الدكتور أحمد درويش لـ «الراي»: حال النقد الأدبي تدهور ... والناقد الصحيح يحتاج إلى جهد كبير
لم يأب العام الماضي أن ينتهي... من دون أن يثير معركة ثقافية جديدة ، فقد خرجت إحدى الصحف المصرية الأسبوعية وبها مقال للكاتب محمود علي بعنوان «اغتصبوا كتابي روايات شوقي المجهولة في احتفالية المجلس الأعلى للثقافة»، متهما مقرر لجنة الدراسات اللغوية بالمجلس ووكيل كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة الدكتور أحمد درويش بأنه قام بتلخيص دراسته، ووضعها في مقدمة الكتاب الذي أصدره المجلس في الاحتفالية التي أقامها للشاعرين أحمد شوقي وحافظ إبراهيم ، كما اتهمه بأنه لم يتعامل معه كمصدر أساسي.
الدكتور أحمد درويش من جهته أكد في الحوار الذي أجرته «الراي» معه... على أنه «لم يغتصب هذا الكتاب، وأن أعمال شوقي الروائية ليست مجهولة كما ادعى صاحب المقال، وأنها قد نشرت مرات عدة قبل ذلك... وهذا نص ما دار معه من حوار:
• ماذا كان انطباعك بعد قراءة المقال الذي اتهمت فيه باغتصاب أحد الكتب التي صدرت عن أحمد شوقي وضمها إلى كتابك؟
- شعرت باستغراب لقدرة بعض الناس على الادعاء بل والتبجح في محاولة قلب الحقائق والبحث لأنفسهم عن مكان تحت الأضواء بأي ثمن حتى لوكان ذلك على حساب احترام القيم والالتزام بما يمليه التعامل في مجال رفيع مثل مجال تراث أمير الشعراء.
• هل كنت تعرف كاتب هذا الكتاب من قبل، وما صحة هذه الاتهامات التي وجهت إليك؟
- لم أكن أعرف من قبل من هو محمد علي... وظننت حين قرأت مقدمته لما أسماه «روايات شوقي المجهولة» ـ وهي ليست مجهولة ـ والتي أعاد فيها ما هو مطروح من دون مقدرة على ترتيب الأفكار ـ لا حتى إعادة عرضها ـ بطريقة صحيحة.
فالروايات قد طبعت من قبل مرات عدة، ولكنني كنت أظن أنني أمام ناقد مبتدئ صغير السن يتلمس طريقه ، فرأيت أن أشجعه بأن اشير إلى عمله في صلب مقدمتي، لا في هوامشها، رغم أن الروايات ليست مجهولة كما سبق أن قلت، وفضلت ألا أذكر ملاحظاتي على مقدمته تشجيعا مني للنقاد المبتدئين، ولكني فوجئت مع نشر المقال بصورة رجل يقارب السبعين، كما فوجئت بأن نفس عدد الجريدة التي فيها المقال به صفحة كاملة لهذا الناقد عن تاريخ فيلمي «درب الهوى» و«خمسة باب» وهما من الأفلام التي تعرضت لهجوم نقدي وفني ومجتمعي.
ووجدت أنه في مقاله يدافع عن هذه الأفلام ما دامت تحقق إيرادات، وأدركت أنه من الخلط الشديد أن نترك نثر أمير الشعراء في يد من لم تؤهلهم قدراتهم لنقد هذا التراث.
• ما الجديد الذي قدمته في مقدمتك للأعمال النثرية... وهل يختلف عما قدم من قبل؟
- لقد حرصت فيها على إثارة التساؤلات الكبرى الجديدة في مجال تخصصي في النقد الأدبي والأدب المقارن، فتحا لآفاق جديدة من الدراسات حول تراث شوقي وحافظ.
كذلك حرصت في المقدمة على أن أثير عددا من القضايا النقدية المتصلة بدور شوقي في نشأة الرواية العربية، وأهمها هي أن شوقي تنبه إلى أهمية عنصر الرواية في روائع الشعر العربي القديم، واستخدم مصطلح الرواية ربما للمرة الأولى ، كذلك تحطيمه لفكرة الفصل التعسفي بين الشاعر ومجالات الإبداع الروائي واستشهاده بكبار الشعراء الفرنسيين... الذين صدرت عنهم روائع روائية مثل البؤساء لفكتور هوجو، و«اعترافات فتى العصر» لألفريد دي موسيه.
وأيضا تنبه شوقي إلى التطور الذي حدث عند متلقي الأدب في عصره، الذي لم يعد ينتمي فقط إلى عالم الشيوخ وطلاب الأزهر المتخصصين في الأدب واللغة، وإنما ظهر عنصران جديدان.
الأول... المرأة التي كان ظهورها في عالم القراء هو العنصر الأساسي في ظهور الرواية الغربية في أعقاب عصر النهضة.
والعنصر الثاني... هم الأطفال الذين قال عنهم شوقي «أتمنى» لو وفقني الله لأجعل للأطفال المصريين مثلما جعل الشعراء للأطفال في البلاد المتمدينة ، منظومة قريبة التناول يأخذون الحكمة والأدب من خلالها على قدر عقولهم” وكان التوجه لهذه الطائفة من القراء سببا لكتابته لحكايات الأطفال والقصة على لسان الحيوان.
وأيضا أشرت في مقدمتي إلى تقديم شوقي في رواياته للنموذج المكاني والزماني لمهاد الرواية التاريخية في مصر، عندما اختار مصر الفرعونية منطلقا لروايتة الأولى، وأعلن عن خطته لكتابة سلسلة طويلة من الروايات التاريخية.
وهذه هي الخطة التي حاولها بعده الدكتور محمد حسين هيكل... في كتابة الرواية على أساسها، وإن كان قد بدأ بحاضر مصر، واتبعه فيها نجيب محفوظ حين بدأ إنتاجه برواياته الفرعونية الثلاث.
• أعتقد أن الخلاف حول مقدمته يمكن أن يكون مدخلا لقضية أكبر قد تكون سبب الكثير من الأزمات التي تعاني منها الساحة الأدبية... وهي حال النقد في مصر والوطن العربي عموما، كيف تراه الآن؟
- حال النقد الأدبي عندنا تدهور كثيرا، ربما لأن الناقد الصحيح يحتاج إلى جهد كبير، وإلى بنية قوية في المجتمع، فالناقد في جوهره... هو الرأي المحلل الموجه الذي قد يكون مخالفاً للسائد، ويمتلك شجاعة التصريح واقتراح التصورات الجديدة.
وهذا النوع من النقد يحتاج إلى مجتمعات لا تفسح مجالات كبيرة للشللية ولا النفاق، ولاتسمح بدخول غير المؤهلين إلى مجال لم يستعدوا له، وهذا ما لا تنطبق كثير من شروطه على واقعنا الحالي.
فأدعياء النقد أكثر من النقاد الحقيقيين لدرجة أن كل من يجد نفسه قادرا على القراءة والكتابة ويجد عمودا في إحدى الصحف يظن أنه ناقد ، وقد كان النقاد الكبار قديما يقولون لنا إن الكلمة «مسؤولية».
ولهذا كنا نرى أن مصطلح النقد نفسه كان يطلق قديما على خبير العملة المعدنية الذي يستطيع التفرقة بين العملة الزائفة من الحقيقية.
ونحن إذا فتحنا الباب أمام غير المؤهلين فكأننا أعطينا مشرطا لمن لا يتخصص في الطب... أو أدوات بناء وتخطيطا لمن لا يعرف في الهندسة.
• أنت أستاذ جامعي وناقد وهناك انتقاد كبير يوجه لمن يطلق عليهم النقاد الأكاديميون... بأنهم جزء من أزمة النقد التي نعيشها... ما تعليقك على ذلك؟
- هناك جزء كبير من المسؤولية يقع على النقاد أنفسهم فالبعض منهم يغرق في فهم معنى أكاديمية النقد، ولا يبذلون جهدا لكي يوصلوا محتوى نقدهم للمتلقي.
وأنا أرى أن أقرب تشبيه لما يصنعه بعض المغالين في هذا الاتجاه هي حال الطبيب الذي يقف على رأس المريض، ويقرأ عليه ما درسه في كتب الطب قبل أن يقوم بتشخيص الحالة وانتقاء الدواء الملائم لمعالجتها، وأنا أعتقد أنه من التحديات المفروضة على النقاد الأكاديميين... محاولة الموازنة بين دقة وصحة ما يقولون وبساطة عرضه وتوصيله للمتلقي.
وأحد النقاد الفرنسيين كان يقول: ليس الأدب الجديد أن نقول الأشياء البسيطة بلغة معقدة... إنما الأدب الجيد هو أن نقول الأشياء العميقة بلغة بسيطة.
• لدينا كم كبير من النقاد والإبداع ولكن حتى الآن ليست لدينا نظرية عربية في النقد. متى يمكننا أن نقدم نظرية عربية نقدية؟
- لا توجد نظرية تولد بين يوم وليلة ومنذ فترة طويلة ناديت بنظرية عربية فنحن لدينا ركام من البلاغة أخذ قرونا طويلة حتى يتكون... الأوروبيون أعادوا إحياء البلاغة القديمة وأنشأوا ما سمي بالبلاغة الوسيطة.
أما نحن فقمنا بإلغاء ماضينا وأصبح من يتكلم عن التراث وما فيه يقولون إنه شيخ أزهري، والأكثر من ذلك أننا لم نستفد من النظريات الحديثة، وهذا أحدث شللاً في اللغة العربية.
فقد هيئ للناقد أن عنصر اللغة غير مهم، وأن الحكاية هي المهمة، وكانت النتيجة هي زيادة الفجوة بين القارئ والنص فقد أصبح لا يفهم النص ولا الناقد.
• هناك هجوم... يوجه للكتاب الجدد وطريقة تعاملهم مع اللغة وكذلك ما يحدث للغة العربية من تفكيك في مختلف أقطار الوطن العربي؟
- هذا شيء مقصود ومخطط له تخطيطا علميا فمسألة فك الارتباط من الداخل بفكرة اللغة الموحدة لكيان جغرافي واقتصادي... موجودة ونواجهها وقد وجدت طريقها لدينا عن طريق تشجيع النزاعات المحلية في اللغة وتشجيع الاغتراب، والوقت الذي نجد فيه كتلا جغرافية أخرى تبحث عن وسائل للتقريب اللغوي وأرضية مشتركة للتفكير واتخاذ القرارات.
وهذا هو الشيء الذي نُضرب به الآن فهناك تفتيت لأي تقارب لغوي يجمعنا وإذا استمر الأمر على ذلك المنوال سيكون لدينا أكثر من 10 لغات ولهجات.
وهو ما يعطي منظمة اليونيسكو تأكيدات تمكنها من أن تعلن في القرن الحادي والعشرين «موت» اللغة العربية كما ماتت 300 لغة في القرن العشرين، وتسمح للأمم المتحدة أن تقوم بتنفيذ ما تفكر فيه الآن، وتلغي استخدام العربية من بين لغاتها الرسمية، لأن معظم العرب لا يتحدثون بها في المحافل الدولية .
• هل أنت متابع لكتابات شباب الروائيين؟
- على قدر المستطاع، وأعتقد أن بها جوانب إيجابية كثيرة، فبعض هذه الأعمال تقوم برصد نبض المجتمع فقد اقتربت كثيرا من طبقات المجتمع المهمشة والتجمعات العشوائية وحالات الإحباط الفردي أو الجماعي نتيجة للتطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المحلية والعالمية.
وسنجد هذه الأعمال القصصية والروائية تلعب دورا مهما في رصد النبض الإنساني في هذه الفترة، وأنا أريد أن أؤكد على أن بعض هذه الأعمال هي التي تقوم بهذا الدور لأنه يدخل على هذه الموجة الكثير من غير الموهوبين والأدعياء أو الباحثين عن الشهرة ولفت الأنظار وذلك بافتعال موجات تمرد ضد الثوابت أو الإغراق في الحديث عن الجنس والدين.
أوغيرها من الظواهر التي يكون مردها هو البحث عن فرصة للظهور ولفت الانتباه أكثر من كونها تضيف بعداً حقيقيا للأدب ، كما أنني أريد أن أؤكد مرة أخرى على وجود أدباء موهوبين وإن كانوا بحاجة لحوار جاد مع الحركة النقدية بعيدة النظر.
• ما رأيك في ما يقال حول أن أجيال الستينات قد استنفدت ما لديها ولم تعد تقدم أي جديد للساحة الأدبية؟
- أنا أولا ضد تصنيف الأجيال على مستوى العقود، ومن الصعب جدا في تاريخ أدب كالأدب العربي تعود على أن تكون نظرته ممتدة عبر القرون... أن يكون كل طموحه في تصنيف الأدب لعشر سنوات ومن ينتمي إليها.
أنا أظن أن الأدب الذي يصدر عن روح مبدعه ويخضع لقوة الموهبة وجدة العمل ويمر بتجربة الحوار الخلاق يستطيع بسهولة أن يتجاوز مثل هذه الحواجز الضيقة.
ونحن قد احتفلنا العام الماضي في مصر والعالم العربي باليوبيل الماسي لحافظ وشوقي... لأننا نرى أن ما كتباه من إنتاج مازال متألقاً، وأن ما كتب قبلهم بقرون إذا تحققت فيه شروط الإبداع الجيد يبدو أقرب إلى نفوسنا مما كتب بالأمس القريب ولم يستوف شروط الموهبة والعمل الجاد.