الرجل الذي استشرف «الربيع العربي» ونصح النظام السوري بفتح باب الحرية قبل 4 عقود
في الذكرى 35 لاغتيال كمال جنبلاط ... «أسراب الحمام» تهزم «السجن الكبير»
محمد شيّا
سوسن نصر
كمال جنبلاط
| بيروت - من ريتا فرج |
بكّر كمال جنبلاط في استشراف الربيع العربي والغد الثوري الآتي من رحم الانتفاضات الهادرة من المحيط الى الخليج. لم يكن «المعلّم» رجل فكر حرّ فحسب بل إنه صاحب أفكار سبق بها عصره.
«عمود السما» كما يسميّه الموحّدون الدروز في لبنان رجل علم ودولة، إلاّ أنه تميّز عن جيله بأنه كان رؤيوياً «يستشعر» الأحداث قبل حدوثها. ولعله حين افشى بسرّ موته الى العلاّمة عبد الله العلايلي كان يدرك أن المسافة بين زمنه وجسده أصبحت قصيرة جداً.
من صمت الصمت كتب كمال جنبلاط عن «السجن العربي الكبير»، هو الذي رفض أن يدخل لبنان فيه لأنه آمن بالنموذج اللبناني التعددي فخاف من إجهاض هذه التجربة إبان الوحدة السورية ـ المصرية. لكن هذا السجن تراءى لجنبلاط من البوابة السورية أيضاً، فقال مقولته الشهيرة «نحن لا رغبة لدينا بالسجن السوري الكبير... هناك صراع بين الديكتاتورية والديموقراطية. فهم ليسوا بأحرار ويريدون دائماً الحؤول بيننا وبين الحرية».
ما معنى العودة الى كمال جنبلاط في زمن «الربيع العربي»؟. لا تحتاج الاجابة لكثير من العناء، قالها «المعلّم» في القرن الماضي: «على الأجيال القادمة أن تمتطي سلّم الحرية والسعادة والمجد الإنساني الكامل على آلامنا وجروحنا وأصفادنا ودمائنا المبعثرة ()، فالصراع في سبيل الحق هو انتصار في كلتا الحالتين: الاستشهاد المضيء أو النصر الساحق، لأن الانتصار هو انتصار النفس القوية الجميلة فينا، وانتصار الإنسانية فينا، وهو انتصار التطور على الرجعية، انتصار الحياة».
لم يستطع جنبلاط كبْت تأملاته الفكرية بمصير الأنظمة الاستبدادية، وهو عبّر عن ذلك في أكثر من كتاب، فقد جعل من الحرية الواعية والديموقراطية والتعددية نبراساً يهدّد سجون الديكتاتوريات العربية. هذه الأقانيم قارع بها «المعلم» الايديولوجيات التي صادرت حقوق الانسان. ورغم إنتمائه العقلي الى الاشتراكية بما تتضمنه من العدالة الاجتماعية ومركزية الانسان، الا انه كان يصغي للأفكار الأخرى حتى لو كانت على نقيض توجهاته. وبصرف النظر عن متاهات الحرب الأهلية في لبنان ومحاولته التأسيس لمشروع سياسي علماني أدخله في حرب مع أقطاب المارونية السياسية آنذاك، يتفرد كمال جنبلاط عن سواه بأنه لم يخضع للتسويات وخصوصاً في المراحل الحرجة التي تستدعي اتخاذ قرارات لا تسمح بالبراغماتية أو المرونة وهذا ما فعله عشية دخول الجيش السوري الى لبنان العام 1976 إثر التكليف الاميركي ـ العربي لدمشق، رغم أنه اعتبر أن التسوية قد تساهم أحياناً في الحدّ من الاضرار.
حاول جنبلاط نقل أفكاره الى خارج لبنان وكان قد نصح النظام السوري بفتح باب الحرية وتأسيس الأحزاب وهذا ما قاله أيضاً للقيادة السوفياتية حين كان الاتحاد السوفياتي في أوج قوته.
في اللقاء الأخير مع الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد وعندما اتخذ جنبلاط قراره النهائي برفض دخول السوريين الى لبنان، قال للأسد: «ستدرك مَن كان منا على حق ومَن كان على خطأ». آنذاك قرر «المعلم» السير حتى النهاية ورفض ادخال لبنان في «السجن السوري» حيث رأى أن ثمة صراعاً بين الديموقراطية والديكتاتورية، فآثر المضي في شعاره «نحن سنديان وصخر، ولسنا وحدنا في هذا العالم».
في الذكرى الخامسة والثلاثين لاغتياله في 16 مارس 1977، حملت «الراي» ملف «كمال جنبلاط والربيع العربي» إلى الباحثة المتخصصة في تراث كمال جنبلاط الدكتورة سوسن نصر وأستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية الدكتور محمد شيّا صاحب كتاب «كمال جنبلاط لزمن آخر».
نصر: في لقائه الأخير مع حافظ الأسد قال له
... ستدرك من كان منّا على حق
أكدت الدكتورة سوسن نصر أن كمال جنبلاط في أدبياته السياسية تحدث عن سقوط الأنظمة الاستبدادية، مشيرة الى أن مشروع جنبلاط تأسس على «الحرية» التي تعني عنده الوعي.
ورأت أن الأفكار التي طرحها جنبلاط بشأن الديموقراطية وحق الشعوب بالخروج من «السجن العربي الكبير» ساهمت في إقصاء «كمال جنبلاط» من دون أن تؤدي الى القضاء على المشروع نفسه الذي وضع على سلم أولوياته حق الانسان في الحرية.
• يعود الكثيرون الى كمال جنبلاط في زمن الربيع العربي. ما معنى العودة الى «فكر المعلّم» وسط الضجيج الشعبي في العالم العربي؟
- لا بد أن أوجه تحية الى ذكرى كمال جنبلاط الخامسة والثلاثين. كمال جنبلاط الغائب الحاضر لم يغب عن الساحة وقد تنبأ بما يحدث في العالم العربي منذ العام 1953. لقد قرأ التاريخ وأدرك أن هذه الأنظمة العربية بكاملها ستكون عرضة للانهيار في أي لحظة. وعندما نقرأ ما كتبه حين قال: «إن الأنظمة عندما تعزل الانسان عن حريته لا بد أنها ستنهار»، وهذا ما يحدث.
• اعتبر كمال جنبلاط أن الحرية هي الوعي. كيف قارب جنبلاط هذا المفهوم؟ وإلى أي مدى يعبّر ما يجري في العالم العربي عن الفهم الجنبلاطي للحرية؟
ـ الحرية هي تماماً الوعي، هي ملكة الانسان وجزء أساسي من وحدة الوجود، وهذه الحرية غاية الانسان، ولا يمكن لأي شخص منْع الحرية عن الآخرين. هذه الحرية الواعية هي وحدة جوهرية، لكن ما الذي فعلته الأنظمة العربية؟ هذه الأنظمة لعبت دوراً في تحجيم وعي الجمهور ومنعته من التعبير عن رأيه بسبب الشعارات والايديولوجيات، وبالتالي فإن أحزاب اللون الواحد حوّلت هذا الوعي الى الاتجاه الخارجي ولم تعمل على تطوير وعي الجماهير تجاه الحرية. وبسبب شعاراتها كبحت طاقات الشعوب وعطلت مطالبها باسم الايديولوجية.
كل ما يجري اليوم هو بمثابة استعادة الشعوب لحريتها وحقوقها، فالانظمة الاستبدادية تنهار ويبقى الانسان، وهذا ما حدث للنازية والفاشية والامبراطوريات التي صادرت حق الناس بالحرية والكرامة والتعبير. وعلى هذا يمكن تفسير ما قاله كمال جنبلاط: «كل شيء حين يبلغ أقصاه يعود الى مُبتداه».
كمال جنبلاط حين اعتبر أن الحرية هي الوعي، حذر من الفوضى لأن الحرية بحاجة الى ورشة عمل والى برنامج متكامل يحل محل الأنظمة الاستبدادية. الحرية عند كمال جنبلاط لها أسس ومفاهيم صلبة وعلى هذا الأساس يمكن أن يقوم البناء الاشتراكي المؤسَّس على المساواة والعدل. في أحد المشاهد المعبّرة، كان «المعلم» يراقب أسراب الحمام وهي تتناول طعامها ولم تكن تتصارع في ما بينها فتساءل: لماذا لم يستطع الانسان بناء مجتمع اشتراكي كأسراب الطير؟ حرية الانسان عند كمال جنبلاط لا تبتعد عن المسؤولية والواجب الانساني المتكامل تجاه الآخر، والحرية عنده لا تعني الفوضى بل القبول بالآخر واحترام التنوع والتعددية التي تشكل كلها وحدة جميلة متعددة.
• كيف قارب كمال جنبلاط التعددية السياسية كمفهوم أساسي تطالب به اليوم الحركات الاحتجاجية في العالم العربي؟
ـ في التعددية السياسية تحدث كمال جنبلاط عن هذا الموضوع حين اعتبر أن الدولة مطالَبة بصون الحريات وإعطاء الأحزاب حق التعبير السياسي، ورفض بشكل كامل حزب اللون الواحد، لأنه كان يعتبر أن الانسان في طبعه يتبنى فكرة وقد يرفضها لاحقاً ليتبنى فكرة أخرى أي أنه يدخل في منظومة التغير والتبدل، وبالتالي ما ينطبق على الانسان ينطبق على الجماعات. مفهوم التعددية عند كمال جنبلاط يعني بالدرجة الأولى احتواء الأفكار وتمثيلها في المجالس التشريعية والبرلمانية.
• ما الذي دفع كمال جنبلاط الى التنبؤ بانهيار الأنظمة الاستبدادية في العالم العربي؟
ـ رؤيته هذه انطلقت من مركزية الانسان في الوجود، فكان يعتبر أن الانسانية حين تتعرض للظلم من أي نوع كان ستستيقظ وتنتفض على الاستبداد. ورأى أن الفرد البشري بفطرته يُخلق حراً مهما كان عرقه أو انتماؤه، وحتى الظلم عنده ليس من طبيعة الانسان، وما يحدث اليوم من ثورات عربية أثبت صحة ما قاله «المعلم».
وأريد العودة الى حدث مفصلي في حياة كمال جنبلاط إبان الوحدة السورية ـ المصرية اذ قال حينها للزعيم جمال عبد الناصر: «لا نريد الدخول بهذا السجن الكبير»، لأنه كان يرى أن الشعوب لا يمكنها أن تصطبغ بلون واحد. كمال جنبلاط مفكر رؤيوي أدرك ما يحصل قبل وقوعه بزمن بعيد. من هنا فإنه حين أطلق تعبير «السجن الكبير» قصد بذلك رفض الصيغة الايديولوجية الأحادية التي تريد إلغاء التعددية، وقد رفض الانضمام الى الوحدة بين سورية ومصر فقال مقولته الشهيرة لبنان لن يدخل بهذا السجن الكبير.
رأى كمال جنبلاط أن الحالة اللبنانية تشكل مهداً للاشتراكية بمعنى العيش المشترك والتعددية، ولهذا تخوف الكثيرون من النموذج اللبناني التعددي وقد خاف «المعلم» على هذا النموذج مما سماه «السجن العربي الكبير»، لكنه بالمقابل أدرك أن الأنظمة العربية منذ تأسيسها معرضة للانهيار لأنها استبدادية وعسكرية وإنعزالية وبالتالي فهي تتناقض مع جوهر الانسان والأديان.
• لو كان كمال جنبلاط شاهداً على الأحداث الجارية في سورية اليوم، ماذا كان يمكن أن يقول؟
- يقول ما قاله للرئيس حافظ الأسد قبل أيام من اغتياله: «ستدرك من كان منا على حق ومن كان على خطأ». كمال جنبلاط استشرف الأحداث الجارية الآن في سورية، وكان على يقين بأن تيار التغيير سينطلق ليقلب المشهد.
شيّا: كمال جنبلاط مفكر الحرية بامتياز ومن دون منازع
والنظام السوري لم يتحمّل فكره الذي انتصر على التصفية الجسدية
رأى الدكتور محمد شيّا أن الأفكار التي طرحها كمال جنبلاط عادت «مع الربيع العربي»، مشيراً الى أن جنبلاط هو «وريث تيار الحرية في الفكر العالمي».
وشدد شيّا على أهمية المقاربة الفكرية التي وضعها جنبلاط حول الحرية والمشروع الديموقراطي، موضحاً أن الأخير «قدّم رؤية سياسية متكاملة بشأن التحول الديموقراطي وركائزه».
• في ظل الربيع العربي تعود طروحات كمال جنبلاط الى الضوء. أين هو فكر كمال جنبلاط في الثورات العربية؟
ـ هذا التعبير دقيق حرفياً، إذ عادت مع الربيع العربي أفكار المفكر والسياسي اللبناني كمال جنبلاط الى الضوء. وقد تناولت المقالات والندوات هذه القضية في لبنان وخارج لبنان. وكي أكون واضحاً وصريحاً وأعبّر عن كمال جنبلاط كما هو وليس كما نرغب في أن يكون، لا بد أن أفصّل رأيي في مجموعة من النقاط.
النقطة الأولى: كمال جنبلاط منذ بداياته في الاربعينات خصوصاً في الخمسينات هو وريث تيار الحرية في الفكر العالمي، وهو امتداد للمفكرين الأحرار من حمَلة راية النهضة الفكرية العربية أواخر القرن التاسع عشر وفي النصف الأول من القرن العشرين، وهو امتداد للكواكبي وطه حسين وشبلي شميل وفرح انطون وأمين الريحاني وميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران، ولائحة طويلة من المفكرين الكبار الذين أسسوا لفكرة الحرية في الفكر السياسي العربي المعاصر. وبهذا المعنى كمال جنبلاط هو مفكر الحرية بامتياز ومن دون منازع، ولا أظن أن كلمة أخرى أكثر من الحرية ترددت بالمقدار الذي نجده في كتابات كمال جنبلاط منذ أول كتاب له الذي أسماه «رسالتي كنائب» العام 1942. وتالياً من الطبيعي ان تلتقي حركات الشباب في ما سمي بالربيع العربي مع أفكاره وتجد لديه الأساس الفكري والسياسي والفلسفي الذي تبحث عنه.
والنقطة الثانية: أعتقد أن الحرية التي تَردد صداها في الشوارع العربية ليست بالكامل متطابقة ومتجانسة بل أسمح لنفسي بان أقول انها ليست دائماً واعية لمعنى الكلمة الشامل الذي تصدح به الأفواه وتردده الألسن. لماذا أقول هذا الكلام؟ أقول هذا لأنني لاحظتُ في تحركات جماهير الربيع العربي ارتباكاً في طريقة فهم الشباب لمفهوم الحرية ولاحظتُ نوعاً من الارتباك في طريقة النظر الى الحرية، فبعضهم يريدها للرجال ولكن مع العبودية للنساء، وبعضهم مع حرية التعبير في هذا المجال ولكن ضد حرية التعبير في مجال آخر. وسأكون صريحاً أكثر، بعض الشباب مع الحرية الاقتصادية والسياسية ولكن ضد الحرية الاجتماعية ومع أن تبقى المرأة في المنزل ولا تخرج الى العمل. والملاحَظ أنه في بعض الساحات العربية كانت هناك تظاهرات رجالية بالكامل ثم تظاهرات نسائية بالكامل، وكأن هناك فصلا عنصريا بين التظاهرتين، فكيف نكون أحراراً من جهة ثم نقبل العبودية من جهة ثانية؟ هذه الحرية منقوصة خصوصاً حين تقترب من الموضوع الديني، ولذلك أقول لهذا الشباب أن يعود الى كتابات كمال جنبلاط لفهم الحرية كي يكتشفوا أن الحرية عنده تُختزل بثلاثة أمور بسيطة: أولاً: الحرية هي جوهر الانسان، فلا انسان من دون حرية، ثانياً: الحرية مسؤولية لا فوضى لأن الفوضى أقرب الى الغرائز بينما المسؤولية أقرب الى العقل، ثالثاً: الحرية لا تتجزأ فإما أن تؤخذ كاملة أو لا تؤخذ.
• تحدث كمال جنبلاط عن السجن العربي الكبير. ما الذي كان يقصده بهذا التعبير خصوصاً أنه كان يملك مشروعاً سياسياً تقدمياً؟
- كمال جنبلاط أثناء محاولاته إنجاز مشروع التغيير الديموقراطي في النظام اللبناني أواخر الستينات ومطلع السبعينات من القرن الماضي وبسبب الطريقة السلبية التي تعاطت بها الأنظمة العربية مع مشروعه، أطلق في تلك الفترة تسمية السجن العربي الكبير قاصداً سورية وغير سورية. والسبب واضح أن شعلة الحرية التي حملها كمال جنبلاط بدا كما لو أنها أخافت الأنظمة العربية، فخافت من أن تنشأ في لبنان بؤرة للحريات والديموقراطية ولحقوق الانسان، وأن تنتقل العدوى بعد ذلك الى الشعوب العربية، ولهذا لم تُخفِ هذه الأنظمة عداءها لفكرة الحرية والتغيير الديموقراطي عند كمال جنبلاط بل توحّدت كلها تقريباً ضده.
الدخول السوري الى لبنان عارضه كمال جنبلاط بقوة، وهو لم يكن فقط بغطاء أميركي ـ اسرائيلي بل كان ايضاً بغطاء عربي وجرى لاحقاً تكليف النظام السوري، وبالتالي فإن الوجود السوري أعطيت له الفرصة من أجل اجهاض المشروع الديموقراطي الذي نادى به جنبلاط، وقد تخوف النظام السوري والأنظمة العربية الأخرى من انتقال هذا المشروع الى شعوبها، وما اغتيال كمال جنبلاط بعد هزيمة مشروعه إلاّ إمعان في اجتثاث فكره في التغيير الديموقراطي. وقد أثبتت الانتفاضات العربية بعد 35 عاماً على استشهاد كمال جنبلاط أن في الامكان هزيمة المشروع الديموقراطي عسكرياً وتصفية أصحابه جسدياً لكن المشروع نفسه أبقى من الهزيمة ومن التصفية الجسدية وأنه سينتصر في النهاية وسيزهّر في الربيع العربي رغم المخاض الصعب.
• دعا كمال جنبلاط الى إشراك الناس في السلطة أو الى نوع من الديموقراطية الشعبية. هل ما دعا اليه بدأ بالتحقق ولو جزئياً في العالم العربي؟
- كمال جنبلاط كان يدعو الى حكم شعبي تمثيلي حيث تدرك الجماهير هوية المشروع الذي تحمله. وحين خرجت الجماهير العربية على نحو عفوي تطالب بالخروج من السجن العربي الكبير، أي من النظام السياسي الاستبدادي الذي وضعت الدول الوطنية المخلوعة شعبها فيه طوال خمسين عاماً، بدا الحراك الشعبي مهماً. وما إن سقطت هذه الأنظمة حتى ظهرت أزمة البديل الديموقراطي، وبالتالي لم يكن لهذه الجماهير مشروع سياسي واضح، فتقدمت الى الواجهة المشاريع البديلة التي كانت مستبعدة في الأنظمة السابقة وتحديداً المشروع الاسلامي. وبما أن معظم الجمهور العربي ليس لديه مشروع، تمكن التيار الاسلامي من أن يذهب بالشارع الى حيث يريد مستفيداً من سمعته طوال عقود كضحية أولى للاستبداد والاقصاء. هذه بعض المخاطر التي لا بد من الاشارة اليها، فأي تحول نحو الديموقراطية من المهم أن يتأسس على مشروع سياسي عقلاني ديموقراطي، وكان كمال جنبلاط قد قدم رؤية سياسية أكاد أقول متكاملة بشأن التحول الديموقراطي وركائزه. ولا يكفي أن نطالب بالحرية فمن المهم بناء مشروع ديموقراطي لحماية الحرية نفسها كما أكد كمال جنبلاط في كتاباته.
• كيف تنظر الى الحركة الاحتجاجية في سورية باعتبارك درستَ فكر كمال جنبلاط وعلاقته بالنظام السوري؟
ـ هذا السؤال مهم جداً ولم يُطرح بعد، وسأعرض له بشكل موجز انطلاقاً من نقطتين أساسيتين: الأولى تخص الحراك الشعبي السوري والثانية تخص علاقة كمال جنبلاط بسورية. كما قلت في اجاباتي عن أسئلتك السابقة، الحراك الشعبي العربي له أسبابه التي دفعت بأكثرية الشعب العربي للخروج الى الساحات ومناهضة الأنظمة السياسية علانية، وهذا الوصف ينطبق على الوضع السوري. ولا يستطيع النظام السوري أن يقول للشعب انه مختلف عن الأنظمة العربية الأخرى، وليته كان غير هذه الأنظمة فهو في الحقيقة يشبهها في كل شيء تقريباً، فالسجون دائماً موجودة للمعارضين، لان الانظمة الاستبدادية غير قادرة على تحمل الرأي الآخر، فهل يستطيع النظام السوري أن يقول انه تقبّل الرأي الآخر؟ حتى انه لم يتحمل نقد بعض الاقتصاديين الذين درسوا الاقتصاد السوري ومن بينهم المفكر الاقتصادي عارف دليلة الذي سجن لتسع سنوات لأنه انتقد السياسات الاقتصادية فكيف لو كان النقد سياسياً؟ النظام السوري لا يختلف عن الأنظمة العربية الأخرى التي تفرّدت بالحكم وجعلت الزمن يتوقف عند لحظة واحدة لا يخرج منها منذ 40 عاماً. هذا أمر مشترك بين النظام السوري والليبي والتونسي والمصري واليمني. كان يمكن للنظام السوري أن يقدّم الى شعبه غير السجن والاقصاء وكبت الحريات. ورغم أنه قدم انجازات مادية على مستوى التصنيع والتنمية الريفية والبشرية وحدّ من نسبة الفقر، لكنه لم يستطع تعديل نظامه السياسي.
وبالنسبة الى النقطة الثانية المتعلقة بعلاقة كمال جنبلاط بالنظام السياسي السوري، فلو كان «المعلّم حياً الآن لأدرك النظام ما قاله عن الحرية والديموقراطية وحقوق الانسان وكان بإمكانه الاستفادة منها قبل الآن لكن هذا لم يحدث. النظام السوري لم يتحمل ذلك الجزء في فكر كمال جنبلاط المتعلق بالديموقراطية والحرية وتشكيل الأحزاب السياسية، وهذا الجزء هو الذي أحرج النظام السوري والأنظمة العربية الأخرى، فجرى ما جرى وهذا دفع كمال جنبلاط الى الاصطدام بالحكم السوري.
في النهاية كمال جنبلاط لم يستطع أن يكون إلا مفكراً حراً ومناضلاً من أجل الحرية، وهو قال رأيه بصراحة في محطات تاريخية عدة ومن بينها ما قاله للنظام السوفياتي في ذروة قوته: «كل ما تفعلونه لا معنى له إذا لم تطلقوا حرية الناس في التفكير والتعبير». قال هذا الكلام علناً في المؤتمر الثاني للحزب الشيوعي اللبناني العام 1968 وبكل صراحة وقال ذلك علناً للسوريين في أكثر من مناسبة. لذلك اجتمعتْ الأنظمة العربية وشنّت حرباً على كمال جنبلاط. وأعتقد أن الذين هزموا مشروع كمال جنبلاط السياسي العام 1976 ثم الذين اغتالوه العام 1977 أخطأوا لأنهم في الواقع لم يفعلوا أكثر من تأجيل فتح ملف الحرية، هذا الملف الذي كان يجب أن يُفتح قبل أربعين عاماً.
بكّر كمال جنبلاط في استشراف الربيع العربي والغد الثوري الآتي من رحم الانتفاضات الهادرة من المحيط الى الخليج. لم يكن «المعلّم» رجل فكر حرّ فحسب بل إنه صاحب أفكار سبق بها عصره.
«عمود السما» كما يسميّه الموحّدون الدروز في لبنان رجل علم ودولة، إلاّ أنه تميّز عن جيله بأنه كان رؤيوياً «يستشعر» الأحداث قبل حدوثها. ولعله حين افشى بسرّ موته الى العلاّمة عبد الله العلايلي كان يدرك أن المسافة بين زمنه وجسده أصبحت قصيرة جداً.
من صمت الصمت كتب كمال جنبلاط عن «السجن العربي الكبير»، هو الذي رفض أن يدخل لبنان فيه لأنه آمن بالنموذج اللبناني التعددي فخاف من إجهاض هذه التجربة إبان الوحدة السورية ـ المصرية. لكن هذا السجن تراءى لجنبلاط من البوابة السورية أيضاً، فقال مقولته الشهيرة «نحن لا رغبة لدينا بالسجن السوري الكبير... هناك صراع بين الديكتاتورية والديموقراطية. فهم ليسوا بأحرار ويريدون دائماً الحؤول بيننا وبين الحرية».
ما معنى العودة الى كمال جنبلاط في زمن «الربيع العربي»؟. لا تحتاج الاجابة لكثير من العناء، قالها «المعلّم» في القرن الماضي: «على الأجيال القادمة أن تمتطي سلّم الحرية والسعادة والمجد الإنساني الكامل على آلامنا وجروحنا وأصفادنا ودمائنا المبعثرة ()، فالصراع في سبيل الحق هو انتصار في كلتا الحالتين: الاستشهاد المضيء أو النصر الساحق، لأن الانتصار هو انتصار النفس القوية الجميلة فينا، وانتصار الإنسانية فينا، وهو انتصار التطور على الرجعية، انتصار الحياة».
لم يستطع جنبلاط كبْت تأملاته الفكرية بمصير الأنظمة الاستبدادية، وهو عبّر عن ذلك في أكثر من كتاب، فقد جعل من الحرية الواعية والديموقراطية والتعددية نبراساً يهدّد سجون الديكتاتوريات العربية. هذه الأقانيم قارع بها «المعلم» الايديولوجيات التي صادرت حقوق الانسان. ورغم إنتمائه العقلي الى الاشتراكية بما تتضمنه من العدالة الاجتماعية ومركزية الانسان، الا انه كان يصغي للأفكار الأخرى حتى لو كانت على نقيض توجهاته. وبصرف النظر عن متاهات الحرب الأهلية في لبنان ومحاولته التأسيس لمشروع سياسي علماني أدخله في حرب مع أقطاب المارونية السياسية آنذاك، يتفرد كمال جنبلاط عن سواه بأنه لم يخضع للتسويات وخصوصاً في المراحل الحرجة التي تستدعي اتخاذ قرارات لا تسمح بالبراغماتية أو المرونة وهذا ما فعله عشية دخول الجيش السوري الى لبنان العام 1976 إثر التكليف الاميركي ـ العربي لدمشق، رغم أنه اعتبر أن التسوية قد تساهم أحياناً في الحدّ من الاضرار.
حاول جنبلاط نقل أفكاره الى خارج لبنان وكان قد نصح النظام السوري بفتح باب الحرية وتأسيس الأحزاب وهذا ما قاله أيضاً للقيادة السوفياتية حين كان الاتحاد السوفياتي في أوج قوته.
في اللقاء الأخير مع الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد وعندما اتخذ جنبلاط قراره النهائي برفض دخول السوريين الى لبنان، قال للأسد: «ستدرك مَن كان منا على حق ومَن كان على خطأ». آنذاك قرر «المعلم» السير حتى النهاية ورفض ادخال لبنان في «السجن السوري» حيث رأى أن ثمة صراعاً بين الديموقراطية والديكتاتورية، فآثر المضي في شعاره «نحن سنديان وصخر، ولسنا وحدنا في هذا العالم».
في الذكرى الخامسة والثلاثين لاغتياله في 16 مارس 1977، حملت «الراي» ملف «كمال جنبلاط والربيع العربي» إلى الباحثة المتخصصة في تراث كمال جنبلاط الدكتورة سوسن نصر وأستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية الدكتور محمد شيّا صاحب كتاب «كمال جنبلاط لزمن آخر».
نصر: في لقائه الأخير مع حافظ الأسد قال له
... ستدرك من كان منّا على حق
أكدت الدكتورة سوسن نصر أن كمال جنبلاط في أدبياته السياسية تحدث عن سقوط الأنظمة الاستبدادية، مشيرة الى أن مشروع جنبلاط تأسس على «الحرية» التي تعني عنده الوعي.
ورأت أن الأفكار التي طرحها جنبلاط بشأن الديموقراطية وحق الشعوب بالخروج من «السجن العربي الكبير» ساهمت في إقصاء «كمال جنبلاط» من دون أن تؤدي الى القضاء على المشروع نفسه الذي وضع على سلم أولوياته حق الانسان في الحرية.
• يعود الكثيرون الى كمال جنبلاط في زمن الربيع العربي. ما معنى العودة الى «فكر المعلّم» وسط الضجيج الشعبي في العالم العربي؟
- لا بد أن أوجه تحية الى ذكرى كمال جنبلاط الخامسة والثلاثين. كمال جنبلاط الغائب الحاضر لم يغب عن الساحة وقد تنبأ بما يحدث في العالم العربي منذ العام 1953. لقد قرأ التاريخ وأدرك أن هذه الأنظمة العربية بكاملها ستكون عرضة للانهيار في أي لحظة. وعندما نقرأ ما كتبه حين قال: «إن الأنظمة عندما تعزل الانسان عن حريته لا بد أنها ستنهار»، وهذا ما يحدث.
• اعتبر كمال جنبلاط أن الحرية هي الوعي. كيف قارب جنبلاط هذا المفهوم؟ وإلى أي مدى يعبّر ما يجري في العالم العربي عن الفهم الجنبلاطي للحرية؟
ـ الحرية هي تماماً الوعي، هي ملكة الانسان وجزء أساسي من وحدة الوجود، وهذه الحرية غاية الانسان، ولا يمكن لأي شخص منْع الحرية عن الآخرين. هذه الحرية الواعية هي وحدة جوهرية، لكن ما الذي فعلته الأنظمة العربية؟ هذه الأنظمة لعبت دوراً في تحجيم وعي الجمهور ومنعته من التعبير عن رأيه بسبب الشعارات والايديولوجيات، وبالتالي فإن أحزاب اللون الواحد حوّلت هذا الوعي الى الاتجاه الخارجي ولم تعمل على تطوير وعي الجماهير تجاه الحرية. وبسبب شعاراتها كبحت طاقات الشعوب وعطلت مطالبها باسم الايديولوجية.
كل ما يجري اليوم هو بمثابة استعادة الشعوب لحريتها وحقوقها، فالانظمة الاستبدادية تنهار ويبقى الانسان، وهذا ما حدث للنازية والفاشية والامبراطوريات التي صادرت حق الناس بالحرية والكرامة والتعبير. وعلى هذا يمكن تفسير ما قاله كمال جنبلاط: «كل شيء حين يبلغ أقصاه يعود الى مُبتداه».
كمال جنبلاط حين اعتبر أن الحرية هي الوعي، حذر من الفوضى لأن الحرية بحاجة الى ورشة عمل والى برنامج متكامل يحل محل الأنظمة الاستبدادية. الحرية عند كمال جنبلاط لها أسس ومفاهيم صلبة وعلى هذا الأساس يمكن أن يقوم البناء الاشتراكي المؤسَّس على المساواة والعدل. في أحد المشاهد المعبّرة، كان «المعلم» يراقب أسراب الحمام وهي تتناول طعامها ولم تكن تتصارع في ما بينها فتساءل: لماذا لم يستطع الانسان بناء مجتمع اشتراكي كأسراب الطير؟ حرية الانسان عند كمال جنبلاط لا تبتعد عن المسؤولية والواجب الانساني المتكامل تجاه الآخر، والحرية عنده لا تعني الفوضى بل القبول بالآخر واحترام التنوع والتعددية التي تشكل كلها وحدة جميلة متعددة.
• كيف قارب كمال جنبلاط التعددية السياسية كمفهوم أساسي تطالب به اليوم الحركات الاحتجاجية في العالم العربي؟
ـ في التعددية السياسية تحدث كمال جنبلاط عن هذا الموضوع حين اعتبر أن الدولة مطالَبة بصون الحريات وإعطاء الأحزاب حق التعبير السياسي، ورفض بشكل كامل حزب اللون الواحد، لأنه كان يعتبر أن الانسان في طبعه يتبنى فكرة وقد يرفضها لاحقاً ليتبنى فكرة أخرى أي أنه يدخل في منظومة التغير والتبدل، وبالتالي ما ينطبق على الانسان ينطبق على الجماعات. مفهوم التعددية عند كمال جنبلاط يعني بالدرجة الأولى احتواء الأفكار وتمثيلها في المجالس التشريعية والبرلمانية.
• ما الذي دفع كمال جنبلاط الى التنبؤ بانهيار الأنظمة الاستبدادية في العالم العربي؟
ـ رؤيته هذه انطلقت من مركزية الانسان في الوجود، فكان يعتبر أن الانسانية حين تتعرض للظلم من أي نوع كان ستستيقظ وتنتفض على الاستبداد. ورأى أن الفرد البشري بفطرته يُخلق حراً مهما كان عرقه أو انتماؤه، وحتى الظلم عنده ليس من طبيعة الانسان، وما يحدث اليوم من ثورات عربية أثبت صحة ما قاله «المعلم».
وأريد العودة الى حدث مفصلي في حياة كمال جنبلاط إبان الوحدة السورية ـ المصرية اذ قال حينها للزعيم جمال عبد الناصر: «لا نريد الدخول بهذا السجن الكبير»، لأنه كان يرى أن الشعوب لا يمكنها أن تصطبغ بلون واحد. كمال جنبلاط مفكر رؤيوي أدرك ما يحصل قبل وقوعه بزمن بعيد. من هنا فإنه حين أطلق تعبير «السجن الكبير» قصد بذلك رفض الصيغة الايديولوجية الأحادية التي تريد إلغاء التعددية، وقد رفض الانضمام الى الوحدة بين سورية ومصر فقال مقولته الشهيرة لبنان لن يدخل بهذا السجن الكبير.
رأى كمال جنبلاط أن الحالة اللبنانية تشكل مهداً للاشتراكية بمعنى العيش المشترك والتعددية، ولهذا تخوف الكثيرون من النموذج اللبناني التعددي وقد خاف «المعلم» على هذا النموذج مما سماه «السجن العربي الكبير»، لكنه بالمقابل أدرك أن الأنظمة العربية منذ تأسيسها معرضة للانهيار لأنها استبدادية وعسكرية وإنعزالية وبالتالي فهي تتناقض مع جوهر الانسان والأديان.
• لو كان كمال جنبلاط شاهداً على الأحداث الجارية في سورية اليوم، ماذا كان يمكن أن يقول؟
- يقول ما قاله للرئيس حافظ الأسد قبل أيام من اغتياله: «ستدرك من كان منا على حق ومن كان على خطأ». كمال جنبلاط استشرف الأحداث الجارية الآن في سورية، وكان على يقين بأن تيار التغيير سينطلق ليقلب المشهد.
شيّا: كمال جنبلاط مفكر الحرية بامتياز ومن دون منازع
والنظام السوري لم يتحمّل فكره الذي انتصر على التصفية الجسدية
رأى الدكتور محمد شيّا أن الأفكار التي طرحها كمال جنبلاط عادت «مع الربيع العربي»، مشيراً الى أن جنبلاط هو «وريث تيار الحرية في الفكر العالمي».
وشدد شيّا على أهمية المقاربة الفكرية التي وضعها جنبلاط حول الحرية والمشروع الديموقراطي، موضحاً أن الأخير «قدّم رؤية سياسية متكاملة بشأن التحول الديموقراطي وركائزه».
• في ظل الربيع العربي تعود طروحات كمال جنبلاط الى الضوء. أين هو فكر كمال جنبلاط في الثورات العربية؟
ـ هذا التعبير دقيق حرفياً، إذ عادت مع الربيع العربي أفكار المفكر والسياسي اللبناني كمال جنبلاط الى الضوء. وقد تناولت المقالات والندوات هذه القضية في لبنان وخارج لبنان. وكي أكون واضحاً وصريحاً وأعبّر عن كمال جنبلاط كما هو وليس كما نرغب في أن يكون، لا بد أن أفصّل رأيي في مجموعة من النقاط.
النقطة الأولى: كمال جنبلاط منذ بداياته في الاربعينات خصوصاً في الخمسينات هو وريث تيار الحرية في الفكر العالمي، وهو امتداد للمفكرين الأحرار من حمَلة راية النهضة الفكرية العربية أواخر القرن التاسع عشر وفي النصف الأول من القرن العشرين، وهو امتداد للكواكبي وطه حسين وشبلي شميل وفرح انطون وأمين الريحاني وميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران، ولائحة طويلة من المفكرين الكبار الذين أسسوا لفكرة الحرية في الفكر السياسي العربي المعاصر. وبهذا المعنى كمال جنبلاط هو مفكر الحرية بامتياز ومن دون منازع، ولا أظن أن كلمة أخرى أكثر من الحرية ترددت بالمقدار الذي نجده في كتابات كمال جنبلاط منذ أول كتاب له الذي أسماه «رسالتي كنائب» العام 1942. وتالياً من الطبيعي ان تلتقي حركات الشباب في ما سمي بالربيع العربي مع أفكاره وتجد لديه الأساس الفكري والسياسي والفلسفي الذي تبحث عنه.
والنقطة الثانية: أعتقد أن الحرية التي تَردد صداها في الشوارع العربية ليست بالكامل متطابقة ومتجانسة بل أسمح لنفسي بان أقول انها ليست دائماً واعية لمعنى الكلمة الشامل الذي تصدح به الأفواه وتردده الألسن. لماذا أقول هذا الكلام؟ أقول هذا لأنني لاحظتُ في تحركات جماهير الربيع العربي ارتباكاً في طريقة فهم الشباب لمفهوم الحرية ولاحظتُ نوعاً من الارتباك في طريقة النظر الى الحرية، فبعضهم يريدها للرجال ولكن مع العبودية للنساء، وبعضهم مع حرية التعبير في هذا المجال ولكن ضد حرية التعبير في مجال آخر. وسأكون صريحاً أكثر، بعض الشباب مع الحرية الاقتصادية والسياسية ولكن ضد الحرية الاجتماعية ومع أن تبقى المرأة في المنزل ولا تخرج الى العمل. والملاحَظ أنه في بعض الساحات العربية كانت هناك تظاهرات رجالية بالكامل ثم تظاهرات نسائية بالكامل، وكأن هناك فصلا عنصريا بين التظاهرتين، فكيف نكون أحراراً من جهة ثم نقبل العبودية من جهة ثانية؟ هذه الحرية منقوصة خصوصاً حين تقترب من الموضوع الديني، ولذلك أقول لهذا الشباب أن يعود الى كتابات كمال جنبلاط لفهم الحرية كي يكتشفوا أن الحرية عنده تُختزل بثلاثة أمور بسيطة: أولاً: الحرية هي جوهر الانسان، فلا انسان من دون حرية، ثانياً: الحرية مسؤولية لا فوضى لأن الفوضى أقرب الى الغرائز بينما المسؤولية أقرب الى العقل، ثالثاً: الحرية لا تتجزأ فإما أن تؤخذ كاملة أو لا تؤخذ.
• تحدث كمال جنبلاط عن السجن العربي الكبير. ما الذي كان يقصده بهذا التعبير خصوصاً أنه كان يملك مشروعاً سياسياً تقدمياً؟
- كمال جنبلاط أثناء محاولاته إنجاز مشروع التغيير الديموقراطي في النظام اللبناني أواخر الستينات ومطلع السبعينات من القرن الماضي وبسبب الطريقة السلبية التي تعاطت بها الأنظمة العربية مع مشروعه، أطلق في تلك الفترة تسمية السجن العربي الكبير قاصداً سورية وغير سورية. والسبب واضح أن شعلة الحرية التي حملها كمال جنبلاط بدا كما لو أنها أخافت الأنظمة العربية، فخافت من أن تنشأ في لبنان بؤرة للحريات والديموقراطية ولحقوق الانسان، وأن تنتقل العدوى بعد ذلك الى الشعوب العربية، ولهذا لم تُخفِ هذه الأنظمة عداءها لفكرة الحرية والتغيير الديموقراطي عند كمال جنبلاط بل توحّدت كلها تقريباً ضده.
الدخول السوري الى لبنان عارضه كمال جنبلاط بقوة، وهو لم يكن فقط بغطاء أميركي ـ اسرائيلي بل كان ايضاً بغطاء عربي وجرى لاحقاً تكليف النظام السوري، وبالتالي فإن الوجود السوري أعطيت له الفرصة من أجل اجهاض المشروع الديموقراطي الذي نادى به جنبلاط، وقد تخوف النظام السوري والأنظمة العربية الأخرى من انتقال هذا المشروع الى شعوبها، وما اغتيال كمال جنبلاط بعد هزيمة مشروعه إلاّ إمعان في اجتثاث فكره في التغيير الديموقراطي. وقد أثبتت الانتفاضات العربية بعد 35 عاماً على استشهاد كمال جنبلاط أن في الامكان هزيمة المشروع الديموقراطي عسكرياً وتصفية أصحابه جسدياً لكن المشروع نفسه أبقى من الهزيمة ومن التصفية الجسدية وأنه سينتصر في النهاية وسيزهّر في الربيع العربي رغم المخاض الصعب.
• دعا كمال جنبلاط الى إشراك الناس في السلطة أو الى نوع من الديموقراطية الشعبية. هل ما دعا اليه بدأ بالتحقق ولو جزئياً في العالم العربي؟
- كمال جنبلاط كان يدعو الى حكم شعبي تمثيلي حيث تدرك الجماهير هوية المشروع الذي تحمله. وحين خرجت الجماهير العربية على نحو عفوي تطالب بالخروج من السجن العربي الكبير، أي من النظام السياسي الاستبدادي الذي وضعت الدول الوطنية المخلوعة شعبها فيه طوال خمسين عاماً، بدا الحراك الشعبي مهماً. وما إن سقطت هذه الأنظمة حتى ظهرت أزمة البديل الديموقراطي، وبالتالي لم يكن لهذه الجماهير مشروع سياسي واضح، فتقدمت الى الواجهة المشاريع البديلة التي كانت مستبعدة في الأنظمة السابقة وتحديداً المشروع الاسلامي. وبما أن معظم الجمهور العربي ليس لديه مشروع، تمكن التيار الاسلامي من أن يذهب بالشارع الى حيث يريد مستفيداً من سمعته طوال عقود كضحية أولى للاستبداد والاقصاء. هذه بعض المخاطر التي لا بد من الاشارة اليها، فأي تحول نحو الديموقراطية من المهم أن يتأسس على مشروع سياسي عقلاني ديموقراطي، وكان كمال جنبلاط قد قدم رؤية سياسية أكاد أقول متكاملة بشأن التحول الديموقراطي وركائزه. ولا يكفي أن نطالب بالحرية فمن المهم بناء مشروع ديموقراطي لحماية الحرية نفسها كما أكد كمال جنبلاط في كتاباته.
• كيف تنظر الى الحركة الاحتجاجية في سورية باعتبارك درستَ فكر كمال جنبلاط وعلاقته بالنظام السوري؟
ـ هذا السؤال مهم جداً ولم يُطرح بعد، وسأعرض له بشكل موجز انطلاقاً من نقطتين أساسيتين: الأولى تخص الحراك الشعبي السوري والثانية تخص علاقة كمال جنبلاط بسورية. كما قلت في اجاباتي عن أسئلتك السابقة، الحراك الشعبي العربي له أسبابه التي دفعت بأكثرية الشعب العربي للخروج الى الساحات ومناهضة الأنظمة السياسية علانية، وهذا الوصف ينطبق على الوضع السوري. ولا يستطيع النظام السوري أن يقول للشعب انه مختلف عن الأنظمة العربية الأخرى، وليته كان غير هذه الأنظمة فهو في الحقيقة يشبهها في كل شيء تقريباً، فالسجون دائماً موجودة للمعارضين، لان الانظمة الاستبدادية غير قادرة على تحمل الرأي الآخر، فهل يستطيع النظام السوري أن يقول انه تقبّل الرأي الآخر؟ حتى انه لم يتحمل نقد بعض الاقتصاديين الذين درسوا الاقتصاد السوري ومن بينهم المفكر الاقتصادي عارف دليلة الذي سجن لتسع سنوات لأنه انتقد السياسات الاقتصادية فكيف لو كان النقد سياسياً؟ النظام السوري لا يختلف عن الأنظمة العربية الأخرى التي تفرّدت بالحكم وجعلت الزمن يتوقف عند لحظة واحدة لا يخرج منها منذ 40 عاماً. هذا أمر مشترك بين النظام السوري والليبي والتونسي والمصري واليمني. كان يمكن للنظام السوري أن يقدّم الى شعبه غير السجن والاقصاء وكبت الحريات. ورغم أنه قدم انجازات مادية على مستوى التصنيع والتنمية الريفية والبشرية وحدّ من نسبة الفقر، لكنه لم يستطع تعديل نظامه السياسي.
وبالنسبة الى النقطة الثانية المتعلقة بعلاقة كمال جنبلاط بالنظام السياسي السوري، فلو كان «المعلّم حياً الآن لأدرك النظام ما قاله عن الحرية والديموقراطية وحقوق الانسان وكان بإمكانه الاستفادة منها قبل الآن لكن هذا لم يحدث. النظام السوري لم يتحمل ذلك الجزء في فكر كمال جنبلاط المتعلق بالديموقراطية والحرية وتشكيل الأحزاب السياسية، وهذا الجزء هو الذي أحرج النظام السوري والأنظمة العربية الأخرى، فجرى ما جرى وهذا دفع كمال جنبلاط الى الاصطدام بالحكم السوري.
في النهاية كمال جنبلاط لم يستطع أن يكون إلا مفكراً حراً ومناضلاً من أجل الحرية، وهو قال رأيه بصراحة في محطات تاريخية عدة ومن بينها ما قاله للنظام السوفياتي في ذروة قوته: «كل ما تفعلونه لا معنى له إذا لم تطلقوا حرية الناس في التفكير والتعبير». قال هذا الكلام علناً في المؤتمر الثاني للحزب الشيوعي اللبناني العام 1968 وبكل صراحة وقال ذلك علناً للسوريين في أكثر من مناسبة. لذلك اجتمعتْ الأنظمة العربية وشنّت حرباً على كمال جنبلاط. وأعتقد أن الذين هزموا مشروع كمال جنبلاط السياسي العام 1976 ثم الذين اغتالوه العام 1977 أخطأوا لأنهم في الواقع لم يفعلوا أكثر من تأجيل فتح ملف الحرية، هذا الملف الذي كان يجب أن يُفتح قبل أربعين عاماً.