تمخض الجمل العربي كثيراً ولم يستطع أن يلد إلا فأراً معاقاً يعاني تشوهاً أخلاقياً وسياسياً بالغ السوء أعيا من حاول أن يداويه، ولم يلتم شمل مندوبي الحكومات العربية إلا ليقضوا أمسية أخرى من أمسيات الجامعة العربية التي غالباً ما يكون ختامها خيبة أمل تضرب رؤوس الشعوب العربية، فتدفعها إما للإحباط المفرط أو الغضب العارم.
لكن خيبة أمل السوريين باجتماع الجامعة العربية المخصص لبحث أزمتهم المتصاعدة، كانت كبيرة بما يكفي لتدمي قلوب المواطنين السوريين ممن يعيشون تحت خط النار، قبل أن تلفظها عقولهم التي تعللت بآمال وهمية في أن يكون للجامعة العربية موقف حازم يردع النظام السوري عن ممارساته الوحشية ضد الشعب السوري الأعزل، أو على أقل تقدير يوقف مجنزرات دباباته ومدرعاته عن ارتكاب المجازر في أنحاء الأراضي السورية كافة، لكن هيهات وقد آثرت الجامعة العربية أن يكون منبرها مذبحاً رسمياً للسوريين، ومنحة أخرى للنظام السوري لإعطائه مزيداً من الوقت لمزيد من القتل.
لقد أثبتت الجامعة المفرقة مرة أخرى عدم قدرتها على التواصل مع متطلبات الشعوب العربية، وعدم قدرتها على التفاعل الإيجابي مع القضايا العربية التي غالباً ما تزداد تعقيداً بعد اجتماعاتها حيث تخصصت بحماية الأنظمة العربية ومجاملتها على حساب شعوبها، كما أثبتت مرة أخرى أن السياسة العربية والديبلوماسية العربية مازالت في سنة أولى روضة رغم الزخم السياسي الذي يملأ الساحة العربية منذ عقود طويلة، والذي من المفترض أن يكون قد أسس عقلية سياسية عربية تتمتع بالخبرة والتجربة في عالم عربي تتلاطم فيه أمواج السياسة وتتراوح قوتها بين مد وجزر.
فالقرارات المنبثقة من اجتماع الجامعة العربية المخصص للشأن السوري قد سطحت الوضع السوري إلى أبعد حد، ولخصت الملف السوري بكلمتين استفزازيتين أكل عليهما الدهر وشرب ولم يعد لهما مكان من الاعراب في جملة الأحداث الدموية القائمة حالياً، واختزلت الزلزال الذي يضرب سورية منذ ثمانية أشهر بتسجيلها هزات أرضية لا تتعدى قوتها أكثر من مقتل عشرين مواطناً سورياً يومياً، وطالبت بالحوار بين النظام والمعارضة ناسفة دماء أكثر من ثلاثة آلاف شهيد قضوا برصاص أمن النظام وشبيحته وجيشه، ومتجاهلة المجلس الوطني السوري الذي شكل على مبدأ واحد أجمعت عليه جميع أطياف المعارضة السورية، وبمباركة الشعب السوري الثائر، وهو إسقاط النظام والتخلص من الحكم الأسدي وبالتالي رفض الحوار مع نظام فقد شرعيته أمام المجتمع الدولي وأمام الشعب السوري، ولم يدرك المجتمعون العرب أن إعطاء مهلة وقتية للنظام تتيح أمامه فرصة إخماد ثورة الشعب السوري باستخدام آلته العسكرية بشراسة وسفك المزيد من الدماء السورية الحرة.
وأصبح الشك والريبة مشروعاً بأجندة الجامعة العربية التي تنفذها على طول الوطن العربي وعرضه طوال أعوام طويلة ماضية، فقراراتها غالباً ما تنسجم بشكل أو بآخر مع مصالح جميع الأطراف المستفيدة من بقاء الواقع العربي على ما هو عليه، ابتداء من أميركا وإسرائيل وصولاً إلى روسيا والصين، حيث نجد تناغماً غير منطقي بين قرارات الأحد الحزين وبين التصريحات الروسية الأخيرة حول الوضع السوري حيث اشترك الطرفان في إعطاء المزيد من الوقت للنظام السوري لتثبيت أركان حكمه بالقوة، كما أن عدم اعتراف الجامعة العربية بالمجلس الوطني السوري أسوة باعترافه بالمجلس الليبي إنما جاء متماشياً مع رفض واشنطن الاعتراف بالمجلس حتى إشعار آخر، وهو ما يؤكد ثانية عقم الجامعة العربية وعدم قدرتها على الإنجاب السياسي إلا بطريقة زعماء الأنابيب أو زرع الحكومات.
وما يثير الشفقة على هذه الجامعة هو تحفظ المندوب السوري على جميع القرارات التي اتخذتها رغم أنها تصب في مصلحة النظام السوري، وهو ما يضع الجامعة وأمينها ورئيسها في موقف حرج أمام الشعوب العربية عامة والشعب السوري خاصة، فالقرارات رفضت وأصبح المطلوب من الجامعة مرة أخرى إثبات قدرتها على ضبط الشارع العربي، وفرض هيبتها على الأنظمة العربية التي تجتمع تحت قبتها وترفض قراراتها، وأصبح من الضروري الآن أن تنصاع الجامعة العربية لرغبة الشعب السوري في التخلص من نظام عائلي استنفد خيرات البلاد وحولها لمزرعة خاصة به، وجعل جموع المواطنين عبيداً يأتمرون بإمرته ويسبحون بحمده ويجلدون بسوطه، وأصبح مطلوباً منها أن تتخذ موقفاً حازماً بتجميد عضوية سورية في الجامعة والاعتراف بالمجلس الوطني السوري، خصوصا وقد أثبت النظام أنه ينوي المضي قدماً في سياسته التي لا تقيم وزناً لا لمجتمع دولي ولا لجامعة عربية، وأعرب في إسقاطه أكثر من ثلاثين قتيلاً عشية اجتماع الجامعة، واقتحام قواته لبعض القرى والمدن للتنكيل بأهلها بأنه نظام فاشي لا رغبة له في حوار ولا نية عنده لترك الكرسي.
لقد عادت الكرة مرة ثانية إلى ملعب الجامعة العربية وأمامها خياران لا ثالث لهما، إما أن تسدد في مرمى النظام السوري وتنتصر للشعب السوري المقهور وتسقط الشرعية عن الغاصبين، وإما أن يقوم الشعب السوري بشطبها من حساباته السياسية المستقبلية وإيداعها في مثواها الأخير باعتبار أن إكرام الميت دفنه مع الاعتذار عن إقامة سرادقات العزاء لسوء الأوضاع الأمنية على الأراضي السورية.
مها بدر الدين
كاتبة سورية
[email protected]