مها بدر الدين / الثورة السورية على طريق اللاعودة

تصغير
تكبير
تتصاعد الأحداث في سورية لتصل لمرحلة اللا عودة لكلا الطرفين الخصمين على الساحة السورية، فالنظام السوري ماض في دمويته إلى أقصى حد، ويتضح من رفعه لسقف القمع الدموي أن لا نية لديه للانصياع لمطالب الشعب السوري أو للضغوط السياسية والاقتصادية الخارجية التي تمارس عليه، كما أنه لا يعير انتباهاً لمجلس الأمن بمشاريعه الاستنكارية والعقابية ولا للمجتمع الدولي وما قد يقدم عليه في حال استمراره باستخدام الآلة العسكرية السورية لإبادة الشعب السوري المنتفض، حيث ان ثقافته السياسية تنحصر في هذا النوع من التعامل غير الآدمي مع الآدميين الشرفاء، وهي ثقافة ورثها النظام الحالي مع وراثته للحكم من الأولين ويرغب في توريثها للقادمين من بعده.

هذه الثقافة الدموية تتنافى تماماً مع أي فكر إصلاحي يتشدق النظام السوري بمحاولة تطبيقه في سورية اليوم، فهي متأصلة ومتجذرة في أعماقه لأنه قام عليها ويظن أنه لن يستمر في حكم البلاد إلا بفرض قبضته الحديدية على العباد، ومن هذا المنطلق يصبح الحديث عن الإصلاح غير منطقي في ظل التجارب التي عاشها السوريون مع هذا النظام سابقاً وحالياً، كما أنه حديث شرب عليه الدهر وأكل ولم يعد يصلح لهذا الزمن الدامي الذي فرض على الساحة السورية عنواناً واحداً فقط هو إسقاط النظام أولاً.

ويتضح أيضاً من عدد الشهداء الذين يسقطون كل يوم كأوراق الخريف التي تتساقط الآن في ربوع سورية، أنه لا نية للشعب السوري للعودة إلى الوراء بل انه قد أقفل طريق الرجعة تماماً ليكون الاتجاه إجبارياً نحو الهدف الأسمى للشعب السوري الثائر، وهو نيل الحرية واستعادة الكرامة ووقف اغتصاب الإنسانية على الملأ، فجدار الخوف الذي كان يفصل بين المواطن السوري وحريته قد سقط، والرغبة في بناء سورية حديثة للأجيال القادمة قد زادت، وقيم الاستبسال والتضحية والإيثار سجلت أعلى معدلاتها خلال تاريخ سورية في السبعة أشهر الماضية، وهو ما يعني أن الشعب السوري قد حزم أمره لدفع ضريبة سكوته وخنوعه طيلة العقود الأربع الماضية، ونيته في تصفية حساباته السياسية القديمة والحديثة مع هذا النظام الفاشي، ليفتح صفحة جديدة مع نظام جديد وبأسلوب سياسي حديث.

من هنا يزداد الوضع توتراً ودموية، وتزيد المواجهة حدة بين كلاب النظام المسعورة ونار الثوار المستعرة، وتتصعد الأمور فيعزز النظام آلة قمعه التي تحاصر بؤر الثورة لتقمعها، ويستبسل السوريون بالتعبير عن رفضهم للخنوع ثانية فيحولون العزاء بالشهداء إلى تهنئة وتصدح حناجرهم بطلب الموت ولا المذلة، متمسكين بسلميتهم وإيمانهم بنصر الله القادم.

ولعل ما حصل في مجزرة مدينة القصير حمص خير دليل على أن جميع خطوط العودة مقطوعة فقد تعرضت المدينة المكلومة الواقعة على نهر العاصي إلى مجزرة حقيقة راح ضحيتها مجموعة من خيرة شبابها بعض منهم من عائلة واحدة، بالإضافة إلى أعداد كبيرة من المعتقلين والمفقودين كما تم اكتشاف ممارسات وحشية على أطراف نهر العاصي الذي احمرت مياهه من دماء الشهداء حيث وجدت أشلاء جثث مسحولة بالدبابات وأخرى تسبح في النهر ولم يمكن التعرف على أصحابها، لكن هذه الهمجية لم تثن أهالي القصير عن إكمال الطريق ولم تهبط عزائمهم في الاستمرار بالاحتجاج، فحولوا مواكب تشييع شهدائهم إلى لوحة فنية إنسانية مشرفة غاية في الروعة من شأنها دفع الفئة الصامتة إلى الصراخ، والقصير في هذا ليست المدينة الوحيدة في مصابها وعنادها بل هي نموذج للكثير من المدن السورية التي تعرضت لأقسى أنواع القمع ومازالت مستبسلة في الدفاع عن حقها وحقوقها، كالرستن الباسلة وتلبيسة الصامدة وحمص الأبية وحماة العصية وغيرها وغيرها.

وقد ساهم هذا النظام الفاشي من حيث لا يدري وباختياره الأسلوب الأمني للتعامل مع الثورة بتكريس فكرة ضرورة التخلص من هذا النظام الإجرامي في فكر الثورة الملتهبة، واعتبار أي إصلاح للشأن السوري يبدأ من إسقاط النظام ومحاكمة جميع رموزه وطردهم خارج الخارطة السورية السياسية الحديثة، ولم يفطن أصحاب القرار في ردهات النظام بسبب انتمائهم للثقافة الأمنية سالفة الذكر بأن التجارب الثورية والتاريخ القريب والبعيد قد أثبت أن سياسة العنف والاستبداد هي سياسة تسرع بخطى صاحبها إلى السقوط في الهاوية، كما لم يفطن إلى المتغيرات الكثيرة التي تحدث في الزمان والمكان والمنطق حيث تصب جميعها في مصلحة الثورة وحتمية نجاحها، لكن ماذا نقول وقد اقتصر نظر هذا النظام على رؤية ما تحت أقدامه فقط، وراهن على من يأخذ بيده على طول الطريق من أصدقائه الإقليميين أصحاب المصالح المشتركة، ولم يرى أن العصا التي يتكئ عليها هؤلاء الأصدقاء قد تهوى على رأسه عندما تتعارض مصالحهم مع نظرته العمياء.

لقد أخطأ نظام الأسد منذ تأسيسه بنقطتين أولهما عدم إيمانه أن دوام الحال من المحال وأن الأنظمة الديكتاتورية إلى زوال مهما طال بها المقام وأن فكرة أبدية النظام بمعنى توارثه والتي حاول ترسيخها في عقول السوريين خلال العقود الماضية تتعارض تماماً مع مسيرة التاريخ وحياة الشعوب، والثانية أنه لم يعط الشعب السوري حق قدره، ولم يدرك خصائصه التاريخية والنفسية والاجتماعية وحتى الطائفية ومن هنا لم يقدر الطريقة المناسبة التي يستطيع بها التعامل مع هذا الشعب الذي إن أكرمته ملكته وأن قمعته تمرد، وبهذا فقد حفر النظام خلال مسيرة حكمه قبره بنفسه وبدأ يدق مسامير نعشه بمطرقته ولا يزال الشعب السوري ثائراً صامداً بانتظار أن يدق المسمار الأخير.





مها بدر الدين

كاتبة سورية

[email protected]
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي