ضوء / منير مزيد... أنجز أول انطولوجيا للشعر العربي المعاصر بثلاث لغات
يقام اليوم 24 مارس... حفل توقيع أول انطولوجيا للشعر العربي المعاصر، في قاعة وزارة الثقافة الرومانية في العاصمة بوخارست، والتي أعدها وترجمها الشاعر والروائي والمترجم العربي منير مزيد بالتعاون مع الباحث والشاعر الروماني ماريوس كيلارو، والبروفيسور العراقي عبدالستار الأسدي، وصدرت بثلاث لغات: العربية (لغة القصائد الاصل)، والرومانية، والانكليزية واشتملت الأنطولوجيا على186 قصيدة لـ 136 شاعر وشاعرة عرب من اجيال متعددة، اختلفت مشاربهم الثقافية وبيئاتهم الاجتماعية وبطاقاتهم السياسية كاختلاف تجاربهم الشعرية وشعراء هذه الانطولوجيا كما قال منير مزيد لـ «الراي» تحمل عقولهم التقديس لمفاهيمنا العربية وخطانا التاريخية وحضاراتنا الباسقة، مسلحين بأدواتهم الواعية في قضية مصير انساننا العربي، يبحثون عن طريق تحفه الليالي المضيئة والنهارات المشمسة والساعات الغدية بروائح السعادة والمحبة، ذاكرين مواضيهم الحانية بانتصاراتها، هم الشعراء الذين يرسمون على ريش الصقر حكايات النعمان بن المنذر، ناحتين على جلود الغزلان فروسياتهم، يبسملون الايام بآيات رسولهم، يشهقون لعرس بطولاتهم، يسهرون تحت شبابيك أقمارهم، ينسجون قبعات أطفالهم من براءة سنابلهم، يعلنون الفرح قائداً لهم حين يشع الفجر مع الندى المتلالئ على وجوه خطواتهم في سيرهم وترحالهم، هم أبناء هذا الكوكب، أينما حلوا واستقروا، روح الانسان تسكنهم وحب المودة شرعهم، لا يعرفون سياسة غير النهوض بالامل والسعي وراء الخير من أجل جنين يولد والبسمة تشرق على محياه، ورغبة تنغرس في قلب ربيع صباه، لا يسعون وراء إرث أو جاه مكبل بالضحايا، أوسلطان لا خلاص فيه من ذنوب العباد، يتغذون على الكلمة، ومنها يملكون عالمهم، يجلسون على كراسي الاثر الطيب ويدخنون عطور مشاعرهم من عبير الحب، ناسين ومتذكرين، أن العالم لن يدوم لأحد غير خالقه، والجميع مسبح بحمده.
ومنير مزيد ليس فقط من أهم الأصوات الشعرية حاليا في الوطن العربي، بل لا نبالغ اذا قلنا في العالم وخاصة وانه اصدر 8 مجموعات شعرية باللغة الإنكليزية وترجمت إلى الرومانية والاسبانية والفرنسية والبولندية بالاضافة إلى العربية، وتتميز تجربة الشاعر بثرائها وغناها، فهو لا يعتمد آلية محددة فى كل قصائده أو سياقاً وزنياً إذ تشكل الرؤية الخيط البارز فى قصائده، وتتعدد الأماكن والأشياء فى منجز الشاعر حسب الرؤية التى يشتبك معها أو يسرى إليها فى كل قصيدة ويعزف ابداعاته على وقع الحزن والألم، ولحن النشوة والفرح، وطعم الحب والشجن، وصفاء الروح، ونقاء المشاعر، مستنهضا بها دقائق الخلق وتفاصيل الوجود. ودائما ما يبدأ رحلته المريرة من مرتع «بذرة الخلق»، ليحلق دون توقف، عابرا آخر النهايات إلى ما وراء الوجود، والكواكب، والكون. ولكن الشاعر ينزل بنا من بروجه في أعالي السماء، ليضعنا على أرض الواقع الحالم حينا، الغاضب حينا آخر، الملتهب أحيانا.
ويقول منير مزيد عن الشعر: «انه عالمٌ مختلف تماماً عن عالمنا المرئي، لانه عالم مليء بالسحر والجمال والطقوس والخرافة بعيداً ومتجرداً تماماً من المادة ، فالشعر ليس هدفه الشروح العملية ، فهوأشبه بحالة صوفية تتأرجح بين التأمل والحلم... الشعر ليس ركام الضباب والظلام على بقايا الخراب واليباس في الروح والمادة، يفرّخ في عشه البوم وينتشر منه جناح الغراب، ولا هو العبارة السقيمة والاستهانة العقيمة بقيم الناس ومقومات اللغة وأصول الفن الشعري الذي يحمل سمات الأمم... إنه نداء الحياة يستجيب له الإنسان».
فلسطيني من قرية طلوزة
ويقول منير مزيد عن نفسه في البداية: «أنا فلسطيني، من قرية تدعى طلوزة في مدينة نابلس. أذكر حين كنت طفلا، كان يجتمع مجموعة من الشباب ويتحدثون عن فلسطين، ويستمعون إلى خطابات جمال عبد الناصر.كنت أجلس وأستمع إلى تلك الخطابات وإلى حوار الشباب حول تلك الخطابات ، حتى خيل لي أن جمال عبد الناصر المنقذ الأكبر . مع كل الأحداث المأسوية التي كانت تجري في الشرق الأوسط ، كان جمال عبد الناصر حاضرا دوما في ذاكرتي، وكبرت على خطابات جمال عبد الناصر وصوت المطرب عبد الحليم حافظ. ولغاية الآن ما زال عبد الحليم حافظ، ليس فقط مطربي المفضل، ولكن أيضا مصدر الهام ووحي، حين أستمع إلية يتملكني إحساس خفي يدفعني إلى الكتابة. لهذا حين يأتيني وحي الشعر، يكون عبد الحليم حافظ حاضرا. لهذا السبب كتبت قصيدتين، قصيدة اسمها جمال عبد الناصر وقد تناولها ويل دونفان في الاطروحة التي قدمها لجامعة جورج واشنطن وعنوان الأطروحة الهوية العربية الحديثة ،كما يراها الشعر. اما القصيدة الثانية تحمل أسم عبد الحليم حافظ. أما لاحقا، فقد أثر في حياتي العديد من الشعراء ابو العلاء المعري، هوميروس، دانتي، طاغور، وليم بليك ، وبوشكين...».
ومنير مزيد درس في انكلترا والولايات المتحدة الأميركية كتب في مجال الشعر والرواية والقصة القصيرة باللغة الانكليزية والعربية، وكذلك العديد من المقالات الادبية وقد ترجمت العديد من أعماله الابداعية الى لغات عالمية متعددة وشارك في العديد من المهرجانات الثقافية العالمية... ورفض مفاهيم تسييس الثقافة معتبرا انها الخطر الاكبر الذي يهدد الثقافة العربية بالفناء وقد حارب مفاهيم الشللية والمحسوبية في العمل الثقافي في الاردن، مما اغضب المؤسسات الثقافية والاعلامية في الاردن حيث سارعت تلك المؤسسات بمقاطعة اعماله الابداعية مما دفع بمنير مزيد الى التفكير بالهجرة وقد اختار رومانيا، التي رحبت المؤسسات الثقافية والاعلامية به وقدمت له الدعم والرعاية وبدأت بوضع برامج لطباعة جميع اعماله الابداعية وبترجمتها ونشرها.
وعن واقع الترجمة في العالم العربي من العربية إلى غيرها أو العكس، اكد مزيد بان منذ العصر العباسي وحتى اليوم لم يترجم العرب ما تترجمه إسبانيا خلال سنة واحدة، ومن هنا يمكن استشراف ما تعانيه معرفتنا بالآخر ومعرفة الآخر بنا. كان العرب وعلى مر العصور رواد الترجمة خصوصاً إبان عهد الخليفة المأمون حين انشأ «بيت الحكمة» في بغداد عام 800م الذي أولاه عناية فائقة، ووهبه كثيرا من ماله ووقته، وكان يشرف على بيت الحكمة ، ويُختار من بين العلماء المتمكنين من اللغات. وقد استقدم المامون من قبرص خزانة كتب الروم. وبذلك كان بيت الحكمة خزانة كتب، ومركز ترجمة، والتاليف و مركز للابحاث ورصد النجوم، ومن اهم ما ميز بيت الحكمة هو تعدد المصادر وهي الكتب القديمة و التراجم والكتب التي الفت للخلفاء والكتب التي نسخت من ما جعلها مجمعا علميا وظل بيت الحكمة قائما حتى اجتاح المغول بغداد سنة (656هـ - 1258م)، حيث تم تدمير معظم محتويات بيت الحكمة في ذلك الوقت. ومن ثم «دار الحكمة» وهي جامعة أسسها الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله عام 1004 ميلادية 395 هجرية في مصر، وتذكر المصادر أنها حوت 1.600.000 مجلد ضمّت (6500) مخطوطة في الرياضيات و(18.000) مخطوطة في الفلسفة وكان الدخول إليها والاستنساخ والترجمة مجاناً، إلا أن واقع الترجمة ظلت وعلى مدى العقود القليلة الماضية بعيدة عن أنظار ورعاية الدول والمؤسسات العربية، اللهم إلا بما ندر مما جعل جودة الترجمة تهبط إلى مستوى سيئ جداً. فالترجمة ركن أساسي في خدمة تنمية أي مجتمع ومفتاح لحوار الحضارات وجسور لتبادل المعرفة والثقافات، فهل أولتها الدول العربية اهتمامها اللازم عوضاً عن اتهام الغرب أنه عديم الاكتراث بثقافتنا؟
واضاف طبعا، هناك تزايد بشكل رهيب واهتمام الغرب بالترجمة للخطاب السياسي والإعلامي، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، اما في ما يتعلق بالثقافة والادب فهي من ضمن مسؤوليتنا كعرب ومسلمين وللاسف لا يفي بالغرض المطلوب.
واوضح مزيد صفات المترجم الجيد فقال يجب ان يتمتع بالرؤية الواسعة من خلال القراءة شاملةُ مِنْ الترجماتِ المختلفةِ للأنواعِ المختلفةِ للنصوصِ، بخاصة وأن الترجمة تتطلب معرفةً نشيطةً، وتطوير المهارات، والمترجم الجيد هو الشخص الذي عِنْدَهُ معرفة شاملة لكلا المصدر ولغات الهدف ويجمع ما بين العلم والثقافة والأمانة فهو بمثابة رسول بين حضارتين بكل ما يجب ان يتحلى به من صفات ومهارات وعلوم ومواهب... ومن هذا المنطلق لا يجوز ان نضع كل من اجاد لغة معينة في قائمة المترجمين.على سبيل المثال، أنا اتقن اللغة الإنكليزية ، وليس هذا فقط، بل اكتب بها في مجال الشعر والقصة والرواية والمقالة الا انني لا استطيع ترجمة مادة علمية فالترجمة تحتاج إلى شخص يمتلك المعرفة الكافية في المجال الذي يريد ترجمته.
ترجمة الشعر هي الأصعب
وقال: «تعتبر ترجمة الشعر من أصعب الترجمات من حيث نقل الفكرة والصورة الشعرية وغيرها، كيف تجد ذلك بالنسبة لككما اشرت سابقاً الترجمة تحتاج إلى شخص يمتلك المعرفة الكافية في المجال الذي يريد ترجمته... وأنا لي 8 مجموعات شعرية باللغة الإنكليزية و3 روايات والعديد من المقالات والابحاث المتعلقة بالادب، كلها كتبت بالإنكليزية بهذا يصبح ترجمة الشعر بالنسبة لي ليس بتلك الصعوبة التي قد تواجه مترجم آخر... ربما أنا لست الشاعر العربي الوحيد الذي يكتب بالإنكليزية ولكن الأكثر انتاجا وشهرة واشعاري ترجمت إلى الفرنسية والرومانية والاسبانية والالبانية والفارسية ولغات عديدة آخرى من اللغة الإنكليزية وليست من العربية... أنا من جديد بدأت بترجمة قصائدي إلى العربية».
وبين مزيد ان الشعر العربي ومراحل تطورة أغنى من التقيم فهذا الامر يحتاج إلى دراسات مستفيضة وابحاث طويلة لكل حقبة زمنية. وبخاصة إن تاريخ الشعر العربي له جذور تمتد إلى الآف السنين، ناهيك حافظ خلال الحقبات الزمنية المتلاحقة على ألقه وتوهجهه وحضورة الدائم بالرغم من الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي شهدتها المنطقه العربية، فلا يمكن عزل الشعر عن تلك الظروف لان الشعر أولا وأخيرا يمثل أحلام وتطلعات الشعوب بالاضافة إلى وعي وفلسفة تلك الشعوب، فالشعر نبضها وذاكرتها أما إذا أردنا الحديث عن وضع الشعر العربي المعاصر، فهناك الكثير للحديث عنه بدا بشعراء المهجر ومروراً برابطة شعراء ابولو في مصر وتأثير القضية الفلسطينية، وحين تناول تلك المرحلة تبرز دائما الاوضاع السياسية على السطح حتى اصبح الشعر العربي مرتبطا بالسياسة والعوامل السياسة. مما أفرز خطباء سياسيين. باسم الشعر وعلى الرغم من ما عرف بزمن المد القومي العربي الا إن هذه المرحلة وأدت أسماء شعرية قبل نضوجها وبنفس الوقت اوجدت ظاهرة خطيرة تسييس الثقافة وهو الاخطرالأكبر والحقيقي على اي ثقافة انسانية وتهددها بالفناء... لهذا وقفت ضد هذه الظاهرة وقد حاربت مفاهيم الشللية والمحسوبية في العمل الثقافي في الاردن مما اغضب المؤسسات الثقافية والاعلامية هناك حيث سارعت تلك المؤسسات بمقاطعتي تحت مسميات التطبيع أو نشر ثقافة غربية. في عصر مجموعات المصالح «المافيا» الثقافية و الشللية تصبح تهمة التخوين و العمالة أو التكفير جاهزة لرفعها ضد أي مبدع لا يخدم مصالح تلك المجموعات وحين أحسست بعدم جدوى بقائي في هذا الوضع الملوث اتخذت أصعب قرار في حياتي وهو العودة إلى الهجرة مرة أخرى وترك الساحة الثقافية لهم يمارسون عهرهم... ولكن يوم بعد يوم اكتشفت بأن قرار الهجرة كان أفضل قرار... وكان اختياري لـرومانيا قراراً صائباً.
شرعية قصيدة النثر
وعن شرعية أو عدم شرعية قصيدة النثر، في البداية، يشدد منير مزيد قائلا «علينا أولاً فهم ودراسة دورة الحياة المتغيرة وتطورها، فلو عدنا إلى الوراء، وبدأنا بالاطلاع ودراسة تاريخ الأدب والفن، لوجدنا بأن العديد من المبدعين في العالم لم تحظ أعمالهم الإبداعية، سواء الفنية أو الأدبية بالتقدير والمكانة المستحقة في الزمن الذي تم فيه إنتاج تلك الأعمال الإبداعية، وإنما حظيت بالتقدير والمكانة بعد سنوات عديدة خلت فالإبداع الحقيقي دوما يثير جدلا قويا في البداية، وقد يحتاج إلى سنوات أو ربما إلى قرون، تبعا لتطور وعي الشعوب، وتطور مفاهيم النقد»،
واضاف مزيد لأن الإبداع يسبق الفكر الإنساني السائد. لقد نوه أرسطو إلى هذا الأمر في كتابه، فن الشعر، والذي يعد من أهم الكتب النقدية والدراسات الأدبية في العالم ويبين فيه أنه لم يكن في زمنه اصطلاح جامع تنطوي تحته جميع الأنواع التي تتخذ أداة المحاكاة سواء في النثر أو النظم، والاستعمال الحديث لهذا المصطلح هو كلمة «أدب» ومن الواضح تماماً أن الوزن وحده ليس كافياً لتمييز الشعر، إذ ثمة رسائل في الطب وفي الفلسفة الطبيعية كتبت شعراً (وهذه الطريقة كانت الأكثر شيوعاً عند قدماء الإغريق من الوقت الحاضر)، حتى يسهل حفظها وبالتالي يسهل تذكرها لأن عصر الطباعة والكتب لم يدخلا بعد...). «ليس لدينا اسم تنضوي تحته مجونيات صوفرون واكزينار خوس ومحاورات سقراط أو القصائد الإليجية الخماسية والإليجية الرثائية أو بحور أخرى يؤدي بها فن الملحمة بطريقة المحاكاة، حقاً جرت عادة الناس فيما يتعلق بالشعر أوفيما يختص بالبحر، على أن يسموا البعض بالشعراء الإليجيين أي الذين ينظمون قصائدهم على البحر الإليجي ويسمون آخرين بالشعراء السداسيين ، أي الذين ينظمون شعراً سداسي التفاعيل، وبذلك تمايز الشعراء في عرف الناس ليس وفقاً لطبيعة المحاكاة في أشعارهم ولكن على قاعدة الوزن وحده، حتى الذين ينظمون رسائلهم في الطب وفي الفلسفة الطبيعية يسمون شعراء، ومع ذلك فليس بين هوميروس وامبذوقليس من شركة إلا في الوزن. والأول جدير باسم الشاعر والثاني جدير بأن يسمى طبيعياً لا شاعراً»، وكان هوميروس لدى ارسطو شاعراً فحلاً لا لأنه اضطلع في فخامة الديباجة الشعرية فحسب بل لأنه جعل محاكاته في شعره ذات طابع درامي».
واردف مزيد من هذا الفهم أرى أن المستقبل لقصيدة النثر وقد بدأت بالفعل تأخذ مكانتها في العالم العربي وبدأت تفرض وجودها على خارطة الإبداع، أما الذين يرون غير ذلك، فهم مجموعة من العجزة، غير قادرين على فهم دورة الحياة المتغيرة، وبالتالي، كلما زاد الجدل حول قصيدة النثر، ازدادت أهميتها، وهذا لا يعني أن نتوقف عن كتابة القصيدة العمودية أو قصيدة ألتفعيلة، لأن ألتنوع مطلوب. فالشاعر العربي نزار قباني يقول: «قد أصل في خطابي الشعري إلى مستوى الكلام العادي وقد اتهم بالنثرية حيناً وبالتقريرية حيناً آخر... ولكني لا أغضب مما يقال لأنني اعتقد أن الجدار الفاصل بين الشعر والنثر سوف ينهار عما قريب كما انهار جدار برلين». فهذه رؤية شاعر كبير يقرأ الحاضر ويرى المستقبل، لأنه يدرك ويستوعب فهم الحياة المتغيرة وتطورها.
ونوه مزيد بان هناك قضايا عالمية ألهبت خيال الإنسان منذ بدء التاريخ الواعي للبشرية حتى عصرنا الحاضر، وتلك القضايا كانت الشغل الشاغل للبشرية طوال تاريخها وهي ـ الموت والروح والرؤى والأحلام والحب. لم يلهب خيال الإنسان شيء كما ألهبته فكرة الموت، ولم يثر عقله من أفكار كفكرة انعدام العقل ذاته. فما الذي ستكون عليه الحال عندما يمضي إلى النوم ولا يفيق أبدا؟! وقد ناقشت الفلسفات الإنسانية والديانات القديمة والتوحيدية اشكالية الموت واعتبرته مشكلة من عدة نواح ويبدو أن إشكالية الموت هي أكثر تعقيدا وغموضا من اشكالية أي قضية انسانية أخرى، فقد تناولت الفلسفات والديانات مفاهيم الموت، وماهيته وعلاقته بالحرية والمسؤولية وفي إطار ذلك علاقة الذاتي بالموضوعي والأنا الفردية بالأنا الكلية وصولا للمعرفة الإنسانية وكل ذلك في إطار فلسفة الحياة والموت وتأثيرها على النواميس والعلاقات الإقتصادية والاجتماعية والإنسانية في المجتمع.
الإنسان منذ البداية ذاتها محتضر
فبينما أن الوجود الإنساني هو كائن فإنه يبقى بالفعل ممثلا لما لم يكتمل بعد (أي يمثل نهايته هو ذاته) والنهاية برأي هدغر لا تعني الوصول إلى العدم الوجودي، وإنما إلى الوجود نحو النهاية، فالموت هو وجودي يحمله الوجود على كاهله بمجرد كينونته. يقول هدغر: «لقد وصلنا إلى الاكتشاف المربك القائل بأن الإنسان منذ البداية ذاتها محتضر، وهذه المعرفة تسود وتخصب فلسفتنا بأسرها.فالموت... يُعرف على نحو حدسي... فالموت أمر قبلي، خلقت الحياة وخلق الضد معها... يقول ماكس شلر: «حيث ان الموت ليس احتضارا عرضيا بدرجة أو باخرى يدركه هذا الفرد أو ذاك وإنما هو جزء لا يتجزأ من الحياة» وهكذا فإن الموت ليس مجرد أحد المكونات التجريبية لخبراتنا، وإنما هو ينتمي إلى جوهر معايشة كافة الحيوانات الأخرى، وحياتنا كذلك، وعلى هذا النحو فإن حياتنا تمضي نحو الموت، إنه ليس إطارا ثبت بالصدفة المحضة حول صورة عمليات فيزيائية وفسيولوجية عديدة، وإنما هو اطار ينتمي إلى الصورة ذاتها. إذا الموت الشغل الشاغل للبشرية طوال تاريخها ولعل هذا ما عناه أفلاطون بقوله: « الفلسفة تأمل الموت» وهو نفسه الذي أغرى الفيلسوف الألماني شوبنهاور لكي يقول: «الموت هو الموضوع الرئيسي للفلسفة والملهم الأكبر للتفكير الفلسفي، بل إن بعض الفلاسفة والمؤرخين ذهبوا بعيدا في إعطاء الموت دوراً استثنائيا في التاريخ البشري مثل المؤرخ المشهور (وول ديورانت) صاحب كتاب «قصة الحضارة» الذي قال: «الموت أصل الديانات كلها» أي أن الديانات كانت استجابة لقلق الإنسان تجاه الموت ومن خلال معالجتها لهذه الظاهرة وضعت إطار الفلسفة للحياة والوجود». لغز الموت يقود بجملته إلى البحث في أعماق الروح وأسرارها... هل هي عرض؟.. ارتباطها بالنفس، فناؤها، خلودها، بعثها، أزليتها، مقرها، عمرها... فالروح بالضرورة هي الخيط الذي يقود إلى الخلود...الطموح الإنساني... وهي بحد ذاتها السعي في عالم المثل وأطر الأكتمال... الإيمان بها يقود إلى عالم من المثل والفضيلة اللاقياسية بمحدودية المعرفة. بينما ظلت الروح عالقة في شباك أسئلة الموت ظل الخلود واقعا في شباك ثنائية الجسد والروح... لذا اعتمادا على مبدأ الفكرة المتصلة باسقاط الروح بالأشياء عن طريق مدركات الحواس واسقاط الرؤى «الميتافيزيقية» في مجموعة الأشياء المحيطة، موجها بالفكرة الناتجة عن التأمل النفسي في الذات وخارجها... تصبح المحاكاة «محاكاة كونية» لا تتجزأ، فالروح الكونية واحدة غير قابلة للتجزؤ... نظرا لارتباط الرؤى الخارجية والرؤى الداخلية... فأنت ترى الكون بأم عينيك لتعكس صورك الداخلية على رؤاك الكونية، تتصل أنت معها بخيوط شفافة هي تراكمات إسقاطية بالمفهوم الإنساني المتبصر، فيمكننا أن ندرك أن الحاجات الإنسانية تنقسم إلى: حاجات شهوانية و حاجات روحانية وحاجات نفسية والتبصر في تلك الحاجات يشكل المساحة العقدية الواسعة التي هي بمجملها الصور المعبرة عن احدى تلك الحاجات أو جميعها. اما الحلم فهو الكنز الثمين والوجه الآخر الحقيقي للواقع الإنساني وطالما حلم الإنسان منذ أقدم العصور وهو ضرورة نفسية وحاجة روحية. أما من الناحية الأسلوبية اتبع البساطة في اللغة والعمق معاً بحيث استخدم اسلوب التناص وهو استحضار عبارات سواء بنصها أو باعادة صياغة لها من الكتب المقدسة مثل التوراة والإنجيل والقرآن الكريم والافستا.. الخ، الى جانب من بعض الأساطير الشرقية والغربية والصينية واليابانية واميركا اللاتينية. أما من الناحية الفنية، أحاول إيجاد نوع من التوازن بين الأجزاء التي تعنى بالموسيقى والإيجاز والتجريد والبساطة والعمق والإبتكار والبعد عن التقليد والكلام المنمق والعبارات الرنانة والكلمات المبتذلة والصور التقليدية والإيقاعات الموزونة، بل ضد الأنماط التفكيرية السائدة والسطحية والتراكيب البنوية المعهودة، لذا اعتمد على التكثيف وخلق عوالم جديدة من الصور والايقاعات والشحنات الشعرية المتوترة، بعيداً عن القوالب الجاهزة واجترار العبارات المستهلكة والقوافي التجميلية... أرى ان الخطاب النقدي الحديث قد تجاوز هذا الأمر الخارجي للبحث في قوالب داخلية أكثر فعالية من واقع النصوص الشعرية نفسها وليس من واقع نظريات قديمة أو حديثة تفرض قسراً على النص... لهذا السبب أكتب قصيدة النثر!
قصائد
نسيج ألق توهج
رماد
يطفئ جذوة الاحتراق…
الخيوط روح خراب
تغذي خرابا
لا تسلني شيئا
في كل ثانية شيء يحتضر
عائدا إلى مصيره السابق
حتماً
سأتجلى في مرايا الرؤى
روحا
تتكشف لها أسرار الغيب...
أفتح نافذة الأحلام
وأطل على شرفات الكون
أتأمل..
وأرى ما لا يبصره أحد غيري…
كل ما في الكون من آلام
آلام ولادة
يريدون أن ينتزعوا مني ذاتي
يريدونني خطيبا
واعظا
وأنا لا أجيد غير لغة العصافير
***
اللغة حطب يابس
أتيت ومعي الشرارة
فأشعلت كل الحرائق
***
حبيبتي
حين أموت
لا تبك
اقرئي اشعاري
فالزهرة تموت
ويبقى عبيرها
يفوح في الاجواء
***
على حين غفلة
أيقظتني الملائكة
جاءت تهرول مسرعة
تبحث عن قصيدة
خبأتها تحت الوسادة
مع كل هذة الاحزان
والدموع
يأبى الشعر إلا أن يغزل
قصائده
لسوسنة سوداء
غارقة في حزنها الأبدي
منير مزيد
منير مزيد
غلاف الانطولوجيا