عباقرة تحت 20 / فقد بصره في الثالثة من عمره
برايل... «بصير» أنار حياة المكفوفين
تمثال يخلّد برايل
الفرنسي لويس برايل
| القاهرة - من محمد عبد الفتاح |
خصَّ الله سبحانه وتعالى - بعض البشر بمواهب تميزهم عن غيرهم جعلتهم يبدعون في مجال من المجالات، فعلى مر التاريخ أبدع العباقرة على مختلف أعمارهم - في شتى مجالات الحياة سواء العلمية أو العسكرية أو الفنية.
ونبغ عباقرة لم يبلغوا سن العشرين وبرعوا في تقديم خدمات جليلة للبشرية واختراعات مميزة كان لكثير منها دور كبير في تغيير مسار الحياة المدنية والاقتصادية والاجتماعية. لكن ماذا عن حياة عباقرة تحت العشرين وكيف تربوا، وكيف عاشوا، وكيف بزغت مواهبهم، وكيف تحدوا الصعاب وتغلبوا عليها؟
«الراي» تغوص من خلال هذه السلسلة - في بحار العباقرة الصغار لتسليط الضوء على ابتكارات هؤلاء واختراعاتهم المميزة التي أفادت ولاتزال تفيد البشرية الى يومنا هذا منذ ان كانت مجرد فكرة في أذهانهم الى ان خرجت الى النور ومراحل تطورها. لكن هذه الحلقات ليس الغرض منها التسلية والترفيه في نهار شهر الصيام، لكنها دروس بليغة، نتعلم منها كيف نكتشف الموهبة ونرعاها ونقدم هذه النماذج المشرفة لأبنائنا الصغار كى يستفيدوا منها ويتخذوا من هؤلاء العباقرة قدوة لهم... وحلقة اليوم تحكي عن الفرنسي لويس برايل:
بداية أليمة
في احدى القرى القريبة من العاصمة الفرنسية «باريس» ولد الطفل لويس برايل في العام 1809 لأب فقير يعمل في صناعة الجلود اذ كان يصطحب صغيره الى الورشة التي يعمل فيها كنوع من التفاؤل به، لكن ذات يوم جلس الطفل لويس ولم يكن عمره يتجاوز الثالثة داخل الورشة يلهو ويلعب بمعدات والده مختلفة الأشكال والانواع فيما انشغل والده بانجاز عمله.
لفتت نظر الصغير آلة عجيبة ذات سن مدبب هي المثقاب الذي يستخدمه أبوه في ثقب الجلد السميك.. توجه نحوها وأمسكها بيديه الصغيرتين وراح يلهو بها في فرح بالغ.. وفجأة أفلت المثقاب من يديه واختل توازن الطفل فسقط عليه وانغرس سن المثقاب في احدى عيني لويس ما تسبب في فقدانه البصر فيها نهائيا.
كانت صدمة الأب لا توصف وحزن حزنا شديدا على صغيره وراح يلوم نفسه باعتباره المسؤول عن هذه الكارثة التي حلت بطفله، فتوجه به الى الأطباء في محاولة يائسة للعلاج
ولكن الجميع أكد استحالة اصلاح ما أفسده المثقاب.. لم تتوقف مأساة الطفل الصغير عند هذا الحد بل أصيبت عينه الأخرى بنوع غريب من الالتهاب وفشل علاجها أيضا وسرعان ما فقد لويس برايل بصره نهائيا.
رضيت الأسرة الفقيرة بالأمر الواقع وراحت تخفف من معاناة الطفل بشتى الطرق.. وفي هذه السن المبكرة ورغم الاعاقة أظهر برايل الصغير ذكاء حادا وعبقرية مميزة والتحق بمدرسة قريبة من منزله ليتابع دروسه فيها وسرعان ما تميز بين أقرانه وظهرت موهبته في الحفظ وسرعة البديهة، غير انه لم يتمكن من مواصلة الدراسة فيها بسبب ارتفاع مصروفاتها.
