«فهمتكم... الآن فهمتكم».
«أعلن التنحي عن رئاسة الجمهورية العربية السورية».
«سأرحل... بحصانة قانونية».
«أدعو المعارضة إلى تشكيل حكومة وطنية للانتقال السلمي للسلطة».
بواحدة من هذه الجمل الغالية القيمة كان على بشار الأسد أن يبدأ خطابه الذي أُعلن عن أهميته القصوى في الإعلام السوري الرسمي، ليثبت للعالم عامة والسوريين خصوصا بأنه ما زال يملك ذرة من ضمير حي تمكنه من التصالح مع النفس وإدراك الحقيقة والاعتراف بالخطأ، لكنه للأسف أكد مرة أخرى أن لا مكان لهذه الفضائل بين مكونات شخصيته المجبولة على اغتصاب الحق والدفاع عن هذا الاغتصاب بهمجية مطلقة يندى لها جبين عالم الغاب، ويتبرأ من دمويتها وحوش الأدغال، ويلفظها قرفاً حتى آكلو اللحوم البشرية.
ومرة ثالثة يعبر الأسد بفلسفته المملة التي تبعث على الغثيان حيناً والاشمئزاز أحياناً أخرى، عن شخصيته المركبة تركيباً آلياً كما تركب الآلات الميكانيكية وتبرمج على نظام الكتروني معين بحيث يصبح عملها أتوماتيكياً بحسب تلك البرمجة، فالأسد منذ وفاة أخيه باسل حامل لواء الحكم الأسدي واقتلاعه فجأة من مدرجات العلم ليزرع في ثكنات الجيش وفروع الأمن، قد برمج على تسلم راية السلطة والعمل على خدمة المشروع الطائفي الممتد من إيران إلى لبنان بكل ما أوتي من قوة ولو على حساب تصفية الشعب السوري، لأن تنفيذ مخطط الهلال الشيعي هدف استراتيجي يرسخ أيديولوجية عقائدية يراد لها أن تسيطر على مساحة جغرافية تتوسط الشرق الاوسط لخلق توازن طائفي مع الأكثرية السنية في المنطقة، من هنا يأتي التمسك العنيد والعنيف والدموي بالكرسي السوري كونه ركناً أساسياً من أركان المخطط الصفوي التي ستتداعى بقوة عندما تميد أرجل الكرسي مما يؤدي إلى السقوط الحتمي والمدوي للجالس غير الشرعي عليه.
وكعادته في خطاباته السابقة وزع الأسد الاتهامات جزافاً هنا وهناك، فشملت كل أطراف الأزمة السورية الحالية ابتداء من الشعب السوري الثائر مروراً بالجامعة العربية والمنظمات الإنسانية وانتهاء بالمجتمع الدولي ككل، ولم يستثن من اتهاماته تلك إلا حلفاءه الدوليين وداعميه الإقليميين وعصاباته الأمنية ومؤيديه المنتفعين، ولم يخجل من تكرار كذبته التي اختلقها بوجود عصابات مسلحة تقتل الشعب السوري لتبرير إجرامه وإصراره على قتل أكبر قدر ممكن من المواطنين السوريين الباحثين عن مستقبل حقيقي بعيداً عن أوهام هذا البشار وكذبه المستمر الذي يدل على انفصام بشخصيته نتج عن اختلاف نشأته الأولى بعيداً عن عالم السياسية وضجيجه وبين المسؤوليات الدموية التي أوكلت إليه لتحقيق هدف الأسد الأب وطائفته، وعلى انفصال تام عن الواقع المحيط به ورفض قاطع لإدراك حجمه الحقيقي الذي آل إليه في نظر السوريين بعد معالجته السيئة للاحتجاجات السلمية بالحديد والنار.
وعلى خطى القذافي تائه القبر والمدفن، ظهر رأس النظام في حشد من مؤيديه بدت أعدادهم على الفضائيات الموالية مضاعفة في عدسات التصوير، وظهرت حقيقة تواجدهم بعدسات الشرفاء من المواطنين السوريين، ومرة أخرى يظهر غباء هذا النظام الإعلامي والسياسي لاعتقادهم أن الحقيقة يمكن تزويرها بعد أن أصبح معظم السوريين مدونين ومصورين ومحررين ومتحررين شرفاء همهم الوحيد مطابقة الصورة على الواقع، ورغم محاولة النظام الظهور بمظهر المتماسك والمتمكن أمام المجموعات الأمنية باللباس المدني والتي أحاطت بزوجة الرئيس وأبنائه إلا أن ابتسامة أسماء الأسد الصفراء والمتصنعة لم تخدع الشعب السوري بقدر ما أثارت حفيظة الأمهات المكلومات بأبنائهن الذين قضوا على يد زوجها الفاشي وهي تحتضن أبناءها بحنان قلق ونظرات متوترة لم تعرف أن تتجنبها كما نصحتها شركة العلاقات العامة التي تعاقدت معها لتبيض صورتها وصورة زوجها.
وبظهوره المقتبس هذا، أكد الأسد أنه غير نادم على ما اقترفت يداه من قتل واعتقال وتهجير وتدمير، وأنه غير آبه بالدول العربية وجامعتها ولا المجتمع الدولي ومنظماته، وأنه سيمضي قدماً في محاربة الشعب السوري والقضاء على الأحرار منه، وأنه باق كالسيف المسلط على رقبته يسرق حريته ويمتهن كرامته ويغتال أحلامه بغد أفضل، لكن الشعب السوري بدوره يؤكد له بأنه ما عاد يطيق مراره بعد أن ذاق حلاوة الحرية، وما عاد رئيسه بعد أن أثبتت مدرعاته وآلياته العسكرية أنه عدوه، وأنه ماض في ثورته حتى تحقيق التغيير المنشود، وعازم على بناء سورية الحديثة التي تليق بتاريخه وقدراته ومقدراته.
لقد كان خطاب رئيس النظام السوري الأخير الرصاصة الأخيرة التي أطلقها على أمل السوريين الضئيل بإمكانية عودة الرئيس الضال إلى جادة الصواب فينتبه إلى ما ارتكبه من أخطاء جسيمة بحق الشعب السوري منذ توليه رئاسة الحكم، وكان عليه قبل الوقوف على المنصة أن يدرك بأنه سيتوجه بخطابه هذا إلى شعب سوري، لن يصفق له ثانية كلما تكلم أو يضحك ببلاهة كلما تبسم، ولن يرضى بعد الدماء التي سالت أن يعيش في ظل حكمه الجائر والظالم، ولن يجبر بعد احساسه بكرامته أن يندهش عنوة ويعجب غصباً بكلمات السيد الرئيس، وكان عليه أن يعرف أيضاً أنه يقف على شفا حفرة من نار وقودها أزلامه الشبيحة وأمنه المجرم وجيشه الخائن وثلة من مؤيديه الذين لا لون لهم سوى لون الدم ولا رائحة لهم سوى رائحة القتل والموت، وأن خطابه الأخير هذا قد يكون الأخير فعلاً كما يتمنى معظم السوريين، فلا يسمعون بعده نكيراً ولا يرون غيره منكراً.
مها بدر الدين