انتشرت مع تطور الحياة وهي أمر يحتاج إليه الناس كل في مجاله
المجاملة ... نظرة شرعية
المنافق هو الذي يظهر خلاف ما يبطن
| اعداد عبدالله متولي |
ألزم الإسلام أفراده بحُسن التعامل ولين الجانب في كافة تعاملاتهم الانسانية والاجتماعية وفي علاقاتهم مع بعضهم البعض حتى في تعاطيهم مع مفردات حياتهم اليومية** والتي بالتالي تنعكس على سير حياتهم وسلوكهم الحي الذي يقومون به على المستويات كافة، فالاسلام دائماً هو الأوسع والأكثر شمولاً في تسيير رحى الحياة بتأثيراتها وانعكاساتها بحيث تدعم الفرد في حياته بتقديم الاسلوب المتحضر للتعامل بين البشر مع ذواتهم ثم مع المحيطين بهم ثم مع موجودات الحياة بشكل عام فالاسلام يفرض حسن التعامل مع الغير في حدود الضوابط والالتزام بتشريع الدين وإذا كان في الاسلام كمنهج وتشريع الشيء الكثير مما يطول التعامل مع الغير فذلك لوجود ما يمثل الجانب الأخلاقي المتزن للاسلام الذي يعطى صلاحية الخلق ومستواه ومحترزاته وخط التعامل معه وفي ظل نسق اجتماعي متمكن من هنا فمن الموجب دراية أن يكون تعامل الأفراد وتطبيقهم للمبادىء الأخلاقية في حدود التشريع الأخلاقي التي يتسم بها الاسلام فرسولنا عليه الصلاة والسلام كان على خلق عظيم، وبعد هذا كله فإن التجاوز في التعامل الصحيح بين الناس سوف يحدث خلل في الاتساق المطلوب لمعاني السماحة واليسر في الدين فإذا ماأراد الانسان أن يعامل بالحسن واللين والطيب فعليه أن يكون تعامله بنفس مايرغب أن يعامل به.
وفي زحمة الأيام وفي مشاغل الحياة كثيراً ما نصادف أناساً يجاملوننا سواء بالأقوال أو الأفعال، أو كثيراً ما نضطر إلى استعمال اسلوب المجاملة لتحقيق أهدافنا،ومع تطور الحياة انتشرت المجاملة وأصبحت تدخل بين الأب وابنه وبين الأم وابنتها،وبين الموظف ورئسه في العمل،و المجاملة في حياتنا أمر يحتاج إليه الناس كل في مجاله سواء في العلاقات الأسرية أو الاقتصادية بل والسياسية.
فما هي حدود المجاملة التي وضعها الشرع الإسلامي؟ وما الحدود الفاصلة بين المجاملة والنفاق؟هذا ماسنعرض له بشيء من التفصيل فتابع معنا...
لابد أن نضع حدا فاصلا بين المجاملة والنفاق. حيث يخطئ كثير من الناس بجعل هاتين الكلمتين مترادفتين. حيث اختلط الأمر على كثيرين وصاروا يعدونهما نوعا مختلطا من الكذب والخداع والمغالطة والتضليل. وهناك من يعتبر المجاملة هى قول الكذب. ولفك هذا الاشتباك، نذهب إلى المعجم الوجيز وفيه نجد أن تعريف كلمة «المنافق: من يظهر خلاف ما يبطن. والمنافق: من يخفى الكفر ويظهر الإيمان. والمنافق: من يضمر العداوة ويظهر الصداقة». وبالبحث عن كلمة مجاملة نجد أن معنى «جامله: عامله بالجميل، وجامله: احسن عشرته، جمله: حسنه وزينه». فالمجاملة «هي أدب اجتماعي خلقي من أهم صفاته: الصدق والإخلاص والمودة واللباقة والعبارات المهذبة. أما النفاق فهو «وحده الذي يجمع بين الصفات القبيحة كالكذب والخداع والتضليل والغدر والمكر وإظهار المرء للناس من قوله وفعله بعكس ما يبطن».
وعند البدء في الحديث عن النفاق لابد أن نذكر ما قاله رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بهذا الخصوص، حيث ان النفاق والمنافقين كان لهم حظ وافر في القرآن والسنة النبوية المشرفة. وهذا دليل قوي على أهمية معرفة النفاق وأسبابه وكيف يدخل إلى القلب وكيف يفسده حيث انه بفساد القلب يفسد الدين. ففي أسباب دخول النفاق القلب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربع يفسدن القلب وينبتن النفاق في القلب كما ينبت الماء الشجر،استماع اللهو،و البذاء، وإتيان باب السلطان، وطلب الصيد». أما عن علامة المنافق،قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأما علامة المنافق فأربعة،فاجر دخله، يخالف لسانه قلبه، وقوله فعله، وسريرته علانيته،فويل للمنافق من النار». أما عن مكمن النفاق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربع من كن فيه فهو منافق، وإن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، من إذا حدث كذب،وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر». نذكر أيضا ما رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه فهو منافق: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان)، فقال رجل: يا رسول الله، ذهبت اثنتان وبقيت واحدة؟ قال: فإن عليه شعبة من نفاق ما بقي منهن شيء إن النفاق يبدأ صغيرا ولكنه يكبر مع الزمن ويزداد خطورته على القلب وفساد الدين والدنيا وهنا اذكر المثل القائل من شبّ على شيء شاب عليه. حيث ان الحرص على الدنيا والجري وراء الشهوات والبعد عن تعاليم الدين وعدم محاسبة النفس عند كل فعل،يجعل النفاق يتغلغل داخل كل تصرف ويصير الإنسان بلا ضبط نفسي يساعده على الرجوع عند اللزوم. حيث يتوه الإنسان في النهاية عن معرفة حقيقة نفسه ويتوه عنها من كثرة كذبه، وذلك حيث يكذب الإنسان على الآخرين ثم يصبح هو نفسه أسير كذبته بسبب كبريائه وغروره، وأخذ العزة بالإثم فإنه لا يمتلك العقل فحسب، بل انه لا يمتلك الشعور أيضا لهذا الخداع الذاتي.ولذلك لابد أن يحاسب المرء ذاته كل يوم حتى يحمد الله على ما فعل من خير ويستغفره على ما بدر منه من شر.
النفاق والمجاملة
كثيراً ما يخلط بعض الناس بين مفاهيم النفاق والمداراة والمداهنة، وسبب ذلك غياب معاني الأخوة والصحبة الصادقة في الذهن والواقع، فلم تعد قلوبهم تفرق بين الحق والباطل، وبين الإحسان والإساءة.
أولاً: إذا أُطلق لفظ النفاق فإنه يستوحي معانيَ الشر كلها، ولم يكن النفاق يوما محمودا ولو من وجه ما، ويعرِّفُه علماء السلوك بأنه إظهار الخير للتوصل إلى الشر المضمر.
فالمنافق لا يبتغي الخير أبدا، وإنما يسعى للإضرار بالناس وخيانتهم وجلب الشر لهم، ويتوصل إلى ذلك بإظهار الخير والصلاح، ويلبَسُ لَبوس الحب والمودة.
يقول سبحانه وتعالى في التحذير من صحبة المنافقين:
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ. هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ» (آل عمران/ 118-119).
وهكذا كل من يصاحب الناس فيظهرُ لهم الخير والمودة، وفي حقيقة أمره إنما يسعى في أذاهم، ويتمنى النيل منهم، ويطلبُ الشرَّ لهم.
ثانياً:أما المُدَارِي ( وهو المُجَامِلُ أيضا ) فلا يُضمِرُ الشر لأحد، ولا يسعى في أذية أحد في ظاهر ولا في باطن، ولكنه قد يظهر المحبة والمودة والبِشر وحسن المعاملة ليتألف قلب صاحب الخلق السيء، أو ليدفع أذاه عنه وعن غيره من الناس، ولكن دون أن يوافقه على باطله، أو يعاونَه عليه بالقول أو بالفعل.
قال ابن مفلح الحنبلي - رحمه الله -:وقيل لابن عقيل في فنونه: أسمع وصية الله عز وجل (ادْفَعْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)، وأسمع الناس يعدون من يظهر خلاف ما يبطن منافقا، فكيف لي بطاعة الله تعالى والتخلص من النفاق؟
فقال ابن عقيل: «النفاق هو: إظهار الجميل، وإبطان القبيح، وإضمار الشر مع إظهار الخير لإيقاع الشر، والذي تضمنتْه الآية: إظهار الحسن في مقابلة القبيح لاستدعاء الحسن».
فخرج من هذه الجملة أن النفاق إبطان الشر وإظهار الخير لإيقاع الشر المضمر، ومن أظهر الجميل والحسن في مقابلة القبيح ليزول الشر: فليس بمنافق، لكنه يستصلح، ألا تستمع إلى قوله سبحانه وتعالى (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)، فهذا اكتساب استمالة، ودفع عداوة، وإطفاء لنيران الحقائد، واستنماء الود، وإصلاح العقائد، فهذا طب المودات، واكتساب الرجال. «الآداب الشرعية» (1 / 50، 51).
ولذلك كانت المداراة من الأخلاق الحسنة الفاضلة، وذكر العلماء فيها من الآثار والأقوال الشيء الكثير.
قال ابن بطال رحمه الله: المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس، ولين الكلمة، وترك الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة. «فتح الباري» (10 / 528)
وقد أنشأ البخاري رحمه الله في صحيحه بابا بعنوان: (باب المداراة مع الناس) وقال فيه:
«ويُذكَرُ عن أبي الدرداء: إِنَّا لنُكَشِّرُ في وجوهِ أقوامٍ وإنَّ قُلوبَنا لَتَلعَنُهُم».
ومعنى «لنكشر»: من الكشر، وهو ظهور الأسنان، وأكثر ما يكون عند الضحك، وهو المراد هنا.
وأسند في هذا الباب حديث عائشة رضي الله عنها:
(أَنَّهُ استَأذَنَ عَلَى النّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَقَالَ: ائذَنُوا لَهُ فَبِئسَ ابنُ العَشِيرَةِ أَو بِئسَ أَخُو العَشِيرَةِ. فَلَمَّا دَخَلَ أَلَانَ لَهُ الكَلَامَ. فَقُلتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! قُلتَ مَا قُلتَ ثُمَّ أَلَنتَ لَهُ فِي القَولِ ؟ فَقَالَ: أَيْ عَائِشَةُ ! إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنزِلَةً عِندَ اللَّهِ مَن تَرَكَهُ أَو وَدَعَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحشِهِ).
قال ابن مفلح الحنبلي - رحمه الله -: وقول أبي الدرداء هذا ليس فيه موافقة على محرَّم، ولا في كلام، وإنما فيه طلاقة الوجه خاصة للمصلحة وهو معنى ما في الصحيحين وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها: يَا عَائِشَةُ إنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ وَدَعَهُ النَّاسُ أَوْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ.
قَالَ فِي «شَرْحِ مُسْلِمٍ» وَغَيْرِهِ: «فيه مداراة من يتقى فحشه، ولم يمدحه النبي صلى الله عليه وسلم ولا أثنى عليه في وجهه، ولا في قفاه، إنما تألفه بشيء من الدنيا مع لين الكلام».
ثالثاً:ومن المهم أيضا التفريق بين المداراة المحمودة، وبين المداهنة المذمومة، فقد يخلط الناس بينهما في حمأة اختلاط المفاهيم والأخلاق في هذه الأزمان.
قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -:
وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة فغَلِطَ ؛ لأن المداراة مندوبٌ إليها، والمداهنةَ محرَّمة، والفرق أن المداهنة من الدهان وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه، وفسرها العلماء بأنها: معاشرة الفاسق وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه، والمداراة: هي الرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن فعله، وتركُ الإغلاظِ عليه حيث لا يُظهِر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، ولا سيما إذا احتيج إلى تألفه ونحو ذلك. «فتح الباري» (10 / 528).
رابعاً: كثير من الأصحاب والأصدقاء - ويكثر ذلك في معشر النساء - يخطئون في فهم الوجه الصحيح لصحبتهم، فينحون نحو المغالاة الظاهرة التي تدفعهم إلى التعلق الشديد، في حين يكون الطرف المقابل لا يرى كل تلك المعاني المبالغة، بل يقصد صحبة طيبة متزنة اقتضاها الحال والمقام، وحينئذ يصدم من كان يُعَلِّقُ على تلك الصحبة آمالا لا تكاد تحملها الجبال، فنحن بحاجة إلى ترشيد المودة التي قد تأسر قلوبنا تجاه أناس نحبهم، كي لا نُفاجأ يوما، فنظن قصورا من المعاني هدمت، وهي لم تكن مبنيةً يوما.
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «لا يكن حُبُّكَ كَلَفًا ولا بغضك تَلَفًا».
وفي المقابل نحن بحاجة إلى تعميق معاني الأخوة، الأخوة التي تقتضي الوفاء والصدق والإخلاص، وترفع التكلف والمجاملة والمداراة. وقديما قالوا: «إِذَا صَحَّتِ المَوَدَّةُ سَقَطَ التَّكَلُّفُ».
ولاشك أن مثل هذه المجاملة مذمومة، إذ ليس لها محل في سياق الأخوة والصحبة الصالحة، وإن وقعت المجاملة أحيانا بين الأصحاب فإنما تكون بحسب المقام فقط، درءا لفتنة أو حفظا لمودة، أما أن تكون المجاملة شعار تلك الصداقة، فذلك تشويه لجميع معاني الأخوة الصادقة.
قال علي رضي الله عنه: شر الأصدقاء من تكلف لك، ومن أحوجك إلى مداراة، وألجأك إلى اعتذار.
وقيل لبعضهم: من نصحب ؟ قال: من يرفع عنك ثقل التكلف، وتسقط بينك وبينه مؤنة التحفظ.
المجاملة وفن التعامل
الشخص الذي لا يجامل الناس غالباً ما يخسرهم جميعا لأنه لا يدرك مدى أهمية المجاملة، بل هي ركن من أركان فن التعامل مع الآخرين على المستوى الفردي والجماعي حتى الدولي، ولكن هناك أعراض جانبية تحدث بعد كل مجاملة، إيجابية أحياناً وأخرى سلبية تؤثر على الشخص المجامل والمجامل له.
وبالنظر للشخص الذي ينكر ضرورة المجاملة ويتوكأ في معاملته على الصراحة غالباً ما نجده ثقيل الظل لدى البعض لا يطاق وفي النهاية هو الخاسر، فطرت القلوب على حب المدح والثناء، والمجاملة، فلا نكابر، والعاقل يميز بين من يستحق المجاملة ومن لا يستحقها والظرف المناسب لها وإلى أي بعد ستصل هذه المجاملة وما خلفياتها، فلا نكون مجاملين على حساب مصالحنا ولا نكون صريحين لحد الوقاحة، فهناك فرق وطريق وسط بينهما على العاقل أن يتقن السير عليه.
فلو تحدثنا عن بعض الأمور التي يجب فيها المجاملة لما أحصيناها وخاصة مع من نصافحهم بكثرة كالأصدقاء والأقارب لأدركنا كم يجب ألا نستصغر في تعاملنا مع الآخرين أي فعل أو كلمة تقال، ولنجرب بأنفسنا مدى وقع هذه الكلمات علينا وكيف أنها قد تكون الشعور بالارتياح أو الاستياء ومع مرور الوقت تترسب هذه الكلمات والأفعال لدى المتلقي فيتكون لديه الشعور بالحب والرغبة في الاستمرار أو الكراهية والنفور، فإما أن تبنى روابط العلاقة على جميع المستويات وتحيطها بشيء من التلاطف والرقي أو تحطمها.
ورغم احتياجنا للمجاملة كفن ووسيلة مرغوبة في التعامل لمن يحسن إدارتها إلا أننا نجد أحياناً من لا يجيد التعامل بها وإن جامل أفرط فأضر لدرجة الإخلال بأسس لا تقوم إلا بالصراحة فتؤثر على المجامل أو المجامل له.
كعلاقة الناقد بالمنقود فلا يحق للأول أن يجامل الثاني فيما طلب النقد فيه، فعلى الأول أن يقول ما يرى أنه الصواب وبكل صراحة. ويقاس على هذا المثال أمثلة كثيرة لا مجال للمجاملة فيها لما تخلفه من آثار جانبية قد تضر بالمجامل له.
وليس على الشخص أن يبالغ في المجاملة ويكثر من التصنع والتمثيل فهذه لها صدى سيئ لدى المتلقي وقد تصل أحياناً لحد النفاق.
كل ما عليه هو أن يجيد اختيار الكلمات المناسبة لكل مقام مجاملة وأن يخط على وجهه بعض الابتسامات التي تبعث الارتياح وتخفف من وقع المعارضة والنقد دون الصراحة الجارحة.
وفي النقاش مهما احتد لا بد من شيء من الإيضاح والإقناع عن وجهة نظر مطروحة بلا تعصب لرأي شخصي لكي يتسنى للطرف الآخر في الحوار استيعاب الفكرة وتقبل الرأي المغاير دون الشعور بالحرج أو بالنقص فإن اقتنع كان بها وإن لم يقتنع فأعلم أن ليس هناك من هو قادر على اقناع الجميع.
النفاق الاجتماعي ما بين الحلال والحرام
ظاهرة عجيبة تفشّت وتغلغلت بين الناس، وتعددت أسماؤها ومفاهيمها والمقاصد منها تحت ما يسمى «النفاق الاجتماعي»، وهو مختلف عن المديح أو المجاملة التي تقدم من شخص لآخر، لأن النفاق الاجتماعي يختلف بمعناه الحقيقي عن المجاملة والمديح بأنه مذموم شرعًا بجميع صوره؛ لأن القصد منه الكذب على الناس لتحصيل مقاصد دنيوية، أو الرفع من مكانة اجتماعية وإظهار النفس بخلاف ما هي عليه حقيقةً، وهذا ما يسمى بالنفاق العملي.
وتدخل المجاملة أو المديح في النفاق إذا كانت مدحًا للناس بما ليس فيهم أو موافقة وإصحاحًا للمخطئ على خطئه ودخل فيها الكذب بقصد إرضاء الممدوح فهذا ما يذم شرعًا، ويعتبر نفاقًا عمليًا (اجتماعيًا).
والنفاق الاجتماعي يعد منافيًا لمبادئ وأخلاق الدين الإسلامي، وصفة النفاق مذمومة وتدل على ضعف إيمان مرتكبها، وقلة خوفه من الله ومن عقابه، لكنه لا يخرج صاحبه من الإسلام ويعرضه للعقوبة، والسبب في انتشاره وتفشيه بين الناس: الطمع المادي، وضعف الثقة بالنفس، والشعور بالنقص، ووجود من يتساهل في هذه الأمور من المعلمين والأهل، وبعض الوسائل الإعلامية، فجميعها تغذي وتنمي هذا المرض للأسف، وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالصدق والإخلاص في الأقوال والأفعال، وحبب فيه، ونهى عن الكذب والرياء، وحذر منه لما فيه من غش وتدليس وخيانة وظلم للنفس والعباد؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالصدق فإنّ الصدق يهدي إلى البر، وإنّ البر يهدي إلى الجنة، وما زال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، وإياكم والكذب فإنّ الكذب يهدي إلى الفجور، وإنّ الفجور يهدي إلى النار، ومازال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا»، رواه مسلم.
ولعلاج حالة النفاق الاجتماعي، يمكن اتباع طرق عديدة بإمكانها لفت نظر الأشخاص وحثهم على اجتنابه، وذلك بتوضيح وتبيين خطورته في الدنيا والآخرة من خلال النصوص الشرعية، وذلك عبر وسائل الإعلام وعن طريق الحلقات في المساجد والدروس الدينية والتربوية في المدارس، والتحذير من العقاب المترتب عليه، كما أنه من المهم تعليم الشخص أنّ النفاق الاجتماعي لن يأتي له برزق ما لم يكن مكتوبًا له، وأنّ ما يحصل عليه من مال ووجاهة بسبب النفاق يخشى أن يكون سحتًا وحرامًا، ومن المهم أيضًا أن يعلم الناس أنّ المنافق اجتماعيًا معرض لسخرية الناس وتحقيرهم واستهزائهم من أقواله وأفعاله، على عكس ما يعتقده من أنه سيجذب محبة الناس ويستخف بهم، ومن الجدير العلم به أنّ حبل النفاق كحبل الكذب؛ قصير، وأنه إن انطلى على بعض الناس بزخرف القول فسيأتي الوقت الذي تنجلي فيه الحقيقة، وينكشف المنافق الكذاب عاجلاً أم آجلاً، وسيلفظ كما لفظ أمثاله، وأن يعلم أيضًا أن ذلك يعرضه لمقت الله، وعقوبته في الدنيا والآخرة.
وعلى المسلم أن يتحرى الصفات الحسنة، والأخلاق الحميدة التي اعتبر الحياء أهمها وأكثرها تأثيرًا؛ لأنّ من يستحيي من الله ثم من الناس لا يمكن أبدًا أن يتساهل بالنفاق، وفي الحديث المتفق عليه يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «الحياء لا يأتي إلا بالخير».
أما طرق العلاج لمن أصيب بهذه الآفة فتحتاج لمجاهدة النفس على ترك هذه الصفة، وأن يدعو الله بإلحاح أن يخلصه وإخوته المسلمين منها، كما أنّ للأسرة أيضًا دورًا فعّالاً في العلاج؛ يقدمون النصح له مثلاً ويتعاونون معه على تركه، حتى المجتمع المحيط بإمكانه الإسهام في العلاج؛ بعدم السكوت عنه، وعدم إبداء الإعجاب بكلامه؛ لأنّ الحالتين إن كانتا سكوتًا عنه أم إعجابًا بكلامه، فسيتمادى في نفاقه.
المجاملة بين الحق والباطل
سُئِل سماحة العلامة الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - السؤال التالي: في بعض الظروف تقتضي المجاملة بألا نقول الحقيقة، فهل يعتبر هذا نوعا من الكذب؟
فأجاب الشيخ بقوله: هذا فيه تفصيل، فإن كانت المجاملة يترتب عليها جحد حق أو إثبات باطل لم تجز هذه المجاملة. أما إن كانت المجاملة لا يترتب عليها شيء من الباطل إنما هي كلمات طيبة فيها إجمال ولا تتضمن شهادة بغير حق لأحد ولا إسقاط حق لأحد فلا أعلم حرجا في ذلك.
ففي صحيح البخاري عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال أثنى رجل على رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال ويلك قطعت عنق صاحبك قطعت عنق صاحبك مرارا ثم قال من كان منكم مادحا أخاه لا محالة فليقل أحسب فلانا والله حسيبه ولا أزكي على الله أحدا أحسبه كذا وكذا إن كان يعلم ذلك منه.
وفي صحيح مسلم:باب النهي عن المدح إذا كان فيه إفراط، وخيف منه فتنة على الممدوح عن عبدالرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، قال: مدح رجل رجلا، عند النبي صلى الله عليه وسلم قال، فقال «ويحك! قطعت عنق صاحبك. قطعت عنق صاحبك» مرارا «إذا كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة، فليقل: أحسب فلانا. والله حسيبه. ولا أزكي على الله أحدا. أحسبه، إن كان يعلم ذاك، كذا وكذا».
(مدح رجل رجلا) ذكر مسلم في هذا الباب الأحاديث الواردة في النهي عن المدح. وقد جاءت أحاديث كثيرة، في الصحيحين، بالمدح في الوجه.
قال العلماء: وطريق الجمع بينهما أن النهي محمول على المجازفة في المدح، والزيادة في الأوصاف، أو على من يخاف عليه فتنة من إعجاب ونحوه إذا سمع المدح. وأما من لا يخاف عليه ذلك، لكمال تقواه ورسوخ عقله ومعرفته، فلا نهي في مدحه في وجهه، إذا لم يكن فيه مجازفة.
بل إن كان يحصل بذلك مصلحة كنشطه للخبر والازدياد منه، أو الدوام عليه، أو الاقتداء به، كان مستحبا. (قطعت عنق صاحبك) وفي رواية: قطعتم ظهر الرجل. معناه أهلكتموه.
وهذه استعارة من قطع العنق، الذي هو القتل، لاشتراكهما في الهلاك. لكن هلاك هذا الممدوح في دينه، وقد يكون من جهة الدنيا، لما يشتبه عليه، من حاله بالإعجاب.
(ولا أزكى على الله أحدا) أي لا أقطع على عاقبة أحد ولا ضميره، لأن ذلك مغيب عني. ولكن أحسب وأظن، لوجود الظاهر المقتضى لذلك.
عن عبدالرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه ذكر عنده رجل. فقال رجل: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من رجل، بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أفضل منه في كذا وكذا.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم «ويحك! قطعت عنق صاحبك» مرارا يقول ذلك. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن كان أحدكم مادحا أخاه، لا محالة، فليقل: أحسب فلانا، إن كان يرى أنه كذلك. ولا أزكي على الله أحدا».
وعن أبي موسى، قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يثني على رجل، ويطريه في المدحة. فقال «لقد أهلكتم، أو قطعتم، ظهر الرجل».
(ويطريه في المدحة) الإطراء مجاوزة الحد في المدح. و(المدحة، بكسر الميم).
وعن أبي معمر، قال: قام رجل يثني على أمير من الأمراء. فجعل المقداد يحثي عليه التراب، وقال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحثي في وجوه المداحين التراب.
(أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحثي في وجوه المداحين التراب) هذا الحديث، قد حمله على ظاهره المقداد، الذي هو راويه. ووافقه طائفة. وكانوا يحثون التراب في وجهه حقيقة. وقال آخرون: معناه خيبوهم فلا تعطوهم شيئا لمدحهم.
وعن همام بن الحارث؛ أن رجلا جعل يمدح عثمان. فعمد المقداد. فجثا على ركبتيه.
وكان رجلا ضخما. فجعل يحثو في وجهه الحصباء. فقال له عثمان: ما شأنك؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إذا رأيتم المداحين، فاحثوا في وجوههم التراب».
ألزم الإسلام أفراده بحُسن التعامل ولين الجانب في كافة تعاملاتهم الانسانية والاجتماعية وفي علاقاتهم مع بعضهم البعض حتى في تعاطيهم مع مفردات حياتهم اليومية** والتي بالتالي تنعكس على سير حياتهم وسلوكهم الحي الذي يقومون به على المستويات كافة، فالاسلام دائماً هو الأوسع والأكثر شمولاً في تسيير رحى الحياة بتأثيراتها وانعكاساتها بحيث تدعم الفرد في حياته بتقديم الاسلوب المتحضر للتعامل بين البشر مع ذواتهم ثم مع المحيطين بهم ثم مع موجودات الحياة بشكل عام فالاسلام يفرض حسن التعامل مع الغير في حدود الضوابط والالتزام بتشريع الدين وإذا كان في الاسلام كمنهج وتشريع الشيء الكثير مما يطول التعامل مع الغير فذلك لوجود ما يمثل الجانب الأخلاقي المتزن للاسلام الذي يعطى صلاحية الخلق ومستواه ومحترزاته وخط التعامل معه وفي ظل نسق اجتماعي متمكن من هنا فمن الموجب دراية أن يكون تعامل الأفراد وتطبيقهم للمبادىء الأخلاقية في حدود التشريع الأخلاقي التي يتسم بها الاسلام فرسولنا عليه الصلاة والسلام كان على خلق عظيم، وبعد هذا كله فإن التجاوز في التعامل الصحيح بين الناس سوف يحدث خلل في الاتساق المطلوب لمعاني السماحة واليسر في الدين فإذا ماأراد الانسان أن يعامل بالحسن واللين والطيب فعليه أن يكون تعامله بنفس مايرغب أن يعامل به.
وفي زحمة الأيام وفي مشاغل الحياة كثيراً ما نصادف أناساً يجاملوننا سواء بالأقوال أو الأفعال، أو كثيراً ما نضطر إلى استعمال اسلوب المجاملة لتحقيق أهدافنا،ومع تطور الحياة انتشرت المجاملة وأصبحت تدخل بين الأب وابنه وبين الأم وابنتها،وبين الموظف ورئسه في العمل،و المجاملة في حياتنا أمر يحتاج إليه الناس كل في مجاله سواء في العلاقات الأسرية أو الاقتصادية بل والسياسية.
فما هي حدود المجاملة التي وضعها الشرع الإسلامي؟ وما الحدود الفاصلة بين المجاملة والنفاق؟هذا ماسنعرض له بشيء من التفصيل فتابع معنا...
لابد أن نضع حدا فاصلا بين المجاملة والنفاق. حيث يخطئ كثير من الناس بجعل هاتين الكلمتين مترادفتين. حيث اختلط الأمر على كثيرين وصاروا يعدونهما نوعا مختلطا من الكذب والخداع والمغالطة والتضليل. وهناك من يعتبر المجاملة هى قول الكذب. ولفك هذا الاشتباك، نذهب إلى المعجم الوجيز وفيه نجد أن تعريف كلمة «المنافق: من يظهر خلاف ما يبطن. والمنافق: من يخفى الكفر ويظهر الإيمان. والمنافق: من يضمر العداوة ويظهر الصداقة». وبالبحث عن كلمة مجاملة نجد أن معنى «جامله: عامله بالجميل، وجامله: احسن عشرته، جمله: حسنه وزينه». فالمجاملة «هي أدب اجتماعي خلقي من أهم صفاته: الصدق والإخلاص والمودة واللباقة والعبارات المهذبة. أما النفاق فهو «وحده الذي يجمع بين الصفات القبيحة كالكذب والخداع والتضليل والغدر والمكر وإظهار المرء للناس من قوله وفعله بعكس ما يبطن».
وعند البدء في الحديث عن النفاق لابد أن نذكر ما قاله رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بهذا الخصوص، حيث ان النفاق والمنافقين كان لهم حظ وافر في القرآن والسنة النبوية المشرفة. وهذا دليل قوي على أهمية معرفة النفاق وأسبابه وكيف يدخل إلى القلب وكيف يفسده حيث انه بفساد القلب يفسد الدين. ففي أسباب دخول النفاق القلب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربع يفسدن القلب وينبتن النفاق في القلب كما ينبت الماء الشجر،استماع اللهو،و البذاء، وإتيان باب السلطان، وطلب الصيد». أما عن علامة المنافق،قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأما علامة المنافق فأربعة،فاجر دخله، يخالف لسانه قلبه، وقوله فعله، وسريرته علانيته،فويل للمنافق من النار». أما عن مكمن النفاق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربع من كن فيه فهو منافق، وإن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، من إذا حدث كذب،وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر». نذكر أيضا ما رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه فهو منافق: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان)، فقال رجل: يا رسول الله، ذهبت اثنتان وبقيت واحدة؟ قال: فإن عليه شعبة من نفاق ما بقي منهن شيء إن النفاق يبدأ صغيرا ولكنه يكبر مع الزمن ويزداد خطورته على القلب وفساد الدين والدنيا وهنا اذكر المثل القائل من شبّ على شيء شاب عليه. حيث ان الحرص على الدنيا والجري وراء الشهوات والبعد عن تعاليم الدين وعدم محاسبة النفس عند كل فعل،يجعل النفاق يتغلغل داخل كل تصرف ويصير الإنسان بلا ضبط نفسي يساعده على الرجوع عند اللزوم. حيث يتوه الإنسان في النهاية عن معرفة حقيقة نفسه ويتوه عنها من كثرة كذبه، وذلك حيث يكذب الإنسان على الآخرين ثم يصبح هو نفسه أسير كذبته بسبب كبريائه وغروره، وأخذ العزة بالإثم فإنه لا يمتلك العقل فحسب، بل انه لا يمتلك الشعور أيضا لهذا الخداع الذاتي.ولذلك لابد أن يحاسب المرء ذاته كل يوم حتى يحمد الله على ما فعل من خير ويستغفره على ما بدر منه من شر.
النفاق والمجاملة
كثيراً ما يخلط بعض الناس بين مفاهيم النفاق والمداراة والمداهنة، وسبب ذلك غياب معاني الأخوة والصحبة الصادقة في الذهن والواقع، فلم تعد قلوبهم تفرق بين الحق والباطل، وبين الإحسان والإساءة.
أولاً: إذا أُطلق لفظ النفاق فإنه يستوحي معانيَ الشر كلها، ولم يكن النفاق يوما محمودا ولو من وجه ما، ويعرِّفُه علماء السلوك بأنه إظهار الخير للتوصل إلى الشر المضمر.
فالمنافق لا يبتغي الخير أبدا، وإنما يسعى للإضرار بالناس وخيانتهم وجلب الشر لهم، ويتوصل إلى ذلك بإظهار الخير والصلاح، ويلبَسُ لَبوس الحب والمودة.
يقول سبحانه وتعالى في التحذير من صحبة المنافقين:
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ. هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ» (آل عمران/ 118-119).
وهكذا كل من يصاحب الناس فيظهرُ لهم الخير والمودة، وفي حقيقة أمره إنما يسعى في أذاهم، ويتمنى النيل منهم، ويطلبُ الشرَّ لهم.
ثانياً:أما المُدَارِي ( وهو المُجَامِلُ أيضا ) فلا يُضمِرُ الشر لأحد، ولا يسعى في أذية أحد في ظاهر ولا في باطن، ولكنه قد يظهر المحبة والمودة والبِشر وحسن المعاملة ليتألف قلب صاحب الخلق السيء، أو ليدفع أذاه عنه وعن غيره من الناس، ولكن دون أن يوافقه على باطله، أو يعاونَه عليه بالقول أو بالفعل.
قال ابن مفلح الحنبلي - رحمه الله -:وقيل لابن عقيل في فنونه: أسمع وصية الله عز وجل (ادْفَعْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)، وأسمع الناس يعدون من يظهر خلاف ما يبطن منافقا، فكيف لي بطاعة الله تعالى والتخلص من النفاق؟
فقال ابن عقيل: «النفاق هو: إظهار الجميل، وإبطان القبيح، وإضمار الشر مع إظهار الخير لإيقاع الشر، والذي تضمنتْه الآية: إظهار الحسن في مقابلة القبيح لاستدعاء الحسن».
فخرج من هذه الجملة أن النفاق إبطان الشر وإظهار الخير لإيقاع الشر المضمر، ومن أظهر الجميل والحسن في مقابلة القبيح ليزول الشر: فليس بمنافق، لكنه يستصلح، ألا تستمع إلى قوله سبحانه وتعالى (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)، فهذا اكتساب استمالة، ودفع عداوة، وإطفاء لنيران الحقائد، واستنماء الود، وإصلاح العقائد، فهذا طب المودات، واكتساب الرجال. «الآداب الشرعية» (1 / 50، 51).
ولذلك كانت المداراة من الأخلاق الحسنة الفاضلة، وذكر العلماء فيها من الآثار والأقوال الشيء الكثير.
قال ابن بطال رحمه الله: المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس، ولين الكلمة، وترك الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة. «فتح الباري» (10 / 528)
وقد أنشأ البخاري رحمه الله في صحيحه بابا بعنوان: (باب المداراة مع الناس) وقال فيه:
«ويُذكَرُ عن أبي الدرداء: إِنَّا لنُكَشِّرُ في وجوهِ أقوامٍ وإنَّ قُلوبَنا لَتَلعَنُهُم».
ومعنى «لنكشر»: من الكشر، وهو ظهور الأسنان، وأكثر ما يكون عند الضحك، وهو المراد هنا.
وأسند في هذا الباب حديث عائشة رضي الله عنها:
(أَنَّهُ استَأذَنَ عَلَى النّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَقَالَ: ائذَنُوا لَهُ فَبِئسَ ابنُ العَشِيرَةِ أَو بِئسَ أَخُو العَشِيرَةِ. فَلَمَّا دَخَلَ أَلَانَ لَهُ الكَلَامَ. فَقُلتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! قُلتَ مَا قُلتَ ثُمَّ أَلَنتَ لَهُ فِي القَولِ ؟ فَقَالَ: أَيْ عَائِشَةُ ! إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنزِلَةً عِندَ اللَّهِ مَن تَرَكَهُ أَو وَدَعَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحشِهِ).
قال ابن مفلح الحنبلي - رحمه الله -: وقول أبي الدرداء هذا ليس فيه موافقة على محرَّم، ولا في كلام، وإنما فيه طلاقة الوجه خاصة للمصلحة وهو معنى ما في الصحيحين وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها: يَا عَائِشَةُ إنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ وَدَعَهُ النَّاسُ أَوْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ.
قَالَ فِي «شَرْحِ مُسْلِمٍ» وَغَيْرِهِ: «فيه مداراة من يتقى فحشه، ولم يمدحه النبي صلى الله عليه وسلم ولا أثنى عليه في وجهه، ولا في قفاه، إنما تألفه بشيء من الدنيا مع لين الكلام».
ثالثاً:ومن المهم أيضا التفريق بين المداراة المحمودة، وبين المداهنة المذمومة، فقد يخلط الناس بينهما في حمأة اختلاط المفاهيم والأخلاق في هذه الأزمان.
قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -:
وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة فغَلِطَ ؛ لأن المداراة مندوبٌ إليها، والمداهنةَ محرَّمة، والفرق أن المداهنة من الدهان وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه، وفسرها العلماء بأنها: معاشرة الفاسق وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه، والمداراة: هي الرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن فعله، وتركُ الإغلاظِ عليه حيث لا يُظهِر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، ولا سيما إذا احتيج إلى تألفه ونحو ذلك. «فتح الباري» (10 / 528).
رابعاً: كثير من الأصحاب والأصدقاء - ويكثر ذلك في معشر النساء - يخطئون في فهم الوجه الصحيح لصحبتهم، فينحون نحو المغالاة الظاهرة التي تدفعهم إلى التعلق الشديد، في حين يكون الطرف المقابل لا يرى كل تلك المعاني المبالغة، بل يقصد صحبة طيبة متزنة اقتضاها الحال والمقام، وحينئذ يصدم من كان يُعَلِّقُ على تلك الصحبة آمالا لا تكاد تحملها الجبال، فنحن بحاجة إلى ترشيد المودة التي قد تأسر قلوبنا تجاه أناس نحبهم، كي لا نُفاجأ يوما، فنظن قصورا من المعاني هدمت، وهي لم تكن مبنيةً يوما.
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «لا يكن حُبُّكَ كَلَفًا ولا بغضك تَلَفًا».
وفي المقابل نحن بحاجة إلى تعميق معاني الأخوة، الأخوة التي تقتضي الوفاء والصدق والإخلاص، وترفع التكلف والمجاملة والمداراة. وقديما قالوا: «إِذَا صَحَّتِ المَوَدَّةُ سَقَطَ التَّكَلُّفُ».
ولاشك أن مثل هذه المجاملة مذمومة، إذ ليس لها محل في سياق الأخوة والصحبة الصالحة، وإن وقعت المجاملة أحيانا بين الأصحاب فإنما تكون بحسب المقام فقط، درءا لفتنة أو حفظا لمودة، أما أن تكون المجاملة شعار تلك الصداقة، فذلك تشويه لجميع معاني الأخوة الصادقة.
قال علي رضي الله عنه: شر الأصدقاء من تكلف لك، ومن أحوجك إلى مداراة، وألجأك إلى اعتذار.
وقيل لبعضهم: من نصحب ؟ قال: من يرفع عنك ثقل التكلف، وتسقط بينك وبينه مؤنة التحفظ.
المجاملة وفن التعامل
الشخص الذي لا يجامل الناس غالباً ما يخسرهم جميعا لأنه لا يدرك مدى أهمية المجاملة، بل هي ركن من أركان فن التعامل مع الآخرين على المستوى الفردي والجماعي حتى الدولي، ولكن هناك أعراض جانبية تحدث بعد كل مجاملة، إيجابية أحياناً وأخرى سلبية تؤثر على الشخص المجامل والمجامل له.
وبالنظر للشخص الذي ينكر ضرورة المجاملة ويتوكأ في معاملته على الصراحة غالباً ما نجده ثقيل الظل لدى البعض لا يطاق وفي النهاية هو الخاسر، فطرت القلوب على حب المدح والثناء، والمجاملة، فلا نكابر، والعاقل يميز بين من يستحق المجاملة ومن لا يستحقها والظرف المناسب لها وإلى أي بعد ستصل هذه المجاملة وما خلفياتها، فلا نكون مجاملين على حساب مصالحنا ولا نكون صريحين لحد الوقاحة، فهناك فرق وطريق وسط بينهما على العاقل أن يتقن السير عليه.
فلو تحدثنا عن بعض الأمور التي يجب فيها المجاملة لما أحصيناها وخاصة مع من نصافحهم بكثرة كالأصدقاء والأقارب لأدركنا كم يجب ألا نستصغر في تعاملنا مع الآخرين أي فعل أو كلمة تقال، ولنجرب بأنفسنا مدى وقع هذه الكلمات علينا وكيف أنها قد تكون الشعور بالارتياح أو الاستياء ومع مرور الوقت تترسب هذه الكلمات والأفعال لدى المتلقي فيتكون لديه الشعور بالحب والرغبة في الاستمرار أو الكراهية والنفور، فإما أن تبنى روابط العلاقة على جميع المستويات وتحيطها بشيء من التلاطف والرقي أو تحطمها.
ورغم احتياجنا للمجاملة كفن ووسيلة مرغوبة في التعامل لمن يحسن إدارتها إلا أننا نجد أحياناً من لا يجيد التعامل بها وإن جامل أفرط فأضر لدرجة الإخلال بأسس لا تقوم إلا بالصراحة فتؤثر على المجامل أو المجامل له.
كعلاقة الناقد بالمنقود فلا يحق للأول أن يجامل الثاني فيما طلب النقد فيه، فعلى الأول أن يقول ما يرى أنه الصواب وبكل صراحة. ويقاس على هذا المثال أمثلة كثيرة لا مجال للمجاملة فيها لما تخلفه من آثار جانبية قد تضر بالمجامل له.
وليس على الشخص أن يبالغ في المجاملة ويكثر من التصنع والتمثيل فهذه لها صدى سيئ لدى المتلقي وقد تصل أحياناً لحد النفاق.
كل ما عليه هو أن يجيد اختيار الكلمات المناسبة لكل مقام مجاملة وأن يخط على وجهه بعض الابتسامات التي تبعث الارتياح وتخفف من وقع المعارضة والنقد دون الصراحة الجارحة.
وفي النقاش مهما احتد لا بد من شيء من الإيضاح والإقناع عن وجهة نظر مطروحة بلا تعصب لرأي شخصي لكي يتسنى للطرف الآخر في الحوار استيعاب الفكرة وتقبل الرأي المغاير دون الشعور بالحرج أو بالنقص فإن اقتنع كان بها وإن لم يقتنع فأعلم أن ليس هناك من هو قادر على اقناع الجميع.
النفاق الاجتماعي ما بين الحلال والحرام
ظاهرة عجيبة تفشّت وتغلغلت بين الناس، وتعددت أسماؤها ومفاهيمها والمقاصد منها تحت ما يسمى «النفاق الاجتماعي»، وهو مختلف عن المديح أو المجاملة التي تقدم من شخص لآخر، لأن النفاق الاجتماعي يختلف بمعناه الحقيقي عن المجاملة والمديح بأنه مذموم شرعًا بجميع صوره؛ لأن القصد منه الكذب على الناس لتحصيل مقاصد دنيوية، أو الرفع من مكانة اجتماعية وإظهار النفس بخلاف ما هي عليه حقيقةً، وهذا ما يسمى بالنفاق العملي.
وتدخل المجاملة أو المديح في النفاق إذا كانت مدحًا للناس بما ليس فيهم أو موافقة وإصحاحًا للمخطئ على خطئه ودخل فيها الكذب بقصد إرضاء الممدوح فهذا ما يذم شرعًا، ويعتبر نفاقًا عمليًا (اجتماعيًا).
والنفاق الاجتماعي يعد منافيًا لمبادئ وأخلاق الدين الإسلامي، وصفة النفاق مذمومة وتدل على ضعف إيمان مرتكبها، وقلة خوفه من الله ومن عقابه، لكنه لا يخرج صاحبه من الإسلام ويعرضه للعقوبة، والسبب في انتشاره وتفشيه بين الناس: الطمع المادي، وضعف الثقة بالنفس، والشعور بالنقص، ووجود من يتساهل في هذه الأمور من المعلمين والأهل، وبعض الوسائل الإعلامية، فجميعها تغذي وتنمي هذا المرض للأسف، وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالصدق والإخلاص في الأقوال والأفعال، وحبب فيه، ونهى عن الكذب والرياء، وحذر منه لما فيه من غش وتدليس وخيانة وظلم للنفس والعباد؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالصدق فإنّ الصدق يهدي إلى البر، وإنّ البر يهدي إلى الجنة، وما زال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، وإياكم والكذب فإنّ الكذب يهدي إلى الفجور، وإنّ الفجور يهدي إلى النار، ومازال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا»، رواه مسلم.
ولعلاج حالة النفاق الاجتماعي، يمكن اتباع طرق عديدة بإمكانها لفت نظر الأشخاص وحثهم على اجتنابه، وذلك بتوضيح وتبيين خطورته في الدنيا والآخرة من خلال النصوص الشرعية، وذلك عبر وسائل الإعلام وعن طريق الحلقات في المساجد والدروس الدينية والتربوية في المدارس، والتحذير من العقاب المترتب عليه، كما أنه من المهم تعليم الشخص أنّ النفاق الاجتماعي لن يأتي له برزق ما لم يكن مكتوبًا له، وأنّ ما يحصل عليه من مال ووجاهة بسبب النفاق يخشى أن يكون سحتًا وحرامًا، ومن المهم أيضًا أن يعلم الناس أنّ المنافق اجتماعيًا معرض لسخرية الناس وتحقيرهم واستهزائهم من أقواله وأفعاله، على عكس ما يعتقده من أنه سيجذب محبة الناس ويستخف بهم، ومن الجدير العلم به أنّ حبل النفاق كحبل الكذب؛ قصير، وأنه إن انطلى على بعض الناس بزخرف القول فسيأتي الوقت الذي تنجلي فيه الحقيقة، وينكشف المنافق الكذاب عاجلاً أم آجلاً، وسيلفظ كما لفظ أمثاله، وأن يعلم أيضًا أن ذلك يعرضه لمقت الله، وعقوبته في الدنيا والآخرة.
وعلى المسلم أن يتحرى الصفات الحسنة، والأخلاق الحميدة التي اعتبر الحياء أهمها وأكثرها تأثيرًا؛ لأنّ من يستحيي من الله ثم من الناس لا يمكن أبدًا أن يتساهل بالنفاق، وفي الحديث المتفق عليه يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «الحياء لا يأتي إلا بالخير».
أما طرق العلاج لمن أصيب بهذه الآفة فتحتاج لمجاهدة النفس على ترك هذه الصفة، وأن يدعو الله بإلحاح أن يخلصه وإخوته المسلمين منها، كما أنّ للأسرة أيضًا دورًا فعّالاً في العلاج؛ يقدمون النصح له مثلاً ويتعاونون معه على تركه، حتى المجتمع المحيط بإمكانه الإسهام في العلاج؛ بعدم السكوت عنه، وعدم إبداء الإعجاب بكلامه؛ لأنّ الحالتين إن كانتا سكوتًا عنه أم إعجابًا بكلامه، فسيتمادى في نفاقه.
المجاملة بين الحق والباطل
سُئِل سماحة العلامة الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - السؤال التالي: في بعض الظروف تقتضي المجاملة بألا نقول الحقيقة، فهل يعتبر هذا نوعا من الكذب؟
فأجاب الشيخ بقوله: هذا فيه تفصيل، فإن كانت المجاملة يترتب عليها جحد حق أو إثبات باطل لم تجز هذه المجاملة. أما إن كانت المجاملة لا يترتب عليها شيء من الباطل إنما هي كلمات طيبة فيها إجمال ولا تتضمن شهادة بغير حق لأحد ولا إسقاط حق لأحد فلا أعلم حرجا في ذلك.
ففي صحيح البخاري عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال أثنى رجل على رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال ويلك قطعت عنق صاحبك قطعت عنق صاحبك مرارا ثم قال من كان منكم مادحا أخاه لا محالة فليقل أحسب فلانا والله حسيبه ولا أزكي على الله أحدا أحسبه كذا وكذا إن كان يعلم ذلك منه.
وفي صحيح مسلم:باب النهي عن المدح إذا كان فيه إفراط، وخيف منه فتنة على الممدوح عن عبدالرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، قال: مدح رجل رجلا، عند النبي صلى الله عليه وسلم قال، فقال «ويحك! قطعت عنق صاحبك. قطعت عنق صاحبك» مرارا «إذا كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة، فليقل: أحسب فلانا. والله حسيبه. ولا أزكي على الله أحدا. أحسبه، إن كان يعلم ذاك، كذا وكذا».
(مدح رجل رجلا) ذكر مسلم في هذا الباب الأحاديث الواردة في النهي عن المدح. وقد جاءت أحاديث كثيرة، في الصحيحين، بالمدح في الوجه.
قال العلماء: وطريق الجمع بينهما أن النهي محمول على المجازفة في المدح، والزيادة في الأوصاف، أو على من يخاف عليه فتنة من إعجاب ونحوه إذا سمع المدح. وأما من لا يخاف عليه ذلك، لكمال تقواه ورسوخ عقله ومعرفته، فلا نهي في مدحه في وجهه، إذا لم يكن فيه مجازفة.
بل إن كان يحصل بذلك مصلحة كنشطه للخبر والازدياد منه، أو الدوام عليه، أو الاقتداء به، كان مستحبا. (قطعت عنق صاحبك) وفي رواية: قطعتم ظهر الرجل. معناه أهلكتموه.
وهذه استعارة من قطع العنق، الذي هو القتل، لاشتراكهما في الهلاك. لكن هلاك هذا الممدوح في دينه، وقد يكون من جهة الدنيا، لما يشتبه عليه، من حاله بالإعجاب.
(ولا أزكى على الله أحدا) أي لا أقطع على عاقبة أحد ولا ضميره، لأن ذلك مغيب عني. ولكن أحسب وأظن، لوجود الظاهر المقتضى لذلك.
عن عبدالرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه ذكر عنده رجل. فقال رجل: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من رجل، بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أفضل منه في كذا وكذا.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم «ويحك! قطعت عنق صاحبك» مرارا يقول ذلك. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن كان أحدكم مادحا أخاه، لا محالة، فليقل: أحسب فلانا، إن كان يرى أنه كذلك. ولا أزكي على الله أحدا».
وعن أبي موسى، قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يثني على رجل، ويطريه في المدحة. فقال «لقد أهلكتم، أو قطعتم، ظهر الرجل».
(ويطريه في المدحة) الإطراء مجاوزة الحد في المدح. و(المدحة، بكسر الميم).
وعن أبي معمر، قال: قام رجل يثني على أمير من الأمراء. فجعل المقداد يحثي عليه التراب، وقال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحثي في وجوه المداحين التراب.
(أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحثي في وجوه المداحين التراب) هذا الحديث، قد حمله على ظاهره المقداد، الذي هو راويه. ووافقه طائفة. وكانوا يحثون التراب في وجهه حقيقة. وقال آخرون: معناه خيبوهم فلا تعطوهم شيئا لمدحهم.
وعن همام بن الحارث؛ أن رجلا جعل يمدح عثمان. فعمد المقداد. فجثا على ركبتيه.
وكان رجلا ضخما. فجعل يحثو في وجهه الحصباء. فقال له عثمان: ما شأنك؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إذا رأيتم المداحين، فاحثوا في وجوههم التراب».