بداية المشوار
وسط حالة اليأس تلك ظهر الأمل مجددا في حياة لويس برايل.. عندما سمع عن مدرسة داخلية للمكفوفين في باريس فتقدم اليها وحصل على منحة للدراسة فيها وبمجرد دخوله لتلك المدرسة راح يتساءل ويفكر في الطريقة التي سيتعلم بها القراءة والكتابة وأطلق لخياله العنان.
وفي المدرسة كانت الأوضاع سيئة للغاية كونها مجانية، فالطلاب لا يحصلون سوى على الخبز فقط والماء للطعام وفي أحيان كثيرة كانوا يتعرضون للضرب المبرح والاهانة من قبل المعلمين.. تحدى الطفل هذه الظروف القاسية وقرر ان يكون له شأن آخر في المستقبل فتفوق في دراسته على نحو أذهل مدرسيه وبفضل ذكائه الحاد نال كل تقدير واحترام وكان أكثر ما تميز فيه هو الموسيقى.
أما القراءة في هذه المدرسة فكانت تعتمد على طريقة تقليدية ابتكرها مؤسس المدرسة «فالنتين ايوي» وكانت تعتمد على طباعة الكلمات بحروفها وأشكالها العادية على ورق سميك وعند الضغط على الورق من جهة تبرز الحروف من الجهة الأخرى ويلمسها الكفيف بأصابعه ويتمكن من قراءتها، وكان في المدرسة 14 كتابا من هذا النوع وجميعها كانت كتبا ضخمة وثقيلة للغاية،
ورغم ذلك قرأها لويس برايل جميعا ولكنه عانى من الاجهاد الشديد فضلا عن البطء المتناهي في القراءة، ودائما ما كان الطلاب لا يستوعبون ما يقرأونه لانهم ببساطة عندما ينتهون من قراءة جملة ينسون بدايتها. لم تعجب هذه الطريقة الفتى برايل لصعوبتها البالغة.
ومن هنا بدأ يفكر في ابتكار طريقة يتمكن من خلالها المكفوفون من القراءة والكتابة في سهولة ويسر.. في البداية حاول ان يحسن من الكتابة البارزة في كتب المدرسة ونجح بالفعل في تطويرها ولكن الكتب بقيت ثقيلة.
فكرة عبقرية
أصبح لويس في ما بعد معلما بنفس المدرسة، وازداد اصرارا على ايجاد نظام أفضل للقراءة الخاصة بالمكفوفين، غير ان ذلك لم يكن سهلا. ففي أحد الأيام، وأثناء زيارته للبيت، قال لأبيه: « الناس المكفوفون هم الأكثر عزلة في العالم، وانا أستطيع تمييز طائر من آخر عن طريق صوته. كما أستطيع معرفة باب البيت بتحسس يدي، ولكن هناك أشياء لا حصر لها لا تمكنني من السماع والتحسس.. ان الكتب فقط تستطيع تحرير المكفوفين لكنه لا توجد كتب كي نقرأها».
وأثناء جلوس لويس في أحد الأيام داخل مطعم مع صديقه الذي كان يقرأ احدى الصحف. قرأ الصديق مقالا عن ضابط في الجيش الفرنسي برتبة رائد يدعي «شارل باربيار»، الذي تمكن من استعمال نظام للكتابة في الظلام أطلق عليه «الكتابة الليلية»، وفيها استعمل نظام النقاط والفواصل، حيث رفعت على الورقة لكي يتمكن الشخص من تحسسها بأصابعه.
وعندما سمع لويس هذا الكلام لمعت في ذهنه العبقري فكرة ستغير مجرى حياة ملايين المكفوفين، وخرج عن وقاره المعهود وراح يرقص ويتحدث بصوت عالٍ لفت اليه انظار الموجودين في المكان وانسابت دموعه من فرط الفرحة.
في الصباح التالي ذهب لويس مع صديقه لرؤية رائد الجيش، حيث سأله عن نظامه وجلس أمامه وسأله في شغف عن طريقته الجديدة، فأخبره بانه خلال الحرب مع الجيش الألماني كانت الظروف تقتضي القيام ببعض المهام العسكرية السرية تحت جنح الظلام وكان الأمر يستدعي استخدام طريقة مشفرة للكتابة يستطيع بها الجنود التخاطب فيما بينهم في الأمور السرية من دون الحاجة للكلام، وهي بان تبرز على ورق سميك أشكالا من النقاط أقصاها «12» نقطة، لكل منها دلالة كلامية معينة وعن طريق اللمس يعرف الجنود تفاصيل مهمتهم وخطة تحركهم وقد استعمل آلة ذات نهاية مدببة لعمل تلك الثقوب أو «النقاط».
وبعد اللقاء قال لويس: انا متأكد من اننا نستطيع استعمال هذا النظام لمساعدة المكفوفين في القراءة مع اعطائهم كتبا.
لقد كان يوما بديعا بالنسبة للفتى العبقري، وفي ما بعد مضى يدرس هذا النظام الجديد لتطبيقه على المكفوفين.. فقد درس طرقا مختلفة لعمل النقاط والفواصل على الورق. وأخيرا توصل الى نظام بسيط استعمل من خلاله ست نقاط خلال فراغ صغير واحد، وبهذه النقاط الست، وبأوضاع مختلفة خلال نفس الفراغ، تمكن من عمل «63» مجموعة مختلفة، أشارت كل مجموعة الى حرف من الأبجدية أو الى كلمة قصيرة. حتى ان هذه المجاميع اشتملت على علامات التنقيط ما دعا لويس الى تأليف كتاب مستعملا نظام «برايل» وكان ذلك في العام 1824 أي ان الفتى العبقري كان في الخامسة عشرة من عمره.
لم يصدق الناس بان نظام لويس برايل كان ممكنا أو عمليا. وفي احدى المرات تكلم الفتى العبقري أمام جمع من الناس وبين كيف تمكن من الكتابة باستعمال تلك النقاط على الورقة تقريبا، بنفس السرعة التي تمكن بها شخص ما من القراءة له. ثم أعاد قراءة ما سبق وكتبه بسهولة. لقد قالوا بان ذلك مستحيل التطبيق. كما قالوا بان لويس تعلم عن ظهر قلب ما قرأه لهم.
واستمر لويس في العمل بنظامه رغم مرضه متحديا الجميع. وفي كل عام كان مرضه يزداد، لكنه استمر يعمل ويعمل بنظامه مطورا اياه. واستنبط الاشارات الخاصة بالرياضيات اضافة الى الموسيقى ففي أحد الأيام كانت بنت مكفوفة منذ ولادتها تعزف على البيانو بشكل بديع جدا أمام جمهور غفير حيث استمتع كل واحد منهم. ثم نهضت الشابة وقالت ان الجمهور لا يجب عليه شكرها لأدائها البديع. يجب عليهم شكر لويس برايل الذي سهل لها طريقة تعلمها الموسيقى والعزف على البيانو.
المثير في الأمر ان لغة برايل أو طريقته في القراءة والكتابة لم ينشر عنها شيء الا في العام 1837، وقد قابلها أعداء النجاح بفتور واضح وكأنهم استكثروا على العبقري الصغير الضرير ان يتوصل الى هذا الانجاز المذهل، وأصبح المدرس أو التلميذ الذي يرغب في تعلمها مطالبا بفعل ذلك خارج ساعات الدراسة الرسمية، وحتى المدرسة التي بدأت فيها طريقة برايل لم تستخدم رسميا الا بعد وفاته بسنين، ولم تقبل طريقة برايل في بريطانيا الا في العام 1869، وأما في أميركا فبدأ استخدامها سنة 1860. وقد عدلت هذه الطريقة بعد العام 1919 وعرفت بطريقة برايل المعدلة.
خصَّ الله سبحانه وتعالى - بعض البشر بمواهب تميزهم عن غيرهم جعلتهم يبدعون في مجال من المجالات، فعلى مر التاريخ أبدع العباقرة على مختلف أعمارهم - في شتى مجالات الحياة سواء العلمية أو العسكرية أو الفنية.
ونبغ عباقرة لم يبلغوا سن العشرين وبرعوا في تقديم خدمات جليلة للبشرية واختراعات مميزة كان لكثير منها دور كبير في تغيير مسار الحياة المدنية والاقتصادية والاجتماعية. لكن ماذا عن حياة عباقرة تحت العشرين وكيف تربوا، وكيف عاشوا، وكيف بزغت مواهبهم، وكيف تحدوا الصعاب وتغلبوا عليها؟
«الراي» تغوص من خلال هذه السلسلة - في بحار العباقرة الصغار لتسليط الضوء على ابتكارات هؤلاء واختراعاتهم المميزة التي أفادت ولاتزال تفيد البشرية الى يومنا هذا منذ ان كانت مجرد فكرة في أذهانهم الى ان خرجت الى النور ومراحل تطورها. لكن هذه الحلقات ليس الغرض منها التسلية والترفيه في نهار شهر الصيام، لكنها دروس بليغة، نتعلم منها كيف نكتشف الموهبة ونرعاها ونقدم هذه النماذج المشرفة لأبنائنا الصغار كى يستفيدوا منها ويتخذوا من هؤلاء العباقرة قدوة لهم... وحلقة اليوم تحكي عن الفرنسي لويس برايل:
بداية أليمة
في احدى القرى القريبة من العاصمة الفرنسية «باريس» ولد الطفل لويس برايل في العام 1809 لأب فقير يعمل في صناعة الجلود اذ كان يصطحب صغيره الى الورشة التي يعمل فيها كنوع من التفاؤل به، لكن ذات يوم جلس الطفل لويس ولم يكن عمره يتجاوز الثالثة داخل الورشة يلهو ويلعب بمعدات والده مختلفة الأشكال والانواع فيما انشغل والده بانجاز عمله.
لفتت نظر الصغير آلة عجيبة ذات سن مدبب هي المثقاب الذي يستخدمه أبوه في ثقب الجلد السميك.. توجه نحوها وأمسكها بيديه الصغيرتين وراح يلهو بها في فرح بالغ.. وفجأة أفلت المثقاب من يديه واختل توازن الطفل فسقط عليه وانغرس سن المثقاب في احدى عيني لويس ما تسبب في فقدانه البصر فيها نهائيا.
كانت صدمة الأب لا توصف وحزن حزنا شديدا على صغيره وراح يلوم نفسه باعتباره المسؤول عن هذه الكارثة التي حلت بطفله، فتوجه به الى الأطباء في محاولة يائسة للعلاج
ولكن الجميع أكد استحالة اصلاح ما أفسده المثقاب.. لم تتوقف مأساة الطفل الصغير عند هذا الحد بل أصيبت عينه الأخرى بنوع غريب من الالتهاب وفشل علاجها أيضا وسرعان ما فقد لويس برايل بصره نهائيا.
رضيت الأسرة الفقيرة بالأمر الواقع وراحت تخفف من معاناة الطفل بشتى الطرق.. وفي هذه السن المبكرة ورغم الاعاقة أظهر برايل الصغير ذكاء حادا وعبقرية مميزة والتحق بمدرسة قريبة من منزله ليتابع دروسه فيها وسرعان ما تميز بين أقرانه وظهرت موهبته في الحفظ وسرعة البديهة، غير انه لم يتمكن من مواصلة الدراسة فيها بسبب ارتفاع مصروفاتها.
بداية المشوار
وسط حالة اليأس تلك ظهر الأمل مجددا في حياة لويس برايل.. عندما سمع عن مدرسة داخلية للمكفوفين في باريس فتقدم اليها وحصل على منحة للدراسة فيها وبمجرد دخوله لتلك المدرسة راح يتساءل ويفكر في الطريقة التي سيتعلم بها القراءة والكتابة وأطلق لخياله العنان.
وفي المدرسة كانت الأوضاع سيئة للغاية كونها مجانية، فالطلاب لا يحصلون سوى على الخبز فقط والماء للطعام وفي أحيان كثيرة كانوا يتعرضون للضرب المبرح والاهانة من قبل المعلمين.. تحدى الطفل هذه الظروف القاسية وقرر ان يكون له شأن آخر في المستقبل فتفوق في دراسته على نحو أذهل مدرسيه وبفضل ذكائه الحاد نال كل تقدير واحترام وكان أكثر ما تميز فيه هو الموسيقى.
أما القراءة في هذه المدرسة فكانت تعتمد على طريقة تقليدية ابتكرها مؤسس المدرسة «فالنتين ايوي» وكانت تعتمد على طباعة الكلمات بحروفها وأشكالها العادية على ورق سميك وعند الضغط على الورق من جهة تبرز الحروف من الجهة الأخرى ويلمسها الكفيف بأصابعه ويتمكن من قراءتها، وكان في المدرسة 14 كتابا من هذا النوع وجميعها كانت كتبا ضخمة وثقيلة للغاية،
ورغم ذلك قرأها لويس برايل جميعا ولكنه عانى من الاجهاد الشديد فضلا عن البطء المتناهي في القراءة، ودائما ما كان الطلاب لا يستوعبون ما يقرأونه لانهم ببساطة عندما ينتهون من قراءة جملة ينسون بدايتها. لم تعجب هذه الطريقة الفتى برايل لصعوبتها البالغة.
ومن هنا بدأ يفكر في ابتكار طريقة يتمكن من خلالها المكفوفون من القراءة والكتابة في سهولة ويسر.. في البداية حاول ان يحسن من الكتابة البارزة في كتب المدرسة ونجح بالفعل في تطويرها ولكن الكتب بقيت ثقيلة.
فكرة عبقرية
أصبح لويس في ما بعد معلما بنفس المدرسة، وازداد اصرارا على ايجاد نظام أفضل للقراءة الخاصة بالمكفوفين، غير ان ذلك لم يكن سهلا. ففي أحد الأيام، وأثناء زيارته للبيت، قال لأبيه: « الناس المكفوفون هم الأكثر عزلة في العالم، وانا أستطيع تمييز طائر من آخر عن طريق صوته. كما أستطيع معرفة باب البيت بتحسس يدي، ولكن هناك أشياء لا حصر لها لا تمكنني من السماع والتحسس.. ان الكتب فقط تستطيع تحرير المكفوفين لكنه لا توجد كتب كي نقرأها».
وأثناء جلوس لويس في أحد الأيام داخل مطعم مع صديقه الذي كان يقرأ احدى الصحف. قرأ الصديق مقالا عن ضابط في الجيش الفرنسي برتبة رائد يدعي «شارل باربيار»، الذي تمكن من استعمال نظام للكتابة في الظلام أطلق عليه «الكتابة الليلية»، وفيها استعمل نظام النقاط والفواصل، حيث رفعت على الورقة لكي يتمكن الشخص من تحسسها بأصابعه.
وعندما سمع لويس هذا الكلام لمعت في ذهنه العبقري فكرة ستغير مجرى حياة ملايين المكفوفين، وخرج عن وقاره المعهود وراح يرقص ويتحدث بصوت عالٍ لفت اليه انظار الموجودين في المكان وانسابت دموعه من فرط الفرحة.
في الصباح التالي ذهب لويس مع صديقه لرؤية رائد الجيش، حيث سأله عن نظامه وجلس أمامه وسأله في شغف عن طريقته الجديدة، فأخبره بانه خلال الحرب مع الجيش الألماني كانت الظروف تقتضي القيام ببعض المهام العسكرية السرية تحت جنح الظلام وكان الأمر يستدعي استخدام طريقة مشفرة للكتابة يستطيع بها الجنود التخاطب فيما بينهم في الأمور السرية من دون الحاجة للكلام، وهي بان تبرز على ورق سميك أشكالا من النقاط أقصاها «12» نقطة، لكل منها دلالة كلامية معينة وعن طريق اللمس يعرف الجنود تفاصيل مهمتهم وخطة تحركهم وقد استعمل آلة ذات نهاية مدببة لعمل تلك الثقوب أو «النقاط».
وبعد اللقاء قال لويس: انا متأكد من اننا نستطيع استعمال هذا النظام لمساعدة المكفوفين في القراءة مع اعطائهم كتبا.
لقد كان يوما بديعا بالنسبة للفتى العبقري، وفي ما بعد مضى يدرس هذا النظام الجديد لتطبيقه على المكفوفين.. فقد درس طرقا مختلفة لعمل النقاط والفواصل على الورق. وأخيرا توصل الى نظام بسيط استعمل من خلاله ست نقاط خلال فراغ صغير واحد، وبهذه النقاط الست، وبأوضاع مختلفة خلال نفس الفراغ، تمكن من عمل «63» مجموعة مختلفة، أشارت كل مجموعة الى حرف من الأبجدية أو الى كلمة قصيرة. حتى ان هذه المجاميع اشتملت على علامات التنقيط ما دعا لويس الى تأليف كتاب مستعملا نظام «برايل» وكان ذلك في العام 1824 أي ان الفتى العبقري كان في الخامسة عشرة من عمره.
لم يصدق الناس بان نظام لويس برايل كان ممكنا أو عمليا. وفي احدى المرات تكلم الفتى العبقري أمام جمع من الناس وبين كيف تمكن من الكتابة باستعمال تلك النقاط على الورقة تقريبا، بنفس السرعة التي تمكن بها شخص ما من القراءة له. ثم أعاد قراءة ما سبق وكتبه بسهولة. لقد قالوا بان ذلك مستحيل التطبيق. كما قالوا بان لويس تعلم عن ظهر قلب ما قرأه لهم.
واستمر لويس في العمل بنظامه رغم مرضه متحديا الجميع. وفي كل عام كان مرضه يزداد، لكنه استمر يعمل ويعمل بنظامه مطورا اياه. واستنبط الاشارات الخاصة بالرياضيات اضافة الى الموسيقى ففي أحد الأيام كانت بنت مكفوفة منذ ولادتها تعزف على البيانو بشكل بديع جدا أمام جمهور غفير حيث استمتع كل واحد منهم. ثم نهضت الشابة وقالت ان الجمهور لا يجب عليه شكرها لأدائها البديع. يجب عليهم شكر لويس برايل الذي سهل لها طريقة تعلمها الموسيقى والعزف على البيانو.
المثير في الأمر ان لغة برايل أو طريقته في القراءة والكتابة لم ينشر عنها شيء الا في العام 1837، وقد قابلها أعداء النجاح بفتور واضح وكأنهم استكثروا على العبقري الصغير الضرير ان يتوصل الى هذا الانجاز المذهل، وأصبح المدرس أو التلميذ الذي يرغب في تعلمها مطالبا بفعل ذلك خارج ساعات الدراسة الرسمية، وحتى المدرسة التي بدأت فيها طريقة برايل لم تستخدم رسميا الا بعد وفاته بسنين، ولم تقبل طريقة برايل في بريطانيا الا في العام 1869، وأما في أميركا فبدأ استخدامها سنة 1860. وقد عدلت هذه الطريقة بعد العام 1919 وعرفت بطريقة برايل المعدلة.