No Script

مشاهد

سلوى في مهب الريح

u064au0648u0633u0641 u0627u0644u0642u0639u064au062f
يوسف القعيد
تصغير
تكبير
| يوسف القعيد |
الرجلان قبل الموضوع...
أحدهما بلدياتي الجميل ورائد الرومانسية في كتابة الرواية المصرية: محمد عبد الحليم عبد الله وعرفته ودخلت بيته في قريته كفر بولين في مركز كوم حمادة في محافظة البحيرة، شمال غربي مصر، وكتبت عنه ما يمكن أن يرقى لكتاب كامل، وأتمنى أن أجد الوقت لأجمع فصوله وأصدره.. فللرجل دين في عنقي.. كان أول أديب أراه بعيني في مدينة دمنهور في السنوات الأولى من ستينات القرن الماضي. واستمرت علاقتنا إلى أن مات بعد ذلك بتسع سنوات.. عرفته فيها جيدا.
الثاني سمعت عنه وقرأت له ولكني لم أره. إنه محمود تيمور. القاص والروائي الرائد. عرفت من عرفوه وتكلمت معهم عنه وقرأت له لكن عيني لم تقع عليه، لأنه مات خلال سنوات تجنيدي بالقوات المسلحة وفي هذه الفترة كانت صلتي بالواقع الثقافي محدودة جدا لأنني كنت جزءا من جيشٍ يعمل من أجل تحرير كامل التراب الوطني الذي جرى احتلاله في الخامس من يونيو 1967.
ولكن ما مناسبة جمعهما معاً في هذا المقال؟
المناسبة أن عبدالحليم عبدالله كان قد أجرى حوارات صحافية ثقافية من الوزن الثقيل مع عدد من أساتذته عندما كانت تصدر مجلة القصة عن نادي القصة في ستينات القرن الماضي. ومن ضمن هؤلاء الذين أجرى معهم حوارا كان محمود تيمور.
والحوار عندما يجرى بين مبدع ومبدع، وكاتب وكاتب، وصاحب إنتاج وصاحب إنتاج، فإنه يبتعد عن الأمور السطحية والنميمة اليومية وكل ما يمكن أن يسمى برغاوي الصابون. وينفذ إلى الأعماق. ولذلك فإن عبد الحليم عبد الله اختار رواية محمود تيمور «سلوى في مهب الريح».. لكي يكلمه عنها وكيف كتبها؟ وكيف توصل إلى حكايتها؟ وكيف نجح في خلق أبطالها؟ كان يسأل وتيمور يجيب.
إنه ليس مجرد حوار بين كاتب وكاتب. بل هو وليمة ثقافية كبرى بين قامتين مهمتين من قامات الإبداع الأدبي في مصر في قرننا العشرين.. وأرجوك أن تنسى تصنيفاتك سواء لعبد الحليم عبد الله أو لتيمور، وأن تحاول نسيان رأيك فيهما لأنهما أضافا إضافات حقيقية للثقافة المصرية والعربية سواء شئنا أم أبينا. وافقنا أم رفضنا.
ولأن الحوار بين أديب وأديب وليس صحافيا وصحافيا.. فقد ابتعدا عن دائرة السؤال والجواب الجهنمية. وعن اصطياد الأمور التي قد تكون مثيرة. لأن الهدف كان الثقافة قبل أي شيء آخر. وفي تصوري أن حوارات عبد الحليم عبد الله مع المبدعين الكبار حول أعمالهم الكبيرة لا بد أن تجمع في كتاب وتصدر لكي يقرأها شباب الأدباء في هذه الأيام بدلا من الجري واللهاث وراء منجزات الحضارة الجديدة والتي توجد فيها الثقافة والفكر. لكنها تخلو من أهم عنصر يحتاجه البشر الآن: الإنسانية ومشاعر البشر وأحاسيسهم.
كتب محمد عبد الحليم عبد الله:
- عن الملابسات والحوادث التي كانت سببا في ميلاد هذه القصة... تأكدت أن محمود تيمور يتذكر أشياء بعيدة عن «سلوى»... ونفس الأشياء التي ذكرها طه حسين عن هذه القصة يوم حملها إليه البريد في صيف ما وهو في فرنسا، قال ذلك طه حسين في خطاب ألقاه في مجمع اللغة العربية في سنة 1950 حين رحب بمحمود تيمور صاحب الرواية عضوا جديدا.
ـ قال طه حسين حسب رواية محمد عبد الحليم عبد الله عن قصة «سلوى » إنها جعلته ينصرف تماما عما كان حريصا على قراءته من الأدب الفرنسي ليقرأها وقد قضى وقتا سعيدا في قراءة الأدب العربي وهو في فرنسا.
قال محمود تيمور لعبد الحليم عبد الله عن الرواية:
- لعل أحداث القسم الأول منها وقع في رمل الإسكندرية أيام كنت أتردد على كازينو سان استيفانو في صيف 1930.. أيام شبابي.
ثم يصف عبد الحليم عبد الله محمود تيمور كاتبا وابتسم في استحياء كمن يكتم شيئا فابتسمت مشجعا للذكرى أن تنساب نحو الأديب الكبير. قائلا له:
- أعتقد أننا لسنا بصدد رصد حوادث شخصية دقيقة يا سيدي ولكن.. الذي لا شك فيه أن هناك جزءا من حياة الكاتب يخص جميع الناس.
فسارع مؤمّنا:
- نعم نعم. إنني لا أدري شيئا والذي أريد أن أقوله في صدق ووضوح ويقين هو أن «سلوى» هذه شخصية من الشخصيات التي قابلتها في كازينو سان استيفانو في ذلك الصيف.
وكنت أيامها ألتقي بعديد من الشخصيات منها من هو شعبي ومنها من هو غير شعبي، ومن تلك الطبقة المستعلية التي لم تعد موجودة والحمد لله في مجتمعنا. لكنني أحببت سلوى هذه.
- هل أحببت سلوى؟:
- أحببت سلوى بمعنى أنها ملكت على تفكيري.. اهتممت بأمرها.. ليس حبا بالمعنى المشهور ولكنه اهتمام بالشخصية والمصير. ولعلك تذكر أن سلوى هذه في القصة فتاة من الشعب انحرفت أمها فاحتضنها جدها.
- سلوى التي كانت تابعة لبنت زهيري باشا والتي كانت تأكل فضلات طعامها وتلبس خليع ملابسها، كان لا بد لها في هذا الوضع أن تحس بأن إنسانيتها ليست في وضعها الطبيعي، فالعدالة الاجتماعية شيء والصدقات شيء آخر وكلاهما له ظل نفسي وأثر اجتماعي مخالف.. فلسنا نعجب إذ رأينا سلوى تحقد على بنت الباشا فكان اختطاف سلوى لزوج بنت الباشا نوعاً من الاحتجاج على الوضع الاجتماعي الخالي من التكافؤ.
وإن كانت الحوادث الدموية في قصة البعث لتولستوي تناسب بلا شك خياله وذكريات شبابه فإن حوادث « سلوى في مهب الريح « تناسب بالضرورة خيالي وذكريات شبابي.
- أنا لا أعرف الكثير عن ذكريات طفولتك. كل علمي أنك ابن العالم الكبير أحمد تيمور باشا. فكيف كنت في ظل هذه الدوحة؟ كيف اقتربت من الفقراء في روايتك هذه؟
- اسمع يا عبد الحليم... لقد رأيت ناسا يعيشون من ريع الألف فدان ورأيت آخرين معهم يعيشون من ريع «الصفر»... هذا شيء غير معقول، والقوانين الاشتراكية جعلتنا نعيش في مجتمع العدل والكفاية... نعم... هذا جميل... وكل كاتب يريد أن يعبر عن هذا المجتمع الجديد المطرد الازدهار لابد أن يذكر أنه كاتب... وهناك فرق بين القوانين والقصة بل هناك فرق بين القانون نفسه وروح القانون. فروح القانون يعرفها القاضي الذكي وحده وروح الحياة الاشتراكية في الفن والأدب يعبر عنها الكاتب المبدع بطريقة تشبه تطبيق القاضي البارع لروح القانون.
* يكتب محمد عبد الحليم عبد الله:
ـ قلت لتيمور باشا مع أن الباشوية اختفت من حياتنا منذ سنوات تزيد على العشر.
- طه حسين يقول ما يريد. والعقاد يقول أكثر مما يريد. والحكيم يقول أقل مما يريد... فطرة!
ويختم عبد الحليم عبد الله لقاءه مع محمود تيمور بعبارة دالة تصل إلى حدود العبقرية:
- ورأيت أنا بعين الريفي الأصلي دلائل عدم الارتياح في عينيه.
نصيحة لقارئ المقال: لو كان لديك وقت فابحث عن رواية: سلوى في مهب الريح لمحمود تيمور، وإن وجدتها وأشك أنك ستجدها مهما حاولت البحث أقول إن وجدتها وأحاول قراءتها لتطل على كتابة الزمن القريب منا. مع أننا نتعامل معه على أنه زمن قديم موغل في القدم. وأيضا لتقارن بين ما قاله محمود تيمور لعبد الحليم عبد الله عن أساس القصة أو قصة القصة وبين القصة نفسها.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي