أصبوحة / عصور الظلام (2 من 3) مظاهر الانحطاط الأوروبي

تصغير
تكبير
| وليد الرجيب |

في المقال السابق عرضت لما اصطلح عليه عصور الظلام في التاريخ الأوروبي، الذي من سماته التخلف الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وانحطاط الثقافة والفنون والآداب، وانتشار ما سمي بالشعر الشعبي ومسرح الاسفاف، وكذلك ضعف المؤسسات المدنية والقوانين المنظمة للحياة، وازدراء العلوم والتكنولوجيا, وانتشار الخرافة والجهل والفساد، وأبرز عوامل وأسباب هذه الأوضاع سيطرة رجال الدين (الكنيسة) على الدولة والسياسة والحياة اليومية.

في عصور الظلام الأوروبية تركزت ثروات كبيرة بيد رجال الدين، الذين امتصوا جهد وعرق الفلاحين والبسطاء باسم الدين، ففي بداية تنظيم الدين المسيحي وقبلها اليهودي فرض رجال الدين الـ «Tithe» وهو عشر محصول أو مدخول الانسان لصالح المعبد أو الكنيسة، ليوزع على الفقراء والمحتاجين، ثم أصبح بعدها يحول لصالح رجال الدين، لكن الأمر تطور ليصبح استثمارات ومصارف ضخمة, فاذا أراد المؤمن المسيحي ضمان الجنة المتمثلة برضا رجال الدين يجب عليه الاستثمار في صناديق الكنيسة، واعتبر الاستثمار خارج هذا الاطار مخالفا للدين، بل يصب لصالح الشيطان والفساد, ووصل جشع رجال الدين الى بيع صكوك الغفران، وكان رجال الدين معفيين من الضرائب التي تفرضها قوانين الدول, كما كان لديهم حصانة لا يحاكمون بموجبها في المحاكم، واذا ارتكب أحدهم جريمة يعفى من المحاكمة خصوصا اذا كان يحفظ بعضا من فصول الانجيل.

ومارست الكنيسة ارهاباً فكرياً ضد مخالفي رأيها، وكفرتهم واتهمتهم بالهرطقة, فعذبت محاكم التفتيش معارضيها بوحشية, وأعدمتهم لأسباب واهية.

واستغلت الكنيسة انتشار الجهل لتأويل التعاليم المسيحية بما يناسب مصالحها وسيطرتها على شعوبها، وأصبح رجل الدين مقدسا بصفته وكيل الله على الأرض، ورضا الله من رضا رجل الدين، واحتقر رجال الدين الحوار وكفروا استخدام العقل والمنطق والفلسفة والعلم والتكنولوجيا، واعتبروا الدعوة الى التنوير دعوة للكفر والالحاد، وكان اللافت للنظر أن الكنيسة ابتعدت تماماً عن قيم التسامح الديني، واحترام الأديان الأخرى بما فيها السماوية، بعدما كان عمود الدين المسيحي هو التسامح، لدرجة أنه «اذا صفعت على خد فأدر الخد الأخرى»، لكن الكنيسة أثناء سيطرتها ابان عصور الظلام، أحرقت وخوزقت اليهود وأصحاب المذاهب المسيحية الأخرى غير الكاثوليكية، وجرجرت الشعراء والمفكرين الى المحاكم وصادرت كتبهم وأحرقتها.

كان الامبراطور قسطنطين هو من جعل المسيحية دين الدولة الرومانية في القرن الرابع الميلادي، بعدما قوي نفوذ المسيحيين وكادوا أن يسقطوا الامبراطورية، ومزج قسطنطين التعاليم المسيحية بالتعاليم الوثنية، فجعل مثلاً يوم الأحد يوماً مقدساً عند المسيحيين، وهو بالأساس تقليد وثني وغيرها من الأمور، واستعان برجال الدين وفاوضهم لاقتسام السلطة، فجعلته الكنيسة رئيساً عليها، وممثل الله على الأرض، واستعانوا بمقولة القديس بولص «كل سلطة تقوم بارادة الله, ومن يقاومها يعد مقاوماً لهذه الارادة»، وظل هذا التقليد عبر التاريخ، فملكة انجلترا الحالية هي رئيسة الكنيسة.

عندما بدأت أوروبا تتحرر من سيطرة الامبراطورية الرومانية، كانت عبارة عن قبائل بدائية، ثم تكونت الممالك ولحكم سيطرتها على شعوبها بدأت باستخدام سلاح الدين، وخصوصا في ظل ضعف هذه الدول وتخلف قوانينها، ولاحقاً تشكلت الامبراطورية الرومانية المقدسة التي شملت كل أوروبا، لكن هذا «البعبع» كبر واستقوى وعظم نفوذه، وانقلب السحر على الساحر، فقد دمر رجال الدين كل انجاز حضاري ثقافي روماني، وأصبح الملوك والحكام ألعوبة بأيديهم، وتآمروا على الملوك الذين لا يلبون مصالحهم، أما بالاغتيال أو بتحريض ملوك آخرين عليهم، فقد كان الطابع اللا وطني هو طابع رجال الدين، لم يكن الوطن هو الأهم بل كانت مصالحهم الشخصية والسياسية ونفوذهم أهم من أي قيمة ومبدأ آخر, وسادت السرقات والرشوة والاستيلاء على أراضي الدولة والفلاحين، بحجج كثيرة منها نصرة الدين المسيحي، وما الحروب الصليبية الا تتويجاً لمطامع رجال الدين في الأراضي العربية، التي أسموها أرض اللبن والعسل لفتح شهية الملوك، وحضوا البسطاء والفقراء للاستشهاد من أجل تخليص بيت المقدس من المسلمين الكفار.

لم يكن لسيطرة الكنيسة أن تستمر، لأن سلوكها كان ضد منطق التاريخ وضد مصالح الشعوب، التي كانت تحتاج الى الحرية الشخصية والتحرر الذهني واستخدام المنطق والعقل من أجل التقدم والرفاهية، وقد كان جلياً لهذه الشعوب حجم الدمار والفساد الذي تسبب به رجال الدين لدولهم، فقد عانت من حجر الفكر والابداع، عانت من المرض والفقر والتخلف والفساد والخيانة للأوطان، عانت من هدر أموال دولهم حتى عاشت في فقر مدقع وظلام دامس لقرون، عانت من ضعف الملوك والحكام واذعانهم للكنيسة، فثاروا عليهم وتمردوا وجاءت عصور النهضة والتنوير لتغير مسار التاريخ البشري.، وتجاوز الملوك خوفهم ورهبتهم من رجال الدين، فعزلوهم عن السياسة، مطبقين مقولة منسوبة للمسيح عليه السلام: «مال قيصر لقيصر, ومال الله لله»، وقلصوا دور الكنيسة ونفوذها الى حدود العبادات، وفاوضوهم لاحقاً بأن أبقوا لهم بعض المنافع والامتيازات الاقتصادية، على أن لا يتدخلوا في شؤون ادارة البلاد، وهددوهم بالضرب بيد من حديد اذا ما تجرأوا على ذلك، وتقلصت سلطة البابا السياسية في دولة صغيرة ذات بعد معنوي هي الفاتيكان.

كان للعلماء ولرجال الفكر والأدب والتنوير، دور مهم في عصور النهضة الأوروبية التي اجتاحت العالم وأصبحت أوروبا أهم المراكز التجارية، كذلك كان لجرأة الملوك وحزمهم تجاه رجال الدين دور في ازالة العراقيل وفتح مجاري التقدم العلمي والتكنولوجي والفكري حتى يومنا هذا.

لكن هل انتهت تماماً سلطة الدين؟ بالتأكيد لا، فالحكومات الأوروبية والأميركية وبخاصة أحزاب اليمين، ما زالت تستخدم الدين ورجاله كلما احتاج الأمر لذلك، ورضي رجال الدين بهذا الدور طالما يحصلون على نصيب معقول من المنافع الاقتصادية.


[email protected]

www.alrujaibcenter.com


 

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي