د. فهيد البصيري / حديث الأيام / أقزام في ثياب عمالقة!

تصغير
تكبير
منذ سنوات كنت في مصر، وركبت القطار المتجه من القاهرة إلى الإسكندرية وكان يسمى القطار السريع، رغم أنه أبطأ من حمار (الغيط). وبعد أن ركبت علمت أنه من صنيعة الفرنجة والعياذ بالله والأدهى والأمر انه شاهد من شواهد عهد الاستعمار البائد!

وفي محطة القطار استمتعت برؤية المسافرين الذين جاؤوا من كل حدب وصوب، خفافا وثقالا، يحملون همومهم، و كان أغلبهم من الشباب الذين حكمت عليهم الظروف أن يفارقوا الأهل والأحباب، إما للعمل أو للدراسة في الإسكندرية ومدن ساحل الشمال المصري. وفي محطة القطار وجدت نفسي أمام مشهد من مشاهد الدراما المصرية، مشهد سينكسر قلبك منه ولو كان من حجر الصوان لكثرة التأوهات وحشرجة الحسرات، وستتخبط في برك من الدموع، وستشارك الأمهات اللاتي من حولك في دعواتهن. وستتذكر فيلم (لا تبكي يا حبيب العمر) وتترحم على المخرج الذي لم ينقل لك الصورة الحقيقية للحظات الوداع.

وحتى لا يفوتنا القطار ركبناه، وكان أمامي ثلاثة شباب في مقتبل العمر بادروني بالسؤال قبل السلام: من فين حضرتك؟ قلت: من الكويت. وكان من بينهم شاب نزق أخذ يتلوى و( يتعوى) ويسعل ويسأل أسئلة ساذجة، ومن هذه الأسئلة (هل لديكم حضارة زينّا) ولأنه سؤال ليس له معنى، فأجبته بلا النافية فقط، ورددت عليه: وماذا عندكم؟ فقال: (الله أنت ما رحتش الأهرامات والمعابد؟ احنا أصل وفصل الحضارات كلها)، قلت: يبدو أنك مطّلع وسليل حضارة عريقة، ولكن هل تعرف الشيخ والعلامة العربي احمد محمود أبو شاهين؟ قال: لا! واغتنمت الفرصة لتقريعه وقلت: إذا أنت جاهل بتراثك، إنه علم من أعلام الأمة العربية والإسلامية على الإطلاق وحياته ومماته كانت في الكويت - ولم يكن أبو شاهين هذا سوى صاحب محل لتصليح الدراجات الهوائية - وبعد ساعتين ونصف الساعة من الكلام في حضارات الشرق الأدنى والشرق الأدهى، توقف القطار وتوقف الحديث قبل صدام الحضارات.

ولكن التفكير في هذا الموضوع لم يتوقف (فالأنا) والشعور الفوقي العربي أينما كان، واضح وطاغ على الشعور القومي، لدى الشعوب العربية بلا استثناء.

والغريب أن أسلوب النفخ في الذات العربية إلى حد الفرقعة، دارج في جميع المدارس العربية، ومعتمد كمنهج لا يرقى إليه الشك، ويغذيه الاعلام بإعطاء صورة تظهر هذا الإنسان العربي المغلوب على أمره اليوم، تظهره بأنه فارس نبيل لا يُشق له غبار ولا تنطفئ له نار! ورغم مسلسل الهزائم اليومي! يؤكد المؤرخون العرب لنا في مناسبة ودون مناسبة أننا أصل الحضارات وربما أصل الإنسان! حتى جعلوا الإنسان العربي يعيش في غربة عن العالم المحيط به، فلم يعد يستطيع التأقلم مع واقعه المعاش، وتسببوا في خلق شخصية عربية متناقضة، حائرة بين الواقع والخيال.

وزيادة على بركة مؤرخينا حلت بركة وسائل الاعلام التي قامت ببقية المهمة خير قيام، حيث أخذت تقدم لنا دروسا يومية من غسيل عن حضارتنا العربية المسلوبة! والواقع أن هذه الحضارة لا توجد اليوم إلا في الكتب والمسلسلات التاريخية من بطولة الممثل يوسف شعبان أو قطز، والمرحوم عبدالله غيث كصلاح الدين، ولكن مشكلة المشاكل أن المفكرين العرب هم رواد هذه الأكذوبة، فلا يتحدثون إلا بعاصمة الرشيد، وقاهرة المعز، ودمشق عمر بن عبدالعزيز، و(آشور)، و(ممفيس)، والكلام الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، ولدرجة دفعت بعض المصريين للتبرؤ من عروبته، عندما انشأ المتحمسون منهم أحزابا فرعونية، معتقدين أن ذلك يعطيهم (صك) بناء الأهرامات، بينما التاريخ الحديث يشير إلى أن الأوروبيين هم من اكتشف المعابد والمقابر الفرعونية الواحد تلو الآخر، في حين أن المصريين الغلابة، كانوا يجردون المومياء من لفافات الكتان لإعادة نسجها ولبسها من جديد! ويقومون بطحن جثث المومياء المتعفنة منذ آلاف السنين لبيعها علاجا للقدرة الجنسية والعقم! (فكله أكل عيش).

والتباكي على الماضي من العلامات المميزة للشخصية العربية، وعشق التراث لدرجة التقديس أصبح جزءا من حياة العربي اليومية.

وحالة الحنين للماضي هي حالة موجودة لدى أغلب الشعوب ولكنها موجودة بحجمها الطبيعي والذي لا يؤثر على نمط وتفكير هذه الدول وفهمها للمرحلة التي تمر بها.

ولا يفيدنا ان كان (عوضين) سليل (تحتمس) أو( كاظم كزار) من أحفاد (نبوخذ نصر)، و صحيح أن تاريخ الدول العربية في الكتب يتعملق أمام تاريخ الولايات المتحدة الأميركية وعمر إسرائيل الذي لا يتعدى 70 ربيعا فقط، إلا أننا اليوم أقزام في ثياب عمالقة، وصحيح أن مصر والعراق ودمشق في السابق كانت شعاعا من نور. إلا أنها اليوم تغرق في بحر متلاطم من الجهل والظلمات.

 



د. فهيد البصيري

Albus.fahad @hotmail.com
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي