خورشيد دلي / تركيا والأزمة السورية

تصغير
تكبير
| خورشيد دلي |

عندما بدأت الأزمة السورية قبل نحو عام اعتقدت تركيا أن لديها ما يكفي من النفوذ لدى القيادة السورية لإقناعها بإحداث إصلاحات سريعة وجذرية، وعليه أرسلت العديد من الوفود السياسية والأمنية وعلى رأسهم وزير الخارجية أحمد داود أوغلو إلى دمشق لهذه الغاية، بل وصل الأمر إلى حد أن أوغلو حمل معه في احدى الزيارات برنامج حزب العدالة والتنمية كوصفة للإصلاح في سورية.

مع مضي الأشهر وتفاقم الأزمة سرعان ما تحول الإلحاح التركي على الإصلاح إلى ضغط سياسي وديبلوماسي ومن ثم توالت التهديدات التي أطلقها اردوغان وسط حديثه المتكرر عن الفرصة الأخيرة وعدم السماح بتكرار ما جرى في حماه وصولا إلى دعوته الرئيس السوري بشار الأسد إلى التنحي على غرار ما فعله مع حسني مبارك، لكن مسار الأزمة السورية وبحكم تعقيداتها وتشابكها وتداخلها مع العديد من القضايا الإقليمية والمصالح الدولية، جعل من الدور التركي دورا حذرا يحاول التوافق بين السعي إلى تغيير النظام في دمشق وتجنب التداعيات على بلاده، نظرا لأن التغيير الجاري يطول المنطقة بأكملها، وتركيا ليست استثناء على الرغم من تقدم تجربتها في الممارسة الديموقراطية على الدول العربية.

الثابت أن الأزمة نقلت العلاقات السورية - التركية إلى مرحلة شديدة التوتر بعد سنوات من الوئام وصل إلى حد إقامة مجلس تعاون استراتيجي وإجراء مناورات عسكرية مشتركة للمرة الأولى في التاريخ، فضلا عن علاقة شخصية بين الأسد وأردوغان، طبعا كل طرف لأسبابه وتـطلعاته الخاصة، فسورية التي كانت تعيش على وقع الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 وتحبس أنفاسها بعد اغتيال الحريري 2005 وجدت في تركيا منفذا لفك الحصار والضغط عنها بل والتطلع إلى علاقة مغايرة مع أميركا وسلام مع إسرائيل عبر تركيا في حين رأت الأخيرة في سورية جسرا لها للوصول إلى الملفات الساخنة في المنطقة ولاسيما فلسطين ولبنان.. وفي الوقت نفسه سوقا خصبة لبضائعها، خصوصا وان هذا التوجه ينسجم مع المتغيرات الداخلية في تركيا ورؤية حزب العدالة والتنمية لخيارات تركيا السياسية ونظرية صفر المشاكل التي طرحها أوغلو وقبلها نظرية العمق الاستراتيجي.

اليوم من الواضح أن هذه النظريات لم يعد لها مكان في العلاقة بين الجانبين، فتركيا تقول ان علاقاتها مع النظام السوري وصلت إلى مرحلة اللاعودة وان المطلوب هو تغيير هذا النظام وكيفية إدارة مرحلة ما بعده، وهي في سبيل ذلك اتخذت مجموعة من الخطوات والاجراءات، فمن جهة فرضت عقوبات على النظام السوري، ومن جهة ثانية رعت المعارضة السورية ولاسيما حركة الأخوان المسلمين وهيأت الظروف لتأسيس المجلس الوطني السوري، ومن جهة ثالثة احتضنت الجيش السوري الحر وأقامت مخيمات للاجئين السوريين في المنطقة الحدودية. وعلى المستوى السياسي عملت في عدة اتجاهات، فمن جهة نسقت مع دول الخليج العربي والجامعة العربية لزيادة الضغوط على النظام السوري، ومن جهة ثانية برز ما يشبه تنسيق وتشاور تركي أميركي بشأن كيفية إدارة الأزمة، ومن جهة ثالثة اتجهت نحو طهران وموسكو وبكين للتأثير على مواقفهم المؤيدة للنظام السوري، وفي كل هذا حرصت أنقرة على عدم الاصطدام مع النظام السوري بشكل مباشر، نظرا لمعرفتها بالتداعيات الكارثية على أمنها الداخلي، فهي الدولة المجاورة لإيران والعراق وسورية (حلفاء النظام السوري) حيث الورقة الكردية التي تشكل قنبلة تاريخية في الخاصرة التركية والصراع الطائفي المضمر والقابل للتفجر هنا وهناك، والبنية التركية بحكم ارثها الأتاتوركي وحتى سياسة حزب العدالة والتنمية ليست بعيدة عن مكامن الانفجار الاجتماعي والسياسي. وعليه ظلت تركيا تشترط إقامة منطقة أمنية عازلة داخل الأراضي السورية بتحقيق جملة شروط، كوحدة المعارضة السورية ووجود موافقة عربية مسبقة على غرار ما حصل لليبيا، وضمانات أميركية وأوروبية، فضلا عن قرار دولي وهو غير متوافر في ظل الفتيو الروسي والصيني في مجلس الأمن.

في الحديث عن خلفيات السياسية التركية تجاه الأزمة السورية، ثمة تحليلات كثيرة، فهناك من يرى ان تركيا أرادت ركوب موجة الثورات العربية لتحقيق جملة من الأهداف، وفي المقدمة منها تحقيق (العثمانية الجديدة) بعد ان أتاحت ثورات الربيع العربي الفضاء أمامها للتحرك بقوة تجاه العالم العربي، سواء على مستوى استثمار التواصل مع صعود حركات الإخوان المسلمين إلى سدة المشهد السياسي كما حصل في مصر وتونس وليبيا حيث تدرك تركيا ان مثل هذا المشروع لن يكتمل دون كسر أو إنهاء المحور الممتد من طهران إلى الضاحية الجنوبية مرورا بدمشق، ولعل هذا ما دفع بداود أوغلو إلى الحديث عن بدء أفول (العهد الشيعي) وبداية عهد (الإحياء السني) بعد زيارته الأخيرة لطهران، وهو ما دفع بالبعض إلى الحديث عن إقامة (هلال سني) بدلا من (الهلال الشيعي) أو على الأقل في مواجهته. فيما يرى قسم آخر ان تركيا الحليفة التاريخية لواشنطن ترى أن مشروع إقامة الشرق الأوسط الكبير بات ممكنا على وقع ثورات الربيع العربي وان القوة التركية الناعمة قادرة على قيادة هذا المشروع في المنطقة لأسباب كثيرة لا يتسع المجال هنا لتعدادها، وما الحديث عن النموذج التركي المعتدل الا هو تجسيد لهذه الرؤية تطلعا إلى المزيد من الدور والنفوذ الإقليمين.

بين السعي التركي إلى تغيير النظام السوري والحرص من التداعيات بدا الدور التركي يتراوح بين صورة النمر الإقليمي الذي يتحرك كلاعب إقليمي خطر وبين العجز عن التحرك الحقيقي دون قرار أميركي ودولي وهو ما وضع تركيا في امتحان مع المصداقية والذات، وفي كل هذا بات عامل الوقت مهما، فإذا نجح النظام السوري في قمع الاحتجاجات على الأرض ووضع نهاية لها على الطريقة الإيرانية فإن الموقف التركي سيصبح صعبا ولاسيما في الداخل، فيما إذا انهار النظام فسيكون ذلك مكسبا كبيرا لسياسة حزب العدالة والتنمية وتطلعاتها تجاه العالم العربي.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي