د. محمد علوش / وقفة مع مصر بعد الثورة

تصغير
تكبير
قل ما شئت عن مصر بعد الثورة إذا كنت قلقاً مما يسمى «الربيع العربي»... حذّر قدر ما تشاء من «الشتاء الإسلامي» إذا كنت من انصار النّظم السابقة وعلى خصومة مع الإسلاميين لمجرد الخصومة... أظهر ما تريد من قلق على مصير الأقليات الدينية والعرقية في العالم العربي اذا ما وصل الإسلاميون الى السلطة... ربما تستطيع أن تذكر الف حجة وحجة لدعم فكرتك، لكني أظن أنك لا تستطيع سوى الإقرار على أن المناظرة التي وقعت بين المرشحين للرئاسة المصرية عمرو موسى وعبدالمنعم أبو الفتوح تمثل نقلة نوعية في الأداء السياسي ومفهوم التعاطي بين الناخب والمرشح خصوصا إذا كان السياسي مرشحاً لأعلى منصب سياسي في البلاد وهو رئاسة الجمهورية لما لها من أهمية وما تتمتع به من صلاحيات في مصر. وهذا أقلّ ما أتحفنا به الربيع العربي!

ليس العجب في مصر الثورة هذا السقف العالي في حرية التعبير والتحرك دون سطوة أجهزة المخابرات، بل مفهوم العمل السياسي الذي ارتقى به السياسي، حاله كحال المواطن البسيط، الذي ثار على نظام، ولد هو، ووالده، وجده في كنفه، كان ينظر الى الرئيس باعتباره فرعون لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.

هذا المفهوم الجديد للسياسة تجلى في المناظرة التي وقعت بين رجلين يعتبران من أهم المرشحين لرئاسة مصر، وأكثرهم حظوظا في الوصول لكرسي الرئاسة، وهما ان كانا يتمتعان بالكاريزمية وقوة الشخصية وحضورها، إلا انهما ينتميان لتاريخ مختلف، وهوية سياسية تصل حد التناقض. فعمرو موسى، الذي كان وزير خارجية النظام المصري دهرا من الزمان قبل ان يصبح الأمين العام للجامعة العربية، قومي ليبرالي في السياسة والاقتصاد، في حين ان الطبيب عبد المنعم ابو الفتوح اسلامي التوجه والهوى، خريج المدرسة الإخوانية في التفكير والسياسة، وهو من أكثر الإسلاميين استنارة وانفتاحا على التيارات غير الإسلامية من ليبرالية وقومية وغيرها... وكلاهما يتمتع بحضور لافت وقوة في الطرح وهدوء أعصاب.

لا استطيع القول ان ابو الفتوح تفوق على عمرو موسى في المناظرة رغم أن الأخير كان جزءا من النظام الذي ثار عليه الشعب المصري، كما لا يمكن القول ان موسى تمكن من خصمه ابو الفتوح بحكم انتمائه السابق لحركة الإخوان المسلمين ومبايعته للمرشد العام للحركة قبل ان يستقيل منها. ما يعنيني في هذا الموطن هو المناظرة بحد ذاته بين مرشحين لأعلى منصب سياسي في اكبر بلد عربي، بين نظريتين شغلت العالم العربي قرنا من الزمن، نظرية الليبرالية المطعمة بالقومية ونظرية الإسلام السياسي الجامع، بين رجلين أحدهما كان ذا شأن في نظام حاكم، وبين آخر كان منبوذا مضطهداً من النظام ذاته.

فكرة المناظرة والسير بها في عالمنا العربي، رغم ان الغرب يعرفها منذ ستينات القرن الماضي في الولايات المتحدة قبل ان تنتقل الى دول في اوروبا الغربية، تدل على عهد جديد لم يعد فيه الناخب مجرد رقم، كما لم يعد الزعيم صاحب القوة والحق المستقلين عن الشعب. هكذا استعاد الناخب حقه في الاختيار بين البضاعة التي يعرضها عليها البائعون للبرامج السياسية ولم يعد ينظر اليه على انه رجل بسيط لا يفقه ابعد من رغيف الخبز وقارورة الغاز التي يقف امامها المصريون طوابير للحصول عليها. كما ان المرشح لم يعد واحداً لا يجاريه احد في رجاحة العقل وسلامة التدبير وقوة ادارة البلاد والعباد.

هذا النمط من التحول في العلاقة بين الناخب والمرشح، بين السياسي والمواطن العادي يبشر بخير كثير رغم كل ما يقوله المثبطون للهمم، المرجفون في كل حي ودار، فلو لم يأتنا الربيع العربي إلا بهذا فإننا نعيش أفضل حالاً مما كنا عليه قبل ان يحرق نفسه محمد البوعزيزي... فهل قد نرى مشهداً مشابهاً في عواصم عربية اخرى تربع على حكمها عسكريون وانقلابيون عقوداً دون ان يشق لهم غبار او تلين لهم قناة امام شعوبهم؟



د. محمد علوش
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي