بمناسبة احتفالات الكويت بعيدها الوطني / جعل الله مفارقة الأوطان عقوبة لقطّاع الطرق ومعادلاً لقتل النفس ومسوّغاً للقتال
«الوطن والمواطنة» ... نظرة شرعية
هل تكفي الاحتفالات للتعبير عن حب الوطن والولاء له وتجسيد قيمة المواطنة؟
| كتب عبدالله متولي |
تعيش دولة الكويت هذه الايام احتفالاتً بعيدها الوطني الحادي والخمسين والذي يوافق يوم الخامس والعشرين من شهر فبراير من كل عام... ومما لاشك فيه انه من حق الشعوب ان تحتفل باليوم الذي نالت فيه استقلالها، واصبحت دولتهم ذات سيادة، فهو يوم تاريخي لاينس ويظل دائماً محفوراً في ذاكرة الوطن وابنائه الذين يجدون الانتماء، والحب والولاء للوطن من خلال الاحتفال بهذا اليوم من كل عام... لكن هل يكفي الاحتفال بالعيد الوطني للتعبير عن هذه المشاعر والاحساسيس التي يجب ان تتخطى هذه المرحلة لتتحول الى افعال صادقة للتأكيد على حب الوطن وتجسيد قيمة المواطنة؟
هذا التساؤل كان الدافع للتعرض لمفهوم «الوطن والمواطنة» وهي قضية اثارت جدلاً واسعاً - ومازالت - خاصة مع ظهور العديد من المشكلات السياسية والاجتماعية والطائفية ذات الصلة بموضوع «الوطن والمواطنة».
هذه المشكلات ادت الى تجاذبات ونقاشات واختلافات متباينة ومتنوعة، ودائماً ما يظهر معها مصطلع «الوحدة الوطنية» لاطفاء فتيل الازمة والقضاء على الفرقة، لكنه دائماً - ايضاً - يكون بمثابة المسكن الذي لا يقضي على سبب الخلاف من جذوره. واحسب انه لو اراد الجميع ان يجنب المجتمع مخاطر الاختلاف اياً كان نوعه... فلابد ان يعي جيداً معنى «الوطن» ومفهوم «الوطنية» متسلحاً بالاخلاص وصدق النية.
ولذلك سنعرض في هذه العجالة لمفهوم «الوطن والمواطنة» من المنظور الشرعي، وبيان كيف تعامل الاسلام مع هذه القضية، التي لم تكن تثير نقاشاً او جدلاً على مدار تاريخ المسلمين في مراحله المختلفة، وان كان الامر اصبح مختلفاً في العصر الحاضر، فقد اصبحت المواطنة احد اهم المشكلات التي لاقت جدلاً واسعاً بعد ان تدخل الغرب في مفاهيم كثيرة للمواطنة، وذلك لاسباب كثيرة ل اسبيل لبيانها الآن.
كما انه لابد من التأكيد على ان الدين الاسلامي هو صاحب السبق في التأكيد على قيمة الوطن واعلاء المواطنة وان المسلم عليه واجبات تجاه وطنه، كما ان للمواطن على وطنه حقوق.
وهنا سنعرض لرؤية مجموعة من العلماء والمفكرين الذين افاضوا في هذه القضية وكتبوا فيها «النظرة الشرعية لمفهوم الوطن والمواطن» للشيخ ناظم المسباح، و«المواطنة في ظل المرجعية الاسلامية» للمفكر الاسلامي الدكتور محمد عمارة، ثم مقتطفات من كتاب «الوطن والمواطنة» للدكتور يوسف القرضاوي... فتابع معنا:
نبدأ بالنظرة الشرعية لمفهوم الوطن والمواطن كما يراها فضيلة الشيخ ناظم المسباح، والذي يعرف الوطن على انه هو المنزِلُ الذي تُقِيمُ فيهِ، وهو منزلُ الانسانِ ومحَلُّهُ، والجمعُ أوطَانٌ، قالَ تعالى: «لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ» (التوبة:25).
قالَ الجُرجانيُّ: الوطنُ الأصليُّ: هوَ مولِدُ الرجلِ والبلدُ الذي هو فيهِ.
وطَنُ الاقامةِ: موضعٌ ينوي انْ يستَقرَّ فيهِ خمسةَ عَشَرَ يوماً أو أكثرَ، مِنْ غيرِ انْ يتخذَهُ مسكناً.
قالَ ابنُ المباركِ: انَّ مَنْ أقامَ في مدينةٍ أربعَ سنينَ فهوَ من أهلِها.
والوطنيّةُ: صفةٌ، وهيَ: العاطفةُ التي تعبِّرُ عنْ ولاءِ المرءِ لبلدِهِ، والمقصودُ هنا انْ يكونَ ولاءُ المرءِ المسلمِ لبلدِهِ مِنْ أجلِ كلمةِ التوحيدِ الطاهرةِ، وشرائعِ الدينِ المطبّقةِ.
مكانةُ مكةَ في قلبِ النبيِّ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ:قالَ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ: «مَا أَطيبكَ مِنْ بلدٍ، ومَا أحبَّكَ اليَّ، ولولا انَّ قومِي أَخرجُوني منكَ مَا سَكنْتُ غيرَكَ» أخرَجهُ الترمذيُّ وغيرُهُ عنِ ابنِ عباسٍ رضيَ اللهُ عنهما.
- دُعَاءُ ابراهيمَ عليه السلام لمكةَ موطنِ ذريَّتِهِ (الدعاءُ للوطنِ: «ربَّنَا اِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي اِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» (ابراهيم: 3).
- مكانةُ المدينةِ في قلبِ النبيِّ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ:قالَ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ: «انَّ اللهَ تعالى سمَّى المدينةَ طَابَةَ» مسلمٌ عن جابرِ بنِ سمَرةَ.
وقالَ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ: «انَّها طَيْبَةُ...» مسلمٌ عنْ زيدِ بنِ ثابتٍ. وفي هذا اشارةٌ لحبِّهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ لها.
عنْ سُهيلِ بنِ أبي صالحٍ، عنْ أبيهِ، عنْ أبي هريرةَ؛ انهُ قالَ: كانَ الناسُ اذا رأَوْا أولَ الثمرِ جاؤُوا بهِ الى النبيِّ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ. فاذا أخَذَهُ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ قالَ: «اللَّهُم! باركْ لنَا في ثَمِرنَا. وباركْ لنَا في مدينَتِنا. وباركْ لنا في صاعِنَا. وباركْ لنَا في مُدِّنَا! اللهمَّ! انَّ ابراهيمَ عبدُكَ وخليلُكَ ونبيُّكَ. وانِّي عبدُكَ ونبيُّكَ. وانهُ دعاكَ لمكةَ. واني أدعوكَ للمدينةِ. بمثلِ مَا دعَاكَ لمكةَ. ومثلُهُ معَهُ» قالَ: ثمَّ يدعُو أصغَرَ وليدٍ لهُ فيُعطيهِ الثمرَ. رواهُ مسلمٌ.
مفارقةُ الأوطانِ بلاءٌ:جعلَهَا اللهُ عقوبةً لقطَّاعِ الطُّرِقِ: «أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ» (المائدة:33).
فراقُ الأوطانِ معادِلٌ لقتلِ النفسِ، قالَ تعالى: «وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ اِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً» (النساء: 66).
جعلَ اللهُ تعالى مِنَ الفيءِ نصيباً للمهاجرينَ؛ لانهم هجَرُوا الوطَنَ مِنْ أجلِ اللهِ، ومِنْ أجلِ نُصرةِ دينِهِ، وهذا أمرٌ يشقُّ على الانسانِ تحملُهُ. ففي الآيةِ أشارَ الى مَا للأوطانِ مِنْ مكانةٍ في نفوسِ أهلِها، قالَ تعالى: «لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ» (الحشر:8).
- مِنْ مُسوِّغاتِ القتالِ في الدينِ، القتالُ مِنْ أجلِ الاخراجِ مِنَ الوطنِ، قالَ تعالى: «أَلَمْ تَرَ اِلَى الْمَلاِ مِن بَنِي اِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى اِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ اِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ اِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ» (البقرة:246)
- قيامُ الدينِ في الوطنِ مقدَّمٌ على كلِّ شيءٍ: اذا لم يستطِعِ المسلمُ انْ يُقيمَ شعائرَ دينِهِ في موطنِهِ، يجبُ عليهِ انْ يُهجَرَهُ الى موطنٍ آخَرَ، يستطيعُ انْ يُقيمَ فيهِ شعائرَ دينِهِ انْ كانَ مستطيعاً. فالرسولُ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ هاجَرَ مِنْ موطنِهِ (مكةَ) وهيَ عزيزةٌ عليهِ الى (المدينةِ) حيثُ يستطيعُ فيها انْ يقيمَ شعائرَ دينِهِ. أوجبَ اللهُ الهجرةَ على كلِّ مستطيعٍ مِنَ المسلمينَ.
قالَ تعالى: «فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ» (آل عمران:195). في هذه الآيةِ الكريمةِ ترغيبٌ في هَجْرِ الأوطانِ التي يَسودُها الشِّركُ والظلمُ ومحاربةُ الدِّينِ وأهلِهِ.
حكمُ مقولةِ: الكُويتُ وبَسْ!
الوطَنُ في الاسلامِ، هوَ العالَمُ الاسلاميُّ بأراضيهِ المُترامِيةِ، وتضاريسِهِ الممتَدَّةِ مهما كَبُرَ وتوسَّعَ، فلا يجوزُ الانقطاعُ عنِ الموطِنِ الاسلاميِّ الكبيرِ، والتَّقْوقُعُ على الوطنِ الصغيرِ الذي يعيشُ فيهِ الانسانُ. ولا يجوزُ انْ نجعلَ المواطَنَةَ بديلاً لرابطَتِنا العَقَدَيِّةِ معَ المسلمينَ عَرَباً وعَجَماً في انحاءِ العالَمِ الاسلاميِّ. ولا يجوزُ اقصاءُ المصطلحاتِ الاسلاميةِ نحوَ الجهادِ دارِ الاسلامِ دارِ الكُفرِ... وتَمييعُ الدينِ وشرائِعِهِ بهذا المفهومِ للوطنيةِ.
أداءُ العمَلِ الذي وُكلَ الى الفردِ مِنْ قِبَلِ الدولةِ باتقانٍ واخلاصٍ، قالَ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ: «انَّ اللهَ يُحبُّ اذا عَمِلَ أحدُكُم عملاً انْ يتقِنَهُ». أخرجَهُ البيهقيُّ عنْ عائشةَ رضيَ اللهُ عنها.
- واجبنا تجاه الوطن:
• الحرصُ على أمنِهِ، فكلُّ واحدٍ منَّا راعٍ، قالَ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ: «كُلُّكُم راعٍ، وكُلكُم مَسؤولٌ عنْ رعيَّتِهِ...»
• المحافظةُ على الممتلكاتِ العامةِ للوطَنِ.
• النصحُ لأهلِهِ، قالَ صلى اللهُ عليهِ وسلمُ: «الدِّينُ النصيحةُ...»
• العملُ على رُقيِّهِ وتقدُّمِهِ.
المواطنة تفاعل
وتحت عنوان المواطنة في ظل المرجعية الاسلامية، يتساءل المفكر الاسلامي الكبير الدكتور محمد عمارة:
هل المواطنة لا بد ان تكون علمانية؟! وهل تحقُّقُها يستلزم التخلي عن المرجعية الاسلامية في القانون والتشريع؟
ويجيب: ان المواطنة مفاعلة -أي تفاعل- بين الانسان المواطن والوطن الذي ينتمي اليه ويعيش فيه، وهي علاقة تفاعل؛ لانها ترتِّب للطرفين وعليهما العديد من الحقوق والواجبات؛ فلا بدَّ لقيام المواطنة ان يكون انتماء المواطن وولاؤه كاملين للوطن، يحترم هويته ويؤمنُ بها وينتمي اليها ويدافع عنها بكل ما في عناصر هذه الهويَّة من ثوابت اللغة والتاريخ والقِيَم والآداب العامَّة، والأرض التي تمثِّل وعاءَ الهوية والمواطنين، وولاء المواطن لوطنه يستلزم البراء من أعداء هذا الوطن طالما استمرَّ هذا العداء. وكما ان للوطن هذه الحقوق -التي هي واجبات وفرائض- على المواطن، فان لهذا المواطن على وطنه ومجتمعه وشعبه وأمته حقوقًا كذلك، من أهمها المساواة في تكافؤ الفرص، وانتفاء التمييز في الحقوق السياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة بسبب اللون أو الطبقة أو الاعتقاد، مع تحقيق التكافل الاجتماعي الذي يجعلُ الأمَّة جسدًا واحدًا، والشعب كيانًا مترابطًا، اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر أعضاء الجسد الواحد بالتكافل والتضامن والتساند والانقاذ.
واذا كان التطور الحضاري الغربي لم يعرف المواطنة وحقوقها الا بعد الثورة الفرنسيَّة في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي؛ بسبب التمييز على أساس الدين بين الكاثوليك والبروتستانت، وعلى أساس العِرْق بسبب الحروب القوميَّة، وعلى أساس الجنس بسبب التمييز ضد النساء، وعلى أساس اللون في التمييز ضد الملوَّنين؛ فان المواطنة الكاملة والمساواة في الحقوق والواجبات قد اقترنتْ بظهور الاسلام، وتأسيس الدولة الاسلامية الأولى في المدينة المنورة سنة واحد هجرية (622م) على عهد رسول الله وتحت قيادتِه.
فالانسان - في الرؤية الاسلاميَّة - هو مطلق الانسان، والتكريم الالهي هو لجميع بني آدم «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ» (الاسراء: 70). والخطاب القرآني موجَّه أساسًا الى عموم الناس، ومعايير التفاضل بين الناس هي التقوى المفتوحة أبوابها أمام الجميع «اِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ» (الحجرات: 13). بل قد جعل الاسلام الآخر الديني جزءًا من الذات، وذلك عندما أعلنَ ان دين الله على امتداد تاريخ النبوات والرسالات هو دين واحد، وان التنوُّع في الشرائع الدينيَّة بين أمم الرسالات انما هو تنوُّع في اطار وحدةِ هذا الدين «لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً» (المائدة: 48).
ولقد وضعت الدولة الاسلاميَّة فلسفة المواطنة هذه في الممارسة والتطبيق، وقننتها في المواثيق والعهود الدستوريَّة منذ اللحظة الأولى لقيام هذه الدولة في السنة الأولى للهجرة؛ ففي أوَّل دستور لهذه الدولة تأسَّست الأمَّة على التعدديَّة الدينية، وعلى المساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين المتعدِّدين في الدين والمتحدين في الأمَّة والمواطنة، فنصُّ هذا الدستور - صحيفة دولة المدينة - على ان اليهود أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، وان لهم النصر والأسوة مع البر من أهل هذه الصحيفة، ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين... على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وان بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وان بينهم النصح والنصيحة والبرّ دون الاثم. هكذا تأسست المواطنة في ظلِّ المرجعية الاسلامية منذ اللحظة الأولى.
الحقوق والواجبات وفي كتابه «الوطن والمواطنة» يقول الشيخ يوسف القرضاوي:
يُقصد بالمواطنة تساوي أفراد المجتمع في الحقوق والواجبات، وهو ما يعني ان كافة أبناء الوطن الواحد سواسية من دون تمييز على أساس الدين أو الجنس أو اللون أو الموقف الفكري أو الوضع الطبقي.
وترتكز المواطنة على قيم محورية هي: المساواة، والحرية، والحق في المشاركة في ادارة المجتمع والمسؤولية الاجتماعية.
ويقترب الشيخ يوسف القرضاوي من فكرة المواطنة عبر تحريره لمضمون مصطلح (الوطن)، مشيرا الى قوله تعالى: « قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ اِلَى حِينٍ» (الأعراف: 24) ليدلل على ان الأرض كلها في أول الأمر كانت وطنا لآدم وأولاده، من دون تزاحم أو تنافس أو اختصاص بمكان دون آخر «فلما كثرت ذرية آدم وانتشرت، بدأ الناس يتجمعون في أماكن بحكم الطبيعة الاجتماعية للبشر».
ويرى ان فكرة «الوطن والوطنية» تقوم على حاجة الانسان الى المكان وارتباطه به: «فكل كائن حي محتاج الى مكان أو مأوى يلوذ به، فالوحوش لها جحورها، والطير لها أعشاشها، وقد نرى الطيور والأسماك ونحوها تسير المسافات الشاسعة، وقد تخترق البحار والمحيطات ثم تعود الى أماكنها الأولى، أي الى أوطانها، لا تضل طريقها اليها، بحاسة الهداية العامة التي منحها الله لكل مخلوقاته.. قال تعالى: «قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى» ( طه:50).
ويشير الى انه من حق الشعوب - وفق كتاب الله - بل من واجبها ان تقاتل وتحمل السلاح لتسترد أرضها وديارها اذا أخرجت منها، يقول تعالى: (ألَمْ تَرَ اِلَى الْمَلأ مِن بَنِي اِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى اِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ اِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا) (البقرة: 246)
من هو المواطن؟
اذا كانت هذه هي مكانة الوطن في الاسلام، فان السؤال الذي يفرض نفسه: من هو المواطن في المجتمع المسلم، وهل لأهل البلاد من غير المسلمين مكانة معتبرة في التصور الاسلامي للآخر الديني؟ وهنا يؤكد القرضاوي ان النبي صلى الله عليه وسلم قد اعترف بـ«المواطنة» بين سكان المدينة من مسلمين مهاجرين وانصار، من أوس وخزرج، ومن اليهود على اختلاف قبائلهم، معتبرا ان هذه المواطنة (العيش في وطن واحد هو المدينة) هو أساس التعاقد والتعامل بين الجميع.
مشيرا الى وثيقة المدينة التي مثلت دستور الدولة بالمدينة والتي تقضي بانه من تبع المسلمين من يهود فان له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم، وان يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، وبني جشم وبني الأوس وبني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف. وتنظم الوثيقة حياة أهل المدينة من دون تفريق بينهم، لا في الحقوق ولا في الواجبات، وهو ما يلفت اليه المؤلف في تحليله للمادة 25 من الوثيقة التي تنص على ان «يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم». الأمة بهذا المعنى لا تقتصر على سكانها المسلمين، بل هي أمتان دينيتان في أمة سياسية واحدة، وأوضح المواد هنا تعبيرا عن المدلول السياسي للأمة وتمييزه عن المدلول الاعتقادي هي المادة 25 التي تنص على ان «يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم» ثم مد النص هذا الحكم ليشمل قبائل اليهود الأخرى و«بطانتهم» (أي أحلافهم من غيرهم) في احدى عشرة مادة متتالية فكل من المسلمين واليهود أمة دينية بمقتضى هذا النص، والأمتان تشكلان معا أمة سياسية واحدة.
معنى الأمة:
ويتوقف الشيخ أمام المعاني الاعتقادية والاجتماعية والجغرافية للأمة الاسلامية في وثيقة المدينة ليخلص الى النتيجة ذاتها قبل ان ينتقل الى طرف من تطبيقاتها الفقهية في مدونة الفقه الاسلامي وذلك في ما ينقله العلامة ابن عابدين عن أئمة الفقه الحنفي حيث يقررون: «ان الجهاد فرض عين ان هجم العدو على بلد مسلم، وذلك على من يقرب على العدو أولا، فان عجزوا أو تكاسلوا فعلى من يليهم ثم من يليهم حتى يفترض على هذا التدريج على المسلمين شرقا وغربا، وهذا متفق عليه بين الأمة جميعا».
ويرى ان المسلمين في غنى عن استيراد مفهوم المواطنة من سوق الفكر الغربي لان فقهاء المذاهب المختلفة جميعا بحسبه قرروا ان غير المسلمين في المجتمع الاسلامي، وهم الذين يعبر عنهم في الاصطلاح الفقهي بـ«أهل الذمة» يعدون من أهل دار الاسلام، وان لم يكونوا من أهل الملة، مضيفا ان كلمة «أهل الدار» هذه تمثل مفتاحا للمشكلة ؛ لان معنى انهم أهل الدار انهم ليسوا غرباء ولا أجانب، لان حقيقة معناها: انهم أهل الوطن، واذا ثبت انهم أهل الوطن، فهم مواطنون كغيرهم من شركائهم من المسلمين وبهذا تحل هذه الاشكالية من داخل الفقه الاسلامي.
التربية الإسلامية وحب الوطن
للاسلام دور كبير في تنمية المواطنة والدفاع عن الوطن، تظهر ملامح هذا الدور جلية في علاقة التربية الاسلامية وحب الوطن، وفي هذا السياق يقول الدكتور صالح بن علي ابو عراد، استاذ التربية الاسلامي في جامعة ابها بالمملكة العربية السعودية:
تنطلق التربية الاسلامية في تعاملها مع النفس البشرية من منطلق الحب الايماني السامي ؛ الذي يملا جوانب النفس البشرية بكل معاني الانتماء الصادق، والولاء الخالص. ولاشك ان حب الوطن من الامور الفطرية التي جبل الانسان عليها، فليس غريبا ابدا ان يحب الانسان وطنه الذي نشأ على ارضه، وشبّ على ثراه، وترعرع بين جنباته. كما انه ليس غريبا ان يشعر الانسان بالحنين الصادق لوطنه عندما يغادره الى مكان آخر، فما ذلك الا دليل على قوة الارتباط وصدق الانتماء.
وحتى يتحقق حب الوطن عند الانسان لا بد من تحقق صدق الانتماء الى الدين اولا، ثم الوطن ثانيا، اذ ان تعاليم ديننا الاسلامي الحنيف تحث الانسان على حب الوطن ؛ ولعل خير دليل على ذلك ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم انه وقف يخاطب مكة المكرمة مودعا لها وهي وطنه الذي اخرج منه، فقد روي عن عبد الله بن عباس (رضي الله عنهما) انه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكة: «ما اطيبك من بلد، واحبّك اليّ، ولولا ان قومي اخرجوني منك ما سكنت غيرك» رواه الترمذي.
ولولا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معلم البشرية يحب وطنه لما قال هذا القول الذي لو ادرك كل انسان مسلم معناه لرأينا حب الوطن يتجلى في اجمل صوره واصدق معانيه، ولاصبح الوطن لفظا تحبه القلوب، وتهواه الافئدة، وتتحرك لذكره المشاعر.
واذا كان الانسان يتأثر بالبيئة التي ولد فيها، ونشأ على ترابها، وعاش من خيراتها؛ فان لهذه البيئة عليه (بمن فيها من الكائنات، وما فيها من المكونات) حقوقا وواجبات كثيرة تتمثل في حقوق الاخوة، وحقوق الجوار، وحقوق القرابة، وغيرها من الحقوق الاخرى التي على الانسان في اي زمان ومكان ان يراعيها وان يؤديها على الوجه المطلوب وفاء وحبا منه لوطنه.
واذا كانت حكمة الله تعالى قد قضت ان يستخلف الانسان في هذه الارض ليعمرها على هدى وبصيرة، وان يستمتع بما فيها من الطيبات والزينة، لاسيما انها مسخرة له بكل ما فيها من خيرات ومعطيات ؛ فان حب الانسان لوطنه، وحرصه على المحافظة عليه واغتنام خيراته ؛ انما هو تحقيق لمعنى الاستخلاف الذي قال فيه سبحانه وتعالى: (هو انشأكم من الارض واستعمركم فيها) ( سورة هود: الآية 61 ).
ويمكن القول: ان دور التربية الاسلامية يتمثل في تنمية الشعور بحب الوطن عند الانسان في ما يلي:
( 1 ) تربية الانسان على استشعار ما للوطن من افضال سابقة ولاحقة عليه ( بعد فضل الله سبحانه وتعالى ) منذ نعومة اظفاره، ومن ثم تربيته على رد الجميل، ومجازاة الاحسان بالاحسان لاسيما ان تعاليم ديننا الاسلامي الحنيف تحث على ذلك وترشد اليه كما في قوله تعالى: { هل جزاء الاحسان إلا الاحسان } ( سورة الرحمن:60 ).
( 2 ) الحرص على مد جسور المحبة والمودة مع ابناء الوطن في اي مكان منه لايجاد جو من التآلف والتآخي والتآزر بين اعضائه الذين يمثلون في مجموعهم جسدا واحدا متماسكا في مواجهة الظروف المختلفة.
( 3 ) غرس حب الانتماء الايجابي للوطن، وتوضيح معنى ذلك الحب، وبيان كيفيته المثلى من خلال مختلف المؤسسات التربوية في المجتمع كالبيت، والمدرسة، والمسجد، والنادي، ومكان العمل، وعبر وسائل الاعلام المختلفة مقروءة او مسموعة او مرئية.
( 4 ) العمل على ان تكون حياة الانسان بخاصة والمجتمع بعامة كريمة على ارض الوطن، ولا يمكن تحقيق ذلك الا عندما يدرك كل فرد فيه ما عليه من الواجبات فيقوم بها خير قيام.
( 5 ) تربية ابناء الوطن على تقدير خيرات الوطن ومعطياته والمحافظة على مرافقه ومكتسباته التي من حق الجميع ان ينعم بها وان يتمتع بحظه منها كاملا غير منقوص.
( 5 ) الاسهام الفاعل والايجابي في كل ما من شأنه خدمة الوطن ورفعته سواء كان ذلك الاسهام قوليا او عمليا او فكريا، وفي اي مجال او ميدان ؛ لان ذلك واجب الجميع ؛ وهو امر يعود عليهم بالنفع والفائدة على المستوى الفردي والاجتماعي.
( 6 ) التصدي لكل امر يترتب عليه الاخلال بأمن وسلامة الوطن، والعمل على رد ذلك بمختلف الوسائل والامكانات الممكنة والمتاحة.
( 7 ) الدفاع عن الوطن عند الحاجة الى ذلك بالقول او العمل.
تعيش دولة الكويت هذه الايام احتفالاتً بعيدها الوطني الحادي والخمسين والذي يوافق يوم الخامس والعشرين من شهر فبراير من كل عام... ومما لاشك فيه انه من حق الشعوب ان تحتفل باليوم الذي نالت فيه استقلالها، واصبحت دولتهم ذات سيادة، فهو يوم تاريخي لاينس ويظل دائماً محفوراً في ذاكرة الوطن وابنائه الذين يجدون الانتماء، والحب والولاء للوطن من خلال الاحتفال بهذا اليوم من كل عام... لكن هل يكفي الاحتفال بالعيد الوطني للتعبير عن هذه المشاعر والاحساسيس التي يجب ان تتخطى هذه المرحلة لتتحول الى افعال صادقة للتأكيد على حب الوطن وتجسيد قيمة المواطنة؟
هذا التساؤل كان الدافع للتعرض لمفهوم «الوطن والمواطنة» وهي قضية اثارت جدلاً واسعاً - ومازالت - خاصة مع ظهور العديد من المشكلات السياسية والاجتماعية والطائفية ذات الصلة بموضوع «الوطن والمواطنة».
هذه المشكلات ادت الى تجاذبات ونقاشات واختلافات متباينة ومتنوعة، ودائماً ما يظهر معها مصطلع «الوحدة الوطنية» لاطفاء فتيل الازمة والقضاء على الفرقة، لكنه دائماً - ايضاً - يكون بمثابة المسكن الذي لا يقضي على سبب الخلاف من جذوره. واحسب انه لو اراد الجميع ان يجنب المجتمع مخاطر الاختلاف اياً كان نوعه... فلابد ان يعي جيداً معنى «الوطن» ومفهوم «الوطنية» متسلحاً بالاخلاص وصدق النية.
ولذلك سنعرض في هذه العجالة لمفهوم «الوطن والمواطنة» من المنظور الشرعي، وبيان كيف تعامل الاسلام مع هذه القضية، التي لم تكن تثير نقاشاً او جدلاً على مدار تاريخ المسلمين في مراحله المختلفة، وان كان الامر اصبح مختلفاً في العصر الحاضر، فقد اصبحت المواطنة احد اهم المشكلات التي لاقت جدلاً واسعاً بعد ان تدخل الغرب في مفاهيم كثيرة للمواطنة، وذلك لاسباب كثيرة ل اسبيل لبيانها الآن.
كما انه لابد من التأكيد على ان الدين الاسلامي هو صاحب السبق في التأكيد على قيمة الوطن واعلاء المواطنة وان المسلم عليه واجبات تجاه وطنه، كما ان للمواطن على وطنه حقوق.
وهنا سنعرض لرؤية مجموعة من العلماء والمفكرين الذين افاضوا في هذه القضية وكتبوا فيها «النظرة الشرعية لمفهوم الوطن والمواطن» للشيخ ناظم المسباح، و«المواطنة في ظل المرجعية الاسلامية» للمفكر الاسلامي الدكتور محمد عمارة، ثم مقتطفات من كتاب «الوطن والمواطنة» للدكتور يوسف القرضاوي... فتابع معنا:
نبدأ بالنظرة الشرعية لمفهوم الوطن والمواطن كما يراها فضيلة الشيخ ناظم المسباح، والذي يعرف الوطن على انه هو المنزِلُ الذي تُقِيمُ فيهِ، وهو منزلُ الانسانِ ومحَلُّهُ، والجمعُ أوطَانٌ، قالَ تعالى: «لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ» (التوبة:25).
قالَ الجُرجانيُّ: الوطنُ الأصليُّ: هوَ مولِدُ الرجلِ والبلدُ الذي هو فيهِ.
وطَنُ الاقامةِ: موضعٌ ينوي انْ يستَقرَّ فيهِ خمسةَ عَشَرَ يوماً أو أكثرَ، مِنْ غيرِ انْ يتخذَهُ مسكناً.
قالَ ابنُ المباركِ: انَّ مَنْ أقامَ في مدينةٍ أربعَ سنينَ فهوَ من أهلِها.
والوطنيّةُ: صفةٌ، وهيَ: العاطفةُ التي تعبِّرُ عنْ ولاءِ المرءِ لبلدِهِ، والمقصودُ هنا انْ يكونَ ولاءُ المرءِ المسلمِ لبلدِهِ مِنْ أجلِ كلمةِ التوحيدِ الطاهرةِ، وشرائعِ الدينِ المطبّقةِ.
مكانةُ مكةَ في قلبِ النبيِّ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ:قالَ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ: «مَا أَطيبكَ مِنْ بلدٍ، ومَا أحبَّكَ اليَّ، ولولا انَّ قومِي أَخرجُوني منكَ مَا سَكنْتُ غيرَكَ» أخرَجهُ الترمذيُّ وغيرُهُ عنِ ابنِ عباسٍ رضيَ اللهُ عنهما.
- دُعَاءُ ابراهيمَ عليه السلام لمكةَ موطنِ ذريَّتِهِ (الدعاءُ للوطنِ: «ربَّنَا اِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي اِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» (ابراهيم: 3).
- مكانةُ المدينةِ في قلبِ النبيِّ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ:قالَ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ: «انَّ اللهَ تعالى سمَّى المدينةَ طَابَةَ» مسلمٌ عن جابرِ بنِ سمَرةَ.
وقالَ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ: «انَّها طَيْبَةُ...» مسلمٌ عنْ زيدِ بنِ ثابتٍ. وفي هذا اشارةٌ لحبِّهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ لها.
عنْ سُهيلِ بنِ أبي صالحٍ، عنْ أبيهِ، عنْ أبي هريرةَ؛ انهُ قالَ: كانَ الناسُ اذا رأَوْا أولَ الثمرِ جاؤُوا بهِ الى النبيِّ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ. فاذا أخَذَهُ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ قالَ: «اللَّهُم! باركْ لنَا في ثَمِرنَا. وباركْ لنَا في مدينَتِنا. وباركْ لنا في صاعِنَا. وباركْ لنَا في مُدِّنَا! اللهمَّ! انَّ ابراهيمَ عبدُكَ وخليلُكَ ونبيُّكَ. وانِّي عبدُكَ ونبيُّكَ. وانهُ دعاكَ لمكةَ. واني أدعوكَ للمدينةِ. بمثلِ مَا دعَاكَ لمكةَ. ومثلُهُ معَهُ» قالَ: ثمَّ يدعُو أصغَرَ وليدٍ لهُ فيُعطيهِ الثمرَ. رواهُ مسلمٌ.
مفارقةُ الأوطانِ بلاءٌ:جعلَهَا اللهُ عقوبةً لقطَّاعِ الطُّرِقِ: «أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ» (المائدة:33).
فراقُ الأوطانِ معادِلٌ لقتلِ النفسِ، قالَ تعالى: «وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ اِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً» (النساء: 66).
جعلَ اللهُ تعالى مِنَ الفيءِ نصيباً للمهاجرينَ؛ لانهم هجَرُوا الوطَنَ مِنْ أجلِ اللهِ، ومِنْ أجلِ نُصرةِ دينِهِ، وهذا أمرٌ يشقُّ على الانسانِ تحملُهُ. ففي الآيةِ أشارَ الى مَا للأوطانِ مِنْ مكانةٍ في نفوسِ أهلِها، قالَ تعالى: «لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ» (الحشر:8).
- مِنْ مُسوِّغاتِ القتالِ في الدينِ، القتالُ مِنْ أجلِ الاخراجِ مِنَ الوطنِ، قالَ تعالى: «أَلَمْ تَرَ اِلَى الْمَلاِ مِن بَنِي اِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى اِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ اِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ اِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ» (البقرة:246)
- قيامُ الدينِ في الوطنِ مقدَّمٌ على كلِّ شيءٍ: اذا لم يستطِعِ المسلمُ انْ يُقيمَ شعائرَ دينِهِ في موطنِهِ، يجبُ عليهِ انْ يُهجَرَهُ الى موطنٍ آخَرَ، يستطيعُ انْ يُقيمَ فيهِ شعائرَ دينِهِ انْ كانَ مستطيعاً. فالرسولُ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ هاجَرَ مِنْ موطنِهِ (مكةَ) وهيَ عزيزةٌ عليهِ الى (المدينةِ) حيثُ يستطيعُ فيها انْ يقيمَ شعائرَ دينِهِ. أوجبَ اللهُ الهجرةَ على كلِّ مستطيعٍ مِنَ المسلمينَ.
قالَ تعالى: «فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ» (آل عمران:195). في هذه الآيةِ الكريمةِ ترغيبٌ في هَجْرِ الأوطانِ التي يَسودُها الشِّركُ والظلمُ ومحاربةُ الدِّينِ وأهلِهِ.
حكمُ مقولةِ: الكُويتُ وبَسْ!
الوطَنُ في الاسلامِ، هوَ العالَمُ الاسلاميُّ بأراضيهِ المُترامِيةِ، وتضاريسِهِ الممتَدَّةِ مهما كَبُرَ وتوسَّعَ، فلا يجوزُ الانقطاعُ عنِ الموطِنِ الاسلاميِّ الكبيرِ، والتَّقْوقُعُ على الوطنِ الصغيرِ الذي يعيشُ فيهِ الانسانُ. ولا يجوزُ انْ نجعلَ المواطَنَةَ بديلاً لرابطَتِنا العَقَدَيِّةِ معَ المسلمينَ عَرَباً وعَجَماً في انحاءِ العالَمِ الاسلاميِّ. ولا يجوزُ اقصاءُ المصطلحاتِ الاسلاميةِ نحوَ الجهادِ دارِ الاسلامِ دارِ الكُفرِ... وتَمييعُ الدينِ وشرائِعِهِ بهذا المفهومِ للوطنيةِ.
أداءُ العمَلِ الذي وُكلَ الى الفردِ مِنْ قِبَلِ الدولةِ باتقانٍ واخلاصٍ، قالَ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ: «انَّ اللهَ يُحبُّ اذا عَمِلَ أحدُكُم عملاً انْ يتقِنَهُ». أخرجَهُ البيهقيُّ عنْ عائشةَ رضيَ اللهُ عنها.
- واجبنا تجاه الوطن:
• الحرصُ على أمنِهِ، فكلُّ واحدٍ منَّا راعٍ، قالَ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ: «كُلُّكُم راعٍ، وكُلكُم مَسؤولٌ عنْ رعيَّتِهِ...»
• المحافظةُ على الممتلكاتِ العامةِ للوطَنِ.
• النصحُ لأهلِهِ، قالَ صلى اللهُ عليهِ وسلمُ: «الدِّينُ النصيحةُ...»
• العملُ على رُقيِّهِ وتقدُّمِهِ.
المواطنة تفاعل
وتحت عنوان المواطنة في ظل المرجعية الاسلامية، يتساءل المفكر الاسلامي الكبير الدكتور محمد عمارة:
هل المواطنة لا بد ان تكون علمانية؟! وهل تحقُّقُها يستلزم التخلي عن المرجعية الاسلامية في القانون والتشريع؟
ويجيب: ان المواطنة مفاعلة -أي تفاعل- بين الانسان المواطن والوطن الذي ينتمي اليه ويعيش فيه، وهي علاقة تفاعل؛ لانها ترتِّب للطرفين وعليهما العديد من الحقوق والواجبات؛ فلا بدَّ لقيام المواطنة ان يكون انتماء المواطن وولاؤه كاملين للوطن، يحترم هويته ويؤمنُ بها وينتمي اليها ويدافع عنها بكل ما في عناصر هذه الهويَّة من ثوابت اللغة والتاريخ والقِيَم والآداب العامَّة، والأرض التي تمثِّل وعاءَ الهوية والمواطنين، وولاء المواطن لوطنه يستلزم البراء من أعداء هذا الوطن طالما استمرَّ هذا العداء. وكما ان للوطن هذه الحقوق -التي هي واجبات وفرائض- على المواطن، فان لهذا المواطن على وطنه ومجتمعه وشعبه وأمته حقوقًا كذلك، من أهمها المساواة في تكافؤ الفرص، وانتفاء التمييز في الحقوق السياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة بسبب اللون أو الطبقة أو الاعتقاد، مع تحقيق التكافل الاجتماعي الذي يجعلُ الأمَّة جسدًا واحدًا، والشعب كيانًا مترابطًا، اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر أعضاء الجسد الواحد بالتكافل والتضامن والتساند والانقاذ.
واذا كان التطور الحضاري الغربي لم يعرف المواطنة وحقوقها الا بعد الثورة الفرنسيَّة في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي؛ بسبب التمييز على أساس الدين بين الكاثوليك والبروتستانت، وعلى أساس العِرْق بسبب الحروب القوميَّة، وعلى أساس الجنس بسبب التمييز ضد النساء، وعلى أساس اللون في التمييز ضد الملوَّنين؛ فان المواطنة الكاملة والمساواة في الحقوق والواجبات قد اقترنتْ بظهور الاسلام، وتأسيس الدولة الاسلامية الأولى في المدينة المنورة سنة واحد هجرية (622م) على عهد رسول الله وتحت قيادتِه.
فالانسان - في الرؤية الاسلاميَّة - هو مطلق الانسان، والتكريم الالهي هو لجميع بني آدم «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ» (الاسراء: 70). والخطاب القرآني موجَّه أساسًا الى عموم الناس، ومعايير التفاضل بين الناس هي التقوى المفتوحة أبوابها أمام الجميع «اِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ» (الحجرات: 13). بل قد جعل الاسلام الآخر الديني جزءًا من الذات، وذلك عندما أعلنَ ان دين الله على امتداد تاريخ النبوات والرسالات هو دين واحد، وان التنوُّع في الشرائع الدينيَّة بين أمم الرسالات انما هو تنوُّع في اطار وحدةِ هذا الدين «لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً» (المائدة: 48).
ولقد وضعت الدولة الاسلاميَّة فلسفة المواطنة هذه في الممارسة والتطبيق، وقننتها في المواثيق والعهود الدستوريَّة منذ اللحظة الأولى لقيام هذه الدولة في السنة الأولى للهجرة؛ ففي أوَّل دستور لهذه الدولة تأسَّست الأمَّة على التعدديَّة الدينية، وعلى المساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين المتعدِّدين في الدين والمتحدين في الأمَّة والمواطنة، فنصُّ هذا الدستور - صحيفة دولة المدينة - على ان اليهود أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، وان لهم النصر والأسوة مع البر من أهل هذه الصحيفة، ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين... على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وان بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وان بينهم النصح والنصيحة والبرّ دون الاثم. هكذا تأسست المواطنة في ظلِّ المرجعية الاسلامية منذ اللحظة الأولى.
الحقوق والواجبات وفي كتابه «الوطن والمواطنة» يقول الشيخ يوسف القرضاوي:
يُقصد بالمواطنة تساوي أفراد المجتمع في الحقوق والواجبات، وهو ما يعني ان كافة أبناء الوطن الواحد سواسية من دون تمييز على أساس الدين أو الجنس أو اللون أو الموقف الفكري أو الوضع الطبقي.
وترتكز المواطنة على قيم محورية هي: المساواة، والحرية، والحق في المشاركة في ادارة المجتمع والمسؤولية الاجتماعية.
ويقترب الشيخ يوسف القرضاوي من فكرة المواطنة عبر تحريره لمضمون مصطلح (الوطن)، مشيرا الى قوله تعالى: « قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ اِلَى حِينٍ» (الأعراف: 24) ليدلل على ان الأرض كلها في أول الأمر كانت وطنا لآدم وأولاده، من دون تزاحم أو تنافس أو اختصاص بمكان دون آخر «فلما كثرت ذرية آدم وانتشرت، بدأ الناس يتجمعون في أماكن بحكم الطبيعة الاجتماعية للبشر».
ويرى ان فكرة «الوطن والوطنية» تقوم على حاجة الانسان الى المكان وارتباطه به: «فكل كائن حي محتاج الى مكان أو مأوى يلوذ به، فالوحوش لها جحورها، والطير لها أعشاشها، وقد نرى الطيور والأسماك ونحوها تسير المسافات الشاسعة، وقد تخترق البحار والمحيطات ثم تعود الى أماكنها الأولى، أي الى أوطانها، لا تضل طريقها اليها، بحاسة الهداية العامة التي منحها الله لكل مخلوقاته.. قال تعالى: «قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى» ( طه:50).
ويشير الى انه من حق الشعوب - وفق كتاب الله - بل من واجبها ان تقاتل وتحمل السلاح لتسترد أرضها وديارها اذا أخرجت منها، يقول تعالى: (ألَمْ تَرَ اِلَى الْمَلأ مِن بَنِي اِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى اِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ اِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا) (البقرة: 246)
من هو المواطن؟
اذا كانت هذه هي مكانة الوطن في الاسلام، فان السؤال الذي يفرض نفسه: من هو المواطن في المجتمع المسلم، وهل لأهل البلاد من غير المسلمين مكانة معتبرة في التصور الاسلامي للآخر الديني؟ وهنا يؤكد القرضاوي ان النبي صلى الله عليه وسلم قد اعترف بـ«المواطنة» بين سكان المدينة من مسلمين مهاجرين وانصار، من أوس وخزرج، ومن اليهود على اختلاف قبائلهم، معتبرا ان هذه المواطنة (العيش في وطن واحد هو المدينة) هو أساس التعاقد والتعامل بين الجميع.
مشيرا الى وثيقة المدينة التي مثلت دستور الدولة بالمدينة والتي تقضي بانه من تبع المسلمين من يهود فان له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم، وان يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، وبني جشم وبني الأوس وبني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف. وتنظم الوثيقة حياة أهل المدينة من دون تفريق بينهم، لا في الحقوق ولا في الواجبات، وهو ما يلفت اليه المؤلف في تحليله للمادة 25 من الوثيقة التي تنص على ان «يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم». الأمة بهذا المعنى لا تقتصر على سكانها المسلمين، بل هي أمتان دينيتان في أمة سياسية واحدة، وأوضح المواد هنا تعبيرا عن المدلول السياسي للأمة وتمييزه عن المدلول الاعتقادي هي المادة 25 التي تنص على ان «يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم» ثم مد النص هذا الحكم ليشمل قبائل اليهود الأخرى و«بطانتهم» (أي أحلافهم من غيرهم) في احدى عشرة مادة متتالية فكل من المسلمين واليهود أمة دينية بمقتضى هذا النص، والأمتان تشكلان معا أمة سياسية واحدة.
معنى الأمة:
ويتوقف الشيخ أمام المعاني الاعتقادية والاجتماعية والجغرافية للأمة الاسلامية في وثيقة المدينة ليخلص الى النتيجة ذاتها قبل ان ينتقل الى طرف من تطبيقاتها الفقهية في مدونة الفقه الاسلامي وذلك في ما ينقله العلامة ابن عابدين عن أئمة الفقه الحنفي حيث يقررون: «ان الجهاد فرض عين ان هجم العدو على بلد مسلم، وذلك على من يقرب على العدو أولا، فان عجزوا أو تكاسلوا فعلى من يليهم ثم من يليهم حتى يفترض على هذا التدريج على المسلمين شرقا وغربا، وهذا متفق عليه بين الأمة جميعا».
ويرى ان المسلمين في غنى عن استيراد مفهوم المواطنة من سوق الفكر الغربي لان فقهاء المذاهب المختلفة جميعا بحسبه قرروا ان غير المسلمين في المجتمع الاسلامي، وهم الذين يعبر عنهم في الاصطلاح الفقهي بـ«أهل الذمة» يعدون من أهل دار الاسلام، وان لم يكونوا من أهل الملة، مضيفا ان كلمة «أهل الدار» هذه تمثل مفتاحا للمشكلة ؛ لان معنى انهم أهل الدار انهم ليسوا غرباء ولا أجانب، لان حقيقة معناها: انهم أهل الوطن، واذا ثبت انهم أهل الوطن، فهم مواطنون كغيرهم من شركائهم من المسلمين وبهذا تحل هذه الاشكالية من داخل الفقه الاسلامي.
التربية الإسلامية وحب الوطن
للاسلام دور كبير في تنمية المواطنة والدفاع عن الوطن، تظهر ملامح هذا الدور جلية في علاقة التربية الاسلامية وحب الوطن، وفي هذا السياق يقول الدكتور صالح بن علي ابو عراد، استاذ التربية الاسلامي في جامعة ابها بالمملكة العربية السعودية:
تنطلق التربية الاسلامية في تعاملها مع النفس البشرية من منطلق الحب الايماني السامي ؛ الذي يملا جوانب النفس البشرية بكل معاني الانتماء الصادق، والولاء الخالص. ولاشك ان حب الوطن من الامور الفطرية التي جبل الانسان عليها، فليس غريبا ابدا ان يحب الانسان وطنه الذي نشأ على ارضه، وشبّ على ثراه، وترعرع بين جنباته. كما انه ليس غريبا ان يشعر الانسان بالحنين الصادق لوطنه عندما يغادره الى مكان آخر، فما ذلك الا دليل على قوة الارتباط وصدق الانتماء.
وحتى يتحقق حب الوطن عند الانسان لا بد من تحقق صدق الانتماء الى الدين اولا، ثم الوطن ثانيا، اذ ان تعاليم ديننا الاسلامي الحنيف تحث الانسان على حب الوطن ؛ ولعل خير دليل على ذلك ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم انه وقف يخاطب مكة المكرمة مودعا لها وهي وطنه الذي اخرج منه، فقد روي عن عبد الله بن عباس (رضي الله عنهما) انه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكة: «ما اطيبك من بلد، واحبّك اليّ، ولولا ان قومي اخرجوني منك ما سكنت غيرك» رواه الترمذي.
ولولا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معلم البشرية يحب وطنه لما قال هذا القول الذي لو ادرك كل انسان مسلم معناه لرأينا حب الوطن يتجلى في اجمل صوره واصدق معانيه، ولاصبح الوطن لفظا تحبه القلوب، وتهواه الافئدة، وتتحرك لذكره المشاعر.
واذا كان الانسان يتأثر بالبيئة التي ولد فيها، ونشأ على ترابها، وعاش من خيراتها؛ فان لهذه البيئة عليه (بمن فيها من الكائنات، وما فيها من المكونات) حقوقا وواجبات كثيرة تتمثل في حقوق الاخوة، وحقوق الجوار، وحقوق القرابة، وغيرها من الحقوق الاخرى التي على الانسان في اي زمان ومكان ان يراعيها وان يؤديها على الوجه المطلوب وفاء وحبا منه لوطنه.
واذا كانت حكمة الله تعالى قد قضت ان يستخلف الانسان في هذه الارض ليعمرها على هدى وبصيرة، وان يستمتع بما فيها من الطيبات والزينة، لاسيما انها مسخرة له بكل ما فيها من خيرات ومعطيات ؛ فان حب الانسان لوطنه، وحرصه على المحافظة عليه واغتنام خيراته ؛ انما هو تحقيق لمعنى الاستخلاف الذي قال فيه سبحانه وتعالى: (هو انشأكم من الارض واستعمركم فيها) ( سورة هود: الآية 61 ).
ويمكن القول: ان دور التربية الاسلامية يتمثل في تنمية الشعور بحب الوطن عند الانسان في ما يلي:
( 1 ) تربية الانسان على استشعار ما للوطن من افضال سابقة ولاحقة عليه ( بعد فضل الله سبحانه وتعالى ) منذ نعومة اظفاره، ومن ثم تربيته على رد الجميل، ومجازاة الاحسان بالاحسان لاسيما ان تعاليم ديننا الاسلامي الحنيف تحث على ذلك وترشد اليه كما في قوله تعالى: { هل جزاء الاحسان إلا الاحسان } ( سورة الرحمن:60 ).
( 2 ) الحرص على مد جسور المحبة والمودة مع ابناء الوطن في اي مكان منه لايجاد جو من التآلف والتآخي والتآزر بين اعضائه الذين يمثلون في مجموعهم جسدا واحدا متماسكا في مواجهة الظروف المختلفة.
( 3 ) غرس حب الانتماء الايجابي للوطن، وتوضيح معنى ذلك الحب، وبيان كيفيته المثلى من خلال مختلف المؤسسات التربوية في المجتمع كالبيت، والمدرسة، والمسجد، والنادي، ومكان العمل، وعبر وسائل الاعلام المختلفة مقروءة او مسموعة او مرئية.
( 4 ) العمل على ان تكون حياة الانسان بخاصة والمجتمع بعامة كريمة على ارض الوطن، ولا يمكن تحقيق ذلك الا عندما يدرك كل فرد فيه ما عليه من الواجبات فيقوم بها خير قيام.
( 5 ) تربية ابناء الوطن على تقدير خيرات الوطن ومعطياته والمحافظة على مرافقه ومكتسباته التي من حق الجميع ان ينعم بها وان يتمتع بحظه منها كاملا غير منقوص.
( 5 ) الاسهام الفاعل والايجابي في كل ما من شأنه خدمة الوطن ورفعته سواء كان ذلك الاسهام قوليا او عمليا او فكريا، وفي اي مجال او ميدان ؛ لان ذلك واجب الجميع ؛ وهو امر يعود عليهم بالنفع والفائدة على المستوى الفردي والاجتماعي.
( 6 ) التصدي لكل امر يترتب عليه الاخلال بأمن وسلامة الوطن، والعمل على رد ذلك بمختلف الوسائل والامكانات الممكنة والمتاحة.
( 7 ) الدفاع عن الوطن عند الحاجة الى ذلك بالقول او العمل.