مها بدر الدين / الثورة السورية بين طموح أوباما ... وجموح الأسد

تصغير
تكبير
كتب على السوريين أن تكون فاتورة مطالبتهم بالحرية طويلة التكليف وباهظة التكاليف، فقائمة الشهداء تطول وقائمة المعتقلين أطول، وما زالت قائمة المهجرين واللاجئين تسجل أرقاماً تصاعدية يومياً، ولا ننسى المفقودين الذين يختفون يومياً إما لمصير مجهول أو للعودة جثة هامدة مرمية في أحد شوارع سورية الحمراء، بل إن القائمة أصبحت تشمل أطفالاً ونساء مذبوحين، وأعراض حرائر منتهكة، وأراضي زراعية وأرزاقا محروقة، وأحراشا طبيعية مدمرة، وآثارا عريقة مستهدفة، وما خفي كان أعظم.

لقد بدأت الثورة السورية سلمية، ظناً من الشعب السوري أنه قد آن أوانه ليخرج من بين فكي الأسد الذي أطبق عليه منذ أكثر من أربعين سنة، وأنه يحق له بعد خريف طويل جمد الدم في العروق، أن يُترك نسغ الحياة الحرة الكريمة يسري بشريانه في ربيع طال انتظاره وسبقته إليه شعوب عربية أخرى نجحت في أن يكون ربيعها مزهراً ناصع البياض، وظن أن دورة الحياة الطبيعية لا بد أن تأخذ مجراها، مستأنساً بثورات تونس ومصر واليمن وليبيا، متأملاً بتفهم رئيسه الشاب ناهل العلم والثقافة من العالم المتحضر لرغبة شعبه في النهوض بسورية الحديثة وبناء مستقبل مشرق ومشرف لأبناء الشعب السوري يتناسب مع مقدراتهم وقدراتهم الخلاقة.

ولكن يبدو كما يقول المثل الشعبي أن حساب البيدر لم يتطابق مع حساب الكيال، وأن ظن الشعب السوري وأمله برئيسه كان محض خيال بل أمر محال، فالرئيس السوري منذ الرصاصة الأولى التي أطلقت على صدور المتظاهرين السلميين أكد أنه لن يتوانى في سبيل الحفاظ على حكم أبيه الأبدي من تدمير البلاد تفعيلاً لشعار قواته وشبيحته «الأسد أو نحرق البلد»، وها هي البلد تحرق وتمسك بتلابيبها النيران من كل حدب وصوب، ولا يتردد بشار وزبانيته بمعاقبة الشعب السوري معاقبة جماعية على خروجهم السلمي عليه، وعلى كل حكم فردي، واستبداد عسكري، وتهميش عرقي، وتصعيد طائفي.

وقد اطمأن الشعب السوري حين اتخذ قراره بتفجير ثورته الحقة، بأن المجتمع الدولي سيكون خير معين له في حال تمادى بشار في غيه، خصوصا وأن السوريين يدركون تماماً التاريخ الدموي للنظام وتجاربه السابقة في قمع الشعب السوري وتفرده عالمياً في تنفيذ المجازر الآدمية لحماية الحكم من الانهيار، وأنه أسوة بليبيا لن يسمح مجلس الأمن أن يستخدم النظام عقيدته الإجرامية لمصادرة حق السوريين في التحرر من الطغيان والعبودية والسير في ركب الديموقراطية الذي يمر في البلاد العربية مروراً فعالاً وفاعلاً.

ومرة أخرى لا يتطابق حساب البيدر مع حساب الكيال، فالولايات المتحدة الأميركية التي كانت المحرك الأساسي لقوات الناتو لإنقاذ الشعب الليبي من سيء الذكر والسيرة، لم تجد في سورية تلك المصالح المادية القوية التي تستحق أن تحرك قواتها من أجلها كما في ليبيا، وأوباما الذي وجد أنه قد حقق في تحركه الأول على الساحة الليبية طموحه السياسي في اقتران اسمه كرئيس للولايات المتحدة الأميركية بإنجاز عسكري وإنساني كتحرير ليبيا، لا يريد أن يربك نفسه في قضية شائكة كالقضية السورية وهو في خضم انتخابات رئاسية جديدة يريد الفوز بها بأقل تحرك خارجي قد يحسب عليه في حملته الانتخابية، يضاف إلى ذلك ما يتصف به الديمقراطيون عامة من ميوعة في المواقف وتذبذب في الآراء وحب النفخ في الأبواق والقرع على الطبول الفارغة لإصدار أعلى صوت من الضجيج الذي لا يسمن ولا يغني من جوع.

ان طموح أوباما المتواضع والمحصور في نطاق الحفاظ على وظيفته كرئيس لأميركا لفترة رئاسية جديدة، أنساه أن الولايات المتحدة الأميركية راعية حقوق الإنسان وحاملة لواء الحرية والديموقراطية، والقادرة على تحريك المجتمع الدولي بهيئاته ومؤسساته ومجالسه وقواته، يقع على عاتقها مسؤولية تاريخية تجاه ما يجري من مجازر في سورية، وأنه لم يفعل خلال الخمسة عشر شهراً من عمر الثورة السورية سوى إفساح المجال للدب الروسي لمص دماء الشعب السوري وإيقات نفسه على جثث أطفال سورية، لينمو نمواً سياسياً وعسكرياً قد يصل في لحظة ما لقامة الصقر الأميركي فيناوشه.

هذا البرود في طموح أوباما يقابله جموح متزايد من قبل بشار الأسد، نحو سفك مزيد من دماء الشعب السوري السني حفاظاً على حكمه العلوي بامتياز، مدعوماً بالدور الروسي المتنامي والمال والسلاح الإيراني وعناصر حزب الله اللبناني، واصبح جلياً هذا الاستهداف الطائفي الذي لم يعد يمكن تجاهله لا محلياً ولا دولياً، فالمجازر التي ترتكب في سورية اليوم ترتكب غالباً في القرى السنية المحاطة جغرافياً بالقرى العلوية، وهذا ان دل على شيء إنما يدل على روح الطائفية التي يعمل بها هذا النظام منذ بداية قمعه لثورة الشعب السوري المجيدة، فبعد أن فشل في إذكائها بين فئات الشعب المختلفة، عمل على تنفيذها بيديه الآثمتين ليجر البلاد لمزيد من الدمار والحرق والإبادة، تمهيداً لإيصال البلاد إلى الحرب الأهلية التي يجاهد الشعب السوري حتى الآن لعدم الدخول في أتونها. والاكتواء بنارها.

إن الرجل الأول في البيت الأبيض يتشارك حتماً مع الأسد المحصن بقصر الرئاسة، في تحمل مسؤولية جرائم العصر الحديث التي لم يذكر التاريخ مثيلاً لها، وان المجتمع الدولي العاجز عن اتخاذ خطوات فاعلة لإنهاء معاناة الشعب السوري دون إشارة من أوباما، إنما هو مجتمع دولي فاشل تنقصه كل مقومات القيادة السياسية الحرة والمسؤولة، وان كل قوانينه ومواثيقه وتعهداته الدولية وعقوباته الاقتصادية ينقصها الفعالية والإرادة وهيبة القانون، وأن هروبه من تحمل مسؤولياته الحقيقية بعقد المؤتمرات والاجتماعات وإعلان الخطط والمهمات إنما في هذا كمن يذر الرماد في العيون، وما ترنيمة انتقال السلطة في سورية بشكل سلمي وبانتخابات حرة ونزيهة، إلا أغنية رخيصة لا تتناسب مع الأحداث الدامية على الساحة السورية.

لقد وقع السوريون بين الطموح والجموح، وحق قولهم اليوم بأنه ليس لهم سوى الله، فحسبنا الله ونعم الوكيل.



مها بدر الدين

[email protected]
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي