مثل قديس في القرن الاول، يحمل الخبز والملح والماء زادا، يركب حماره متجولا بين القرى، يبشر بمملكة السماء ويحذر من الشياطين التي تسكن البيوت والقلوب، وضعت رحلي على ظهر حماري متجولا بين دروب الاوراق، تريحني فاصلة هنا، تدهشني علامة تعجب هناك، وتوقفني عند نهاية الطريق نقطة!
كنت وكان حماري نتجول بين حروف الضاد، كانت الاحرف تأتي اليّ صاغرة مرة، متكبرة مرة اخرى، ترجوني ان تدخل بين دفات مقالة مرة، وتكابر مرة اخرى، فالكلمات كالغواني ان تملكهن الهوى رقصن وغنين على بابك، او تتمنعن وهن راغبات، فتضطر الطواف حول بيوتهن كلما ارتاحت الشمس، تردد الاشعار، وتكتب الغزل على شباكها، وتذكرها بعشق ابن ذريح للبنى، حتى تحن اليك، وتكشف عن ساقها لقلمك!
وفي تلك الليلة كتبت مقالي... صدقا لم اكتبها، بل هي أتت الى داري متخذة ستار الليل جملا، ما فعلت سوى اني فتحت الباب لها، دخلَت، جلَست، ونثرت كلماتها على صفحاتي كغجرية «تكت الفال»، وقالت اكتب، هنا سرقة وتجمع لصوص، اكتب انهم يأكلون لحوم الاحياء، ويلمزون بالاموات، اكتب انهم جبناء يدعون البطولة، اكتب انهم يبيعونكم الوهم ويشترون القصور، اكتب انهم عبيد للمال والشهوة والسلطة، اكتب، واكتب، واكتب... واضطر «انا» ان انصح «انا» بالتوقف ولم انجح، وكم نصحت نفسي على لجم شهواتي، ولكن سبحان من خلق انفسا ألهمها الفجور والتقوى، وسبحان من خلق خلقا تثيرهم الاحرف الراقصات، فيجلسون بين اسطر الاوراق سكارى، ضعفاء امام اغراء جواري الكلمات!
كتبت وكنت متيقنا بأن عين الرقيب ستوقف عبثي، وتوقف رقصات «زوربا» اليوناني الذي تعود الرقص على احزانه وآلامه، توقفها خوفا على الصالح العام، و منعا لخدش زجاج عقولهم، ولكنه خذلني ونشرها، مسح حرفا هنا، وحجز اخرى في مخفر الرقابة هناك، ولكنه نشرها، فتحمل مثلي فوضى الكلمات، وعجز ان يفهمهم ان هناك مخلوقة خيالية يتغزل بها الجميع، ويقتلونها ان حلقت فوق رؤوسهم... اسمها الحرية!
ركبت حماري، واضعا مقالتي على رحلي، دخلت قرى باعت نفسها لتجار الجهل، يقودهم من باعوا ارواحهم للشيطان، وابليس في تلك القرى، سارق للنفط، واموال التنمية، واراضي القرية، واحلام الاجيال القادمة... وكل مساء يضع تحت وسائد عبيده دينارا، فيبدؤون صباحهم بالدعاء له وشتم عمن سواه، وفي ذلك الصباح كنت في قريتهم الموبوءة احذرهم من جذام افكارهم، ولانهم عاجزون عن التفكير، جمعوا الحجارة ليرموا كلماتي، وليخيفوا حماري... التفت اليًّ حماري مبتسما، قلت له «يبدو انك الوحيد الذي يفهمني في هذه القرية»، ورد علي «بل انت الوحيد الذي يفهم كم يعاني حمار مثلي يعيش في هذه القرى»!... وفي آخر الليل دون مبالاة مني بهم، جمعت حجارتهم، وبنيت كوخا ليسكنه فقير يبحث عن فكرة تؤويه... واكملت طريقي!
مثل الطيور المهاجرة سأظل وفيا لدروبي!
ومثل النهر سأكون وفيا لمنبعي!
ومثل البحار سأكون وفيا لنجمتي!
لن تنجسني الجاهلية بأدرانها، ولن تعيدني لعبادة اصنامها!
سأظل اتجول بين قرى العقل النائمة على فراش الجهل، اذكرهم بان الديك عندما يصيح ثلاثا، لا ينبئهم ببزوغ الفجر، بل يذكرهم بعظم ذنب انكار الحقيقة!
سأكمل تجوالي برفقة حماريَ، يكفيني ان يكون زادي:
خبز صلوات، من ام دمعت عيناها على فقد عزيز!
وملح دعوات من اب، ينحت بيديه الطريق لأبنائه!
وكأس ماء من احفاد يبحثون في الحقائب الجلدية القديمة لاجدادهم، عن لوحة جميلة، تمحي واقعهم الذي يرسمه، الهمج الرعاع، وشذاذ الافاق، واوباش الاعلام، وحملة الدفوف والطبول!
سأكمل طريقي... خائب وخائن، ذلك العاشق الذي ييأس من الوصول الى الوصال بمحبوبته!
سأكمل طريقي... لاني اعشقها!
جعفر رجب
[email protected]