تتميز سورية عن باقي الدول العربية بتمدد الأجهزة الأمنية وشدة قبضها، صحيح أن غالبية الدول العربية تنفق الكثير على مؤسساتها الأمنية وتسعى لتحقيق مزيد من الاستحواذ والتدخل في مختلف مستويات الحراك السياسي والثقافي والاجتماعي، إلا أن المؤسسة الأمنية السورية تتمايز عنها بإحكام سيطرتها وضخامة عديد عناصرها وعملائها، فضلاً عن اختراقها مبكراً للتكوينات السياسية والحزبية كلها، ما أدى لاحقاً لتخريبها وهشاشتها وتضررها. بكل تأكيد المؤسسة الأمنية السورية ليست بعيدة عن كل التكوينات الاجتماعية والثقافية الاقتصادية، إنها تقبض تماما على كل شيء. إنها وراء تعيين المختار في الحي والقرية، وهي من تضع قائمة بأسماء المرشحين لمناصب وزارية.
هذا الاستحواذ الكلي لم يتحقق بين ليلة وضحاها، لقد خضع لسيرورة طويلة ربما تكون لحظة بدايتها عام 1958، وهو تاريخ قيام الجمهورية العربية المتحدة بقيادة جمال عبد الناصر، لاحقاً وبعد نحو خمسة أعوام أتى حزب «البعث» لينهل كل ما انتجته تجربة بلدان أوروبا الشرقية على هذا الصعيد حتى باتت الحياة السورية، خصوصاً منتصف الثمانينات ولغاية اليوم كما لو أنها فصل في رواية «جورج أوريل» (1984).لا بل إن تلك الرواية التي بدت أنها أشبه بالفانتازيا حين كتبها «أوريل»، أمست في الأعوام الأخيرة مقارنة بالواقع المعاش في سورية مجرد قصة قديمة او تفصيل. هل نتجنى على هذه المؤسسة؟
منذ نحو شهر كان هناك موقع الكتروني سوري اسمه «سيريا لايف»، وهو موقع يعنى بالحياة اليومية للسوريين ولا يتدخل في السياسة ولم يعرف عنه متابعوه أنه نشر ولو مجرد مقالة واحدة تحمل توجها مخالفا للسياسة الرسمية، لا بل إن الموقع وصفه البعض بالمتواضع لكونه لم يعمل خلال عمره الذي لم يتجاوز ستة أشهر سوى على إعادة ما تنشره الصحف الحكومية الثلاث وأخبار أخرى مسلية. هذا الموقع رغم بؤسه وتواضعه لم يسلم من الإغلاق حين طلب أحد ضباط الأمن من المشرفين عليه إيقافه، وأخبرهم فوق ذلك أن عليهم الصمت وستكون عقوبتهم السجن في ما لو رووا ما حصل معهم؟
تزامن ذلك مع طلب الأجهزة الأمنية من كل أصحاب مقاهي الإنترنت أن يسجلوا قائمة يومية بكل مرتادي مقاهيهم لحظة دخولهم وخروجهم متضمنة كل التفاصيل عنهم.
طبعاً سبق ذلك سجن الكتاب والصحافيين والمثقفين السوريين كلهم الذين يملكون صوتاً مختلفاً ومتميزاً عن أبواق النظام. إن الذين يقبعون اليوم في السجون السورية ليسوا أبداً من النوع المتطرف في معارضتهم، على العكس تمام، فكتابات ومواقف ميشيل كيلو وأكرم البني وفايز سارة وغيرهم هي كتابات ومواقف سلمية هادئة تتمايز بالرصانه قبل أي شيء آخر رغم معارضتها لسياسات الحكومة ونظام حزب «البعث».
وإذا ما أضفنا الكتاب والصحافيين الذين قرروا الصمت أو الهجرة، يكتمل المشهد السوداوي، لقد باتت سورية مملكة الصمت حقاً، على حد تعبير المعارض السوري رياض الترك الذي قضى نحو عشرين عاماً في السجون السورية موزعة على عهدي الرئيس السابق حافظ الأسد (1930-2000) وولده بشار الاسد.
سألت بعض الأصدقاء عن الظروف التي وقفت خلف قرارهم بالهجرة أو الصمت فحدثوني عن قصص طويلة من المعاناة والخوف.
أحدهم اليوم يعيش في دولة غربية، قال لي إنه مارس مهنة الكتابة نحو أعوام عشرة، لكن حياته وحياة أسرته تحولت الى جحيم في الأعوام الأخيرة قبل أن يحسم أمره ويقرر الهجرة. قال لي: «هل تتخيل كم هو صعب أن تنسف ماضيك كله وتبدأ من جديد؟ هل تتخيل مدى صعوبة أن تقتلع من جذورك بإرادتك وتبدأ من جديد في مجتمع غريب لا أهل لك فيه لا أصدقاء ولا ينطق بلغتك، وذاكرته وثقافته مختلفة عنك تماماً؟».
روى لي كيف بات في الأشهر الأخيرة قبل مغادرته يعيش «فوبيا» الامن والاستخبارات، حتى صار يخاف من سماعة الهاتف حين ترن ومن طرق الباب، ومن الجلوس في المقاهي الشعبية. قال لي: «كنت أحياناً وإذا ما كنت وسط دمشق وأملك متسعاً من الوقت، أتوجه إلى مقهى الروضة لأحتسي فنجان قهوة مع الذين أصادفهم من الأصدقاء، حيث يفضل الكتاب والصحافيون الجلوس هناك، لكنني غالباً ما اقرر الخروج مسرعاً، لقد كنت أرى العناصر الأمنية في كل أركان المقهى، بت أعرفهم من قمصانهم وسراويلهم القماشية والمفكرات الزيتية والسوداء اللون التي يحملونها في أيديهم ومن نظراتهم المتفحصة ومن لهجتهم أيضاً».
صديقي هذا غالباً ما كانت تستدعيه أجهزة الاستخبارات العسكرية وإدارة المخابرات العامة أو ما يعرف في سورية بجهاز امن الدولة في أعقاب كل تحقيق صحافي يجريه أو مقال يكتبه.
أخبرني أيضاً عن حياته الخاصة والحميمية «هل تعرف ماذا يعني أن يتصل بك رجل أمن ويطلب منك مراجعة الفرع بعد نشرك مادة صحافية؟ يتحول جسدك إلى كتلة باردة ووجهك يصبح أصفر اللون في ما عيناك مضطربتان وقلقتان... لا ترغب في الكلام ولا تستطيع أن تلاعب طفلك الصغير الذي يدنو منك ممازحاً، كما أنك تشعر بالذل والعجز لفعل أي شيء، تشعر أنك حشرة صغيرة، ذبابة، أو ربما فأر، كنت أهرب إلى حضن زوجتي بحثاً عن الدفء والسلام، فأجد جسدها بارداً مضطرباً مثل جسدي تماماً، مع الخوف لا يمكننا أن نمارس الحب، حتى لو كنا داخل منزلنا وحيدين».
إن غالبية من السوريين اليوم، خصوصاً من هم في المعارضة، يشعرون أنهم متروكون وحيدين أمام وحشية وبطش الأجهزة الأمنية وفساد أجهزة القضاء، والإطباق تماماً على الأصوات المعارضة، وأمام التواطؤ الإعلامي العربي والدولي على قضيتهم الديموقراطية حسب ما يعتقدون، ويحز في انفسهم أن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة يضيقون على النظام على خلفية تتعلق بمصالح وبأوضاع إقليمية كالعراق ولبنان ومطالبهم من النظام إزاء مثل هذه الملفات من دون أن يتوقفوا عند اوضاع حقوق الإنسان والقضايا الداخلية.
عندما اتخذت الإدارة الأميركية منذ أكثر من شهر قراراً تعلق بفساد رجل الأعمال رامي مخلوف قريب الرئيس السوري، شعر بعض السوريين بالأمل لانها المرة الأولى الذي تلامس به قرارات الإدارة الأميركية أوجاع السوريين الحقيقية. هكذا أخبرني أحد الشعراء السوريين من أصول كردية، طبعا لن أقول اسمه أو اسم غيره لأن ذلك سيكلفهم كثيراً.
زين الشامي
كاتب سوري