«بوز ألن هاملتون»: اقتصاد الشرق الأوسط يتحول إلى «واحة» خصبة لضمان مستقبل مستدام

تصغير
تكبير

اعتبر تقرير جديد صادر عن شركة «بوز ألن هاملتون» أنّه على الرغم من أنّ عناوين الأخبار الدولية تتناول باستمرار التوترات السياسية في الشرق الأوسط، إلا أنها كتبت القليل نسبيا عن المصدر المتنامي للاستقرار في المنطقة، ألا وهو بروز اقتصاد منفتح ومتنوّع، لم يعد يعتمد بشكل حصريً على إيرادات النفط.

وعلى الرغم من أنّه لا يتم الاعتراف بالتقدم الذي حققته التنمية الاقتصادية في المنطقة، إلاّ أنّها مازالت تحظى بزخم كبير. فإذا ما كانت الواحة الاقتصادية قادرة على أن تزهر في الصحراء، فهي تبشّر بمستقبل يحمل الكثير من الآمال للشرق الأوسط، كما تشير بالطبع إلى مستقبل أكثر تشابكاً وتعقيداً مما يتوقّعه الكثيرون.


بين الشك في التغيير والاستدامة

ولاحظ التقرير ان عمليات رفع الضوابط والخصخصة أصبحت ملموسة في الفترة الأخيرة في الشرق الأوسط، ما حثّ الناس على التساؤل: إذا صار هذا السراب حقيقة، فلم أصبح كذلك الآن؟ وما هي الأسباب التي أدّت إلى ذلك؟

وفي معرض تعليقه على هذا الموضوع، قال نائب رئيس أوّل في «بوز ألن هاملتون» جو صدي «اليوم، تستخدم الدول المنتجة للنفط، لاسيّما دول الخليج، فائض إيراداتها لتخفيض الدين الخارجي وتعزيز السيولة وتطوير العلاقات التجارية واستقطاب الاستثمارات الأجنبية، وهي تعتزم بناء ثروة لها بحيث تجعل الطفرة النفطية الحالية تعطي ثمارها على المدى البعيد».

وتبحث الحكومات عن سبل عديدة لتحقيق الثروة المستدامة، حيث أنّها تدرك ضرورة بناء طبقة متوسطة بالإضافة إلى قاعدة اقتصادية توفر لهذه الطبقة الوظائف والدعم المناسب. ففي منطقة يتكوّن نصف عدد سكانها من أفراد ما دون العشرين من العمر- وحيث تبلغ معدلات البطالة درجات عالية في العديد من الدول- تصبح الطبقة المتوسطة المستدامة الحلّ الأكثر فعالية لتحقيق النمو الاقتصادي والاستقرار السياسي المستدام.

والشرق الأوسط اليوم بات مختلفاً عن الماضي؛ فبحسب نائب رئيس في «بوز ألن هاملتون» ريتشارد شدياق «يعتزم قادة المنطقة اللحاق بباقي دول العالم بل وتجاوزها في بعض الحالات من حيث الحيوية الاقتصادية. ويعود ذلك بشكل رئيسي إلى الرؤيا المتبصّرة لدى الأفراد في المناصب القيادية الذين لا يدّخرون جهداً للتقدّم والتحرّك السريع».

غير أنّ التقدّم الذي تشهده المنطقة ما يزال مجهولاً لدى المراقبين الخارجيين بفعل الغموض وبعض الأفكار المقولبة والسائدة لديهم عن المنطقة مما يحول دون فهم بيئة العمل في منطقة الشرق الأوسط. والحقيقة أنّه تبدو لهؤلاء المراقبين في الوهلة الأولى أن ثمّة تناقضات في صنّاعة القرار في الشرق الأوسط مما قد يعكس صعوبة تفهم الجوانب الجوهرية لثقافة الأعمال في المنطقة. ففهم الأنماط السلوكية والافتراضات التي تحدّد مسار الأعمال يسهّل رؤية الفرص المستقبلية ومواجهة التحديات المستقبلية.


تصميم على الوصول رغم التأخر

يدرك العديد من الأشخاص الذين يديرون أعمالهم في المنطقة وجود وتيرة محددة للتنمية الاقتصادية، حيث أنّ التطوّرات الاقتصادية تحدث بسرعة فائقة- مسبوقة بفترة طويلة من التحضير قبل اتخاذ القرار النهائي.

وبدأت عملية رفع الضوابط عن قطاع الاتصالات في المملكة العربية السعودية عام 1998، وكان هذا القطاع، مثل العديد من القطاعات الأخرى في الشرق الأوسط، مثقلا بضوابط كثيرة، لكنّ المملكة العربية السعودية قرّرت فتحه أمام المنافسة رغبة منها في أنّ يصبح هذا القطاع أكثر فاعلية، وحرصاً على ضمان مصالحها من خلال الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية. وفي هذا السياق، قال نائب رئيس في «بوز ألن هاملتون» كريم صبّاغ «بعد مرور أربعة سنوات فقط، عرضت شركة الاتصالات السعودية 30 في المئة من حصصها في اكتتاب عام، وقدّرت الحصص بحوالي 4 مليارات دولار». وقد أثبت المستثمرون جهوزية السوق من خلال عرض شراء 9.6 مليار دولار لقاء الحصص. وبالإجمال، فقد كان لرفع الضوابط عن قطاع الاتصالات انعكاسات رئيسية جيدة على جودة الخدمة وتسعيرها.

قد تعكس ذهنية «التصميم على الوصول بالرغم من التأخر» السائدة بين القادة الإقليميين رغبتهم في تلافي مشاكل انعدام الرقابة التي عانتها دول أخرى من خلال وضع تشريعات من شأنها أن تتيح إجراء عملية التحوّل بسهولة وإعادة هيكلة الشركات الحكومية. ويضمن هذا النهج الحريص نجاح جهود الخصخصة وإمكانية دخول الشركات الخاصة إلى السوق في الوقت المناسب.


خطوات جريئة رغم المخاطر

تتجلّى الرغبة في التحديث السريع من خلال عملية جريئة ومبتكرة لصنع القرار فقد اتّخذ بعض القادة تدابير جريئة جداً لإحداث التغيير المنشود وإرسال إشارات تشجيعية إلى القطاع الخاص والمجتمع عامة. بعدها، حقّق القطاع الخاص خطوات مذهلة، فكانت جزيرة النخلة والمبادرات الأخرى في دبي وأبوظبي خير أمثلة على الخطوات الجريئة التي نتج منها الزخم الرامي إلى التغيير، بحيث تشكّل العملية الجريئة لصنع القرار في مشروع رئيسي واحد نموذجاً يحتذى به في المشاريع الأخرى.

وفي هذا السياق، قال شدياق « تظهر الحاجة الماسة إلى خطوات جريئة لتغيير نظم التعليم في دول المنطقة التي تكثر فيها القوى العاملة وتقل فيها الموارد الطبيعية». فنرى في الأردن قيام مبدأ « الإنسان أغلى ما نملك»، حيث جمعت الإصلاحات في قطاع التعليم في الأردن الخاصة بمبادرة اقتصاد المعرفة 17 مؤسسة أردنية و17 مؤسسة عالمية و11 منظمة حكومية وغير حكومية لتطبيق نموذج للشراكة بين القطاعين العام والخاص عام 2003. وسعت شركات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات إلى تطوير المهارات المحلية في مجال التكنولوجيا المتقدّمة، فتمّ ترميم مئات المدارس وتدريب المدرّسين، وسيتم قريباً ربط نظام المدارس الحكومية في الأردن بشبكة عريضة النطاق - عالية السرعة.

أما في قطر، فقد قامت قيادة الدولة بإعطاء الأولوية لإنشاء نظام مدرسي متطوّر يربط التكنولوجيا بالتعليم. ويلعب المجلس الأعلى للتعليم في قطر دوراً أساسياً في وضع الإصلاحات الرئيسية في المدارس وتنفيذها.

من جهتها، أبدت المملكة العربية السعودية التزاماً مماثلاً بالتقدّم مع إنشاء جامعة الملك عبدلله للعلوم والتكنولوجيا وهي جامعة دولية للأبحاث على مستوى الدراسات العليا هدفها تحقيق إنجازات علمية.


تقليدية ولكن تقدمية

على الرغم من أنّ الشرق الأوسط معروف بأنّه منطقة تقليدية، إلاّ أنّ صناع القرار في هذه البقعة من العالم هم تقدميون بشكل لافت، فهم يواجهون التحديات المرتبطة بكيفية النمو والازدهار ويحرصون في الوقت نفسه على عدم فقدان هويتهم الثقافية، ونتيجة لذلك ثمّة توتر مستمر بين طرفي التحديث والتغريب في المنطقة، حيث يتم تحديد قيمة التحديث وفقاً لمقاييس تقليدية.

وأوضح شدياق «يُبرز النظام المصرفي الإسلامي الخاضع للشريعة الإسلامية هذا التوتر فبينما كانت المصارف التقليدية بمعاييرها الغربية هي السائدة في المنطقة، رأينا في خلال العقد الماضي نموا كبيرا للمصارف الإسلامية الحديثة وأصبحت المنطقة مساحة حاضنة لهذا القطاع الذي ينمو بمعدّل سنوي يتراوح بين 15 و20 في المئة على مستوى العالم».


تركيز ومرونة في آن واحد

لا توجد في السوق العالمية اليوم خطط ثابتة للأعمال، وفي الشرق الأوسط، يميل صناع القرار إلى إتباع دورة تخطيطية عادة ما تمتد لمدة خمس سنوات، ولكنّهم لا ينظرون أبداً إلى هذه الخطط كركائز غير متغيّرة. فبالرغم من إدراكهم لأهمية وضع توجّه استراتيجي واضح، إلاّ أنّ كمية التغيّرات الاقتصادية الهائلة التي تتبلور اليوم تحتّم وجود استراتجيات منفتحة لتقبّل التغييرات السريعة، فالأسواق التي يتم وضع ضوابط لها اليوم تتحرّر في الغد؛ لذلك يجب اعتماد نهج التركيز والمرونة لموازنة هذا التغيير.

واليوم نرى الحكومات التي تواجه تحديات في فتح اقتصاداتها أمام الاستثمارات الأجنبية تقوم بتطوير مناطق اقتصادية خاصة لاستقطاب رؤوس الأموال إلى بيئة محكمة وخاضعة لإشرافها. وأشار شدياق في هذا الصدد إلى أنّ «عددا من دول الشرق الأوسط تقوم باختبار واحات اقتصادية محدودة الحجم وبالتالي محدودة المخاطر بما يشكّل إشارة إلى التخطيط المركّز والمرن في آن واحد وتغيير في التحوّل الجاري على المستوى الوطني».


حصري ولكن متنوّع

يزداد رأس المال البشري أهمية مع شروع اقتصاد المنطقة بالبعد عن الاعتماد على موارد النفط. ونتيجة لذلك، تجتذب المنطقة مواهب متنوّعة وتحرص على الحفاظ عليها فيما تعمل على تنمية مواهبها المحلية.

وتتوسّع دائرة التوتر «الحصري ولكن المتنوّع» في المنطقة لتشمل رأس المال غير البشري أيضاً، ففي سعيها لاستقطاب الاستثمارات الخارجية، بدأت مجموعة من دول الشرق الأوسط بالسماح للوافدين الأجانب بشراء الممتلكات المحلية كحافز للإقامة في البلاد والمساهمة في زيادة ثرواتها وتنوعها السكاني.

وعن هذا الموضوع، قال صدي: «تمّ البدء في تطبيق هذه الحوافز بمشاركة الوافدين الأجانب في تجارة الأسواق المالية، إذ أنّ هذه الحوافز تستقطب نسبة أعلى من الاستثمارات وتسرّع عملية التنمية». ونتيجة لذلك ارتفع مستوى المهنية والشفافية في المنطقة.


الطريق إلى الواحة

من جهته، اعتبر صبّاغ أنّ «نشوء اقتصاد إقليمي متنوّع يشكّل تحوّلاً أساسياً لن ينعكس على استثمارات الشركات فحسب بل على النشاط الجغرافي أيضاً». وقد يكون الشرق الأوسط قيد تطوير نموذج جديد للاقتصاد في المنطقة يختلف عن أيّ نموذج سابق.

وقد تبلورت هذه الظاهرة نتيجة لسعي صناع القرار إلى بناء جسر بين ثقافة الشرق الأوسط وإمكاناته الاقتصادية. وهم يدركون أنّ ازدهار المنطقة لا بد وأن يكون من خلال تعزيز روح المبادرة لدى شعوبهم وإنشاء البنية التحتية المتينة التي تمكنهم من التنافس على المستوى العالمي وتوفير فرص عديدة للطبقة المتوسطة لزيادة مشاركة أفرادها في المجتمع.

وإذا ما تمكّنوا من إقامة هذا الاقتصاد الفريد، لن تكون الواحة التي نراها تزهر اليوم مجرّد سراب، بل واد خصب ومستدام قادر على استقطاب الاستثمارات من أنحاء العالم كافة.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي