عندما تقع الذبيحة يتكاثر الناهشون حولها وكل منهم يمد يده لعله يهبش قطعة منها إما لإسكات جوعه القديم وإما لبيعها والاسترزاق منها، هذا هو حال المعارضة السورية في الداخل والخارج بعد الثورة الشبابية الشعبية السورية التي عجز المعارضون خلال أعوام معارضتهم للنظام السوري على القيام بها، وعندما قامت بغضب الشارع وعزم الرجال وأرواح الشهداء كان للمعارضة في الخارج والداخل موقف متذبذب ومتشرذم وغير مفهوم، أو إن صح التعبير غير متوازن أو متناسق مع رتم الثورة وطبيعتها وتطوراتها.
ففي الوقت الذي مهدت الثورة الطريق أمام المعارضة السورية لتثبت وجودها وتقول كلمتها وترسي قواعدها على أرض الواقع السوري الجديد، نراها قد انقسمت حيناً وانكفأت على نفسها أحياناً أخرى، وتاهت في دهاليز السياسة التي لم تعتدها، وترنحت أمام الحدث الجلل الذي كشف عدم جوهزية هذه المعارضة لتحمل مسؤوليتها التاريخية في هذا الوقت العصيب الذي تمر به سورية وشعبها.
لقد فعل الشعب السوري فعلته وانتفض مطالباً بالحرية السياسية والفكرية والاجتماعية والأمنية، وقدم في سبيل هذا الغالي والنفيس من أرواح أبنائه وحرياتهم، وتولى أمر الميدان بمظاهراته السلمية المكلفة جداً، تاركاً السياسة لمن يجيد فن الحديث والفكر والكتابة، واضعاً الثقة بمن تبجحوا لأعوام مضت بمعارضتهم آملين أن يكون الحل السياسي الحاسم في جعبتهم.
لكن انقسام المعارضة بين الداخل والخارج كان له أثر سلبي على الدور القيادي الذي كان يجب أن تضطلع به المعارضة في الوقت الراهن من تاريخ سورية المعاصر، ورغم توحد الأهداف والمصالح والتطلعات المستقبلية بين شقي المعارضة إلا أن اختلاف الموقع الجغرافي والبيئة الحياتية والظروف المعيشية أفرز تنافراً سياسياً بينهما وعزفاً فكرياً منفرداً لكل منهما، هذا التنافر والبعد الفكري رغم إثرائه للحياة السياسية العامة في الأحوال العادية إلا أن ظهوره في هذا الوقت الحساس من التاريخ وبهذه الأوضاع غير الطبيعية على الساحة السورية قد يتحول وبالاً على الثورة السورية ويهدد استمراريتها ونجاحها.
فالمعارضة في الخارج تتكون من مجموعة كبيرة من أبناء سورية الذين ابتعدوا عنها منذ أعوام طويلة عاشوا خلالها في بلاد الديموقراطية والرفاهية والحرية منهم من تقلد فيها مناصب وظيفية مرموقة، ومنهم من تبوأ مراتب علمية وأكاديمية عالية، ومنهم من امتلك المال وكون امبراطوريته المالية، ومنهم البسطاء الذين يكدون لتأمين احتياجاتهم الحياتية، ولكن الجميع على اختلاف مستوياتهم عاشوا في وسط ثقافي وفكري وسياسي حر طبع نظرتهم السياسية للشارع السوري بنوع من الرفاهية الفكرية المتأنية البعيدة جدا عن واقع الحال، ورغم ما يتوافر لهذه المعارضة من حرية التحرك والاتصال والتجمع إلا أن ابتعادهم الجغرافي عن الوطن الأم أثر نوعاً ما في ابتعاد فكرهم عن الأجواء السياسة في الداخل السوري وبالتالي ابتعدوا في توجهاتهم مع اختلاف مرماها عن روح الثورة السورية، وهو ما بدا واضحاً بالحيرة والتخبط الذي شاب مواقف هذه المعارضة وبياناتها المتناقضة وقراراتها المتسرعة التي خرجت بها من مؤتمراتها العديدة التي عقدتها في دول تلونت أصلاً بمواقفها واحتارت بأمرها.
أما المعارضة في الداخل فرغم اقترابها من نبض الشارع ومعايشتها للواقع الميداني والسياسي في البلاد إلا أن الوضع النفسي المرعب الذي تعيش فيه يجعلها مكبلة الأيدي ومقفلة الأفواه، فإذا صدحت بعض الحناجر هنا وهناك نجد أن صوتها رغم منطقية القول إلا أنه ضعيف الفعل، جملة خجولة ونبرته خائفة، لا الإفصاح ديدنه ولا السكوت موطنه، وقد عرف النظام السوري بتربصه بالمعارضين السياسيين وبعائلاتهم كيف يحجم المعارضة السورية في الداخل ويحد من اتساع تأثيرها على الساحة السياسية، وكيف يلجم جماح الناشطين بوضع شبح الاعتقال والتنكيل أمام ناظرهم، ورغم المؤتمرات التي عقدتها معارضة الداخل في دمشق إلا أنها كانت مطعمة بأصوات مؤيدة أحرجت كثيراً المعارضة وأخجلتها في أكثر من موقع ما دفع بعض المعارضين إلى اتخاذ مواقف سياسية أقل ما توصف بأنها مخجلة.
هذا الاختلاف بالموقع الجغرافي والثقافي والبيئي والمعيشي والميداني بين معارضة الداخل ومعارضة الخارج عاب كثيراً ما وصلت إليه الثورة من إنجازات على المستوى الميداني الذي يحتاج إلى عمل سياسي مكثف يتزامن معه ويوازيه لتكلل الثورة بالنصر وتصل إلى أهدافها، ولعل إعلان المعارضة في الخارج عن تشكيل المجلس الوطني السوري من تركيا وإدراج تسع وأربعين شخصية معارضة من الداخل والخارج يشهد لجميعها بنظافة اليد ونصاعة التاريخ، واعتراض المعارضة في الداخل على هذا المجلس بحجة عدم التشاور بل وانسحاب عدد كبير من أعضائه من هذا المجلس إما خوفاً وإما حيرة، يدل بشكل واضح على عدم نضج واكتمال نمو المعارضة السورية وعدم تبلور صورتها النهائية وعدم الانسجام بين قطبيها وهو ما قد يدفع ثمنه الشعب السوري وحده.
ان الثورة السورية اليوم قد وصلت في تكاليفها إلى أعلى مستوى وهي أحوج ما تكون إلى معارضة حقيقية قوية وفاعلة، متحدة وعاملة، لها تأثيرها الشعبي في الداخل كما لها اتصالاتها السياسية في الخارج، وعليها مسؤولية تاريخية تجاه الشعب السوري قد حان الوقت لتتحملها وحان الوقت ليتخذ كل فرد موقعه المناسب لإمكاناته الفكرية وقدراته السياسية ونظرته المستقبلية، وحان الوقت لنقف جميعاً صفاً واحداً وراء أي ممن نستشعر معه بأنه في الموقع الصحيح ويسير بنا في الطريق الصحيح، وحان الوقت ليكون للثورة السورية مجلسها الوطني الانتقالي الموقت الذي سيأخذ بيدها حتى يوصلها إلى صندوق الانتخاب، فهل لنا بهذا المجلس الوطني الذي سيكون بمجرد تشكيله الممثل الشرعي الوحيد للشعب السوري العظيم أمام المجتمع الدولي.
مها بدر الدين
كاتبة سورية
[email protected]