعض القضايا الأدبية وحال النقد والنقاد.
في البداية تحدث الناقد الدكتور محمد عبد المطلب قائلا: في إحدى جلسات الدكتور عبد القادر القط... التي كانت تقام صباح يوم الجمعة، قال لي الدكتور ناصف: أريد أن أتحدث معك في أمر يا محمد... وعندما جلسنا ترك الموضوع الذي كان يريد الحديث فيه وفتح ذاكرته على أشياء من أهم وأغلى ما يمكن، فهو يمتلك ذاكرة خصبة، وانفتحت ذاكرته في ذلك اليوم على «4» أعلام: «طه حسين وأمين الخولي وأحمد ضيف وإبراهيم مصطفى»، وانطلق يتحدث عن زمانه وكأنه من أخصب الأزمنة.
فتحدث عن طه حسين قائلا: «هذا الرجل علمني التسامح وحرية الرأي، وألا أتعصب لرأي من الآراء، وأن أحترم القديم احترامي للجديد».
فقلت له: يا أستاذي هل كان طه حسين يحب القديم بعد أن رفع راية الجديد، فقال لي: لقد سمعته يوما يرد على سؤال هو: ما الحدث الذي ندمت عليه يا دكتور طه؟.
قال: «يوم ألقيت عمامتي في البحر»... وكأن طه حسين قد أعطاه جميع هذه الصفات... أما الخولي فقد كان أقرب الناس إلى قلبه فهو الذي قاده في بداياته الأولى... كان أمين الخولي النموذج الذي يحرص على الاحتذاء به... أما إبراهيم مصطفى فيقول: إنه حببني في اللغة... وأحمد ضيف هو الذي قادني إلى محبة النص.
الدكتور محمود الربيعي... لفت إلى كتاب ناصف الأول «الصورة الأدبية» الذي صدر بعد عودته من لندن, وكيف أن البعض لم يصبروا على الكتاب ووصفوه بأنه غامض، فأسهل شيء هو اتهام ما لا نفهمه بالغموض، وقال: لقد كان عقله يفور بمجموعة من الأفكار الهائلة المتعلقة بدرس الأدب العربي... وكان يُكن احتراما عظيما للتراث العربي ويراوح دائما بين العودة للماضي والنظر للمستقبل... وبعد عودته من لندن فاجأ الحياة الأدبية بأربعة كتب: «رمز الطفل ـ دراسة في أدب المازني»، و«نظرية المعنى»، و«دراسة الأدب العربي»، و«مشكلة المعنى في النقد».
وعبر في هذه الكتب عن تلك الأفكار الفوارة، لكن المفاجأة الكبرى... كانت كتاب «قراءة ثانية في شعرنا القديم» ولا أزال أعتقد أن هذا الكتاب لا يمكن أن يتجاوزه الزمن، وكلما تدهورت أمور الثقافة أو انهار التعليم ازداد اعتقادنا أن مثل هذا الكتاب ينبغي أن يعود مرة أخرى أساسا للعمل... وأهيب بأساتذة الجامعات أن يسلحوا تلاميذهم بمثل هذه النظريات الأدبية الحية لا المستوردة المعلبة من خارج الحدود... ولا تلك النظريات التي إن تكن صالحة لزمان مضى لا يمكن أن تصلح لزماننا... ولا يمكن أن يكون الذين كتبوها من أجدادنا قد كتبوها وفي ذهنهم أنها صالحة لكل زمان ومكان.
ووصف الربيعي... ناصف بأنه صاحب نظرية نقدية عنقودية قوامها أنها كالحفار تتغلغل وتتغلغل... ثم تتفكك وتتفكك ثم تعود إلى التركيب... وعندما يقف على قوامها فلا يطمئن فيعود ويفكك... ويفكك، فهو يكتب لأن الكتابة متعة وغاية وهي البدء والنهاية وهي كل شيء.
وأشار... إلى أن مصطفى ناصف... ليس ممن يغيرون جلودهم حسب الرياح فمرة هم نقاد بنياويون... أو غير ذلك.
وقال: هؤلاء عيونهم على الموضة ويخشون أن يقال إنهم بعيدون عنها، وأن مصطفى ناصف يعلم أنه يقف على أرض صلبة ويقلب تربتها ويعرف أنها تنتج دائما... فلماذا يتركها وقال: استمساك ناصف بهذا الذي فعله بالرغم من أنه قد يساء به الظن ويقال إنه لا يتطور... وأنه يقف عند مناهج نقدية تجاوزها العصر... هذا يدل على أصالة نفتقدها هذه الأيام.
وأضاف الربيعي: ان مصطفى ناصف في قضية لغة الأدب قريب من الجاحظ، فنحن نعلم مقولة الجاحظ بأن الشعر تصوير وضرب من النسك وأما المعاني فهي مطروحة في الطريق... وهذه مقولة كبيرة والناس ظلموا الجاحظ بالفهم المتسرع لهذه المقولة لكن ناصف له فيها كلام جميل فهو يقول: الشعر لا يصنع من الكلمات ولكن من الأفكار... فالكلمات في الشعر ليست وسائل ولكنها غايات.
ولنسأل أنفسنا سؤالا: نحن لدينا قضية ولتكن قضية فلسطين السليبة... كم من القصائد قيلت فيها آلاف... لماذا تتفاوت القصائد ونصفق لبعضها والذي يجعله متفاوتا ما يقوله مصطفى ناصف... إن الشعر كلمات والقضية موجودة قبل الكلمات وبعد الكلمات... وقد كان هذا مدخل مصطفى ناصف وأسيء فهمه.
والحقيقة أن مصطفى ناصف... صاحب منهج مظلوم على طول الخط لأن الناس لم تأخذه بحقه.
أما الدكتور السيد إبراهيم... فقد أشار... إلى أن الفكرة الأساسية التي سيطرت على مصطفى ناصف... هي التأويل، وأنه للتأسيس لهذا المنهج حاول تخفيف النص من المناهج التي تربطه بالمؤثرات الخارجية، وأنه بذلك يعد ربيب المدارس النقدية الحديثة مثل الأسلوبية... وأن التأويل عنده هو عبارة عن قراءة ودودة للنص وتأمل وحوار خلاق بين النص والقارئ.
وأشار الدكتور سعيد البحيري... إلى أنه كان لديه ولع كبير جدا بالتعريفات المتعددة والإغراق في التأمل... وعدم الرغبة في الإفصاح عن الهدف الأساسي من الكتابة... وأن على القارئ أن يبذل جهداً مضنياً للوصول للأهداف لأنه هو قد بذل جهداً مضنياً في كتابة الكتاب... وأن ذلك شيء مشروع لأنه لا يجوز للإنسان أن يصل إلى كل شيء بسهولة.