مشاهد / إني أتهم!

تصغير
تكبير
| يوسف القعيد |

«جمعوا الجنود في مكان، والضباط في مكان آخر، ثم بدأوا يحضرون رشاشاتهم لإطلاقها على الجنود... وقف الضباط وكانوا قد تخلصوا من رتبهم مذعورين».

هذا جزء من شهادة «محمد حسين يونس»... في نصه «خطوات على الأرض المحبوسة». والمؤلف مولود في القاهرة في الثالث من مارس سنة 1940. وحاصل على بكالوريوس العمارة في سنة 1962. وعمل في القوات المسلحة حتى أكتوبر سنة 1970. ثم أحيل إلى المعاش برتبة رائد.

وخطوات على الأرض المحبوسة الذي يقدم تجربة الأسر... تحت نير الجيش الإسرائيلي في حرب الخامس من يونيو 1967 نص محير. فهو ليس رواية. ولا مذكرات لتجربة الأسر. ولكنه نوع من التسجيل الحر عفوي الخاطر بعيداً عن أي شكل فني لتجربة إنسانية من الصعب الكتابة عنها لمن لم يمر بها بنفسه. ففي حياة الإنسان تجربتان من الصعب الكتابة عنهما إلا من خلال التجربة الحية والمعايشة. وهما: تجربتا الحرب والسجن. والأسر جزء جوهري من تجربة الحرب إن لم يكن تتويجاً لها. أو نهاية للعملية العسكرية نفسها.

ومحمد حسين يونس... ليس هو الوحيد الذي كتب عن تجربة الأسر لدى القوات الإسرائيلية... فؤاد حجازي... له أكثر من نص يدور حول التجربة نفسها... منها: «الأسرى يقيمون المتاريس». وأعتقد أن روايته الأخرى هي: «القرفصاء».

«خطوات على الأرض المحبوسة»... نص إذن. لن أتفق مع الشاعر المرحوم محسن الخياط الذي قال في مقدمته لهذه الرواية إنها رواية تسجيلية. وأنا أقول إنها نص يقدم مادة خاما جيدة يمكن أن تستخدم في كتابة نص روائي بعد ذلك.

وهذا العمل ليس حديث الصدور.... فقد أصدرته دار المستقبل العربي سنة 1983، وصمم غلافه الفنان الراحل: سعد عبد الوهاب. حيث ركز على عبقرية الخط العربي واكتفى بذلك. ويومها كتب كثيرون عن العمل وقت صدوره، وقد تصفحته، وقامت بيني وبينه – في ذلك الوقت – علو نبرة الاتهام لثوار يوليو... بسبب هزيمة الخامس من يونيو. وربما كان هذا هو السبب في عدم قراءة النص وقت وصوله إليّ. اعتبرته جزءاً من الحملات الظالمة ضد ثورة يوليو.

كان يرى... أن الهزيمة هي هزيمة مجتمع بأكمله. وليست مجرد هزيمة جيش فقط. وكان يتحدث عن الديموقراطية الغائبة في تجربة يوليو. ولعل هذا ما دفع الشاعر محسن الخياط لأن يقول في مقدمته المكتوبة في آخر يوم من ديسمبر سنة 1982:

- إن هذا العمل التسجيلي الروائي قد كتب بإحساس شاعر وروح فنان. عاش لحظة حرجة في تاريخ الشعب المصري. وهو أحياناً لفرط حساسيته يسخر من نفسه، يعريها ويصلبها ويلفحها بالكرباج. حتى تبدو لعينيه الحقيقة المختفية تحت جلده.

إنها – يكمل محسن الخياط – لحظة صدق قد نتفق أو نختلف في تفسير بعض ظواهرها. ولكنها في النهاية حرية الرأي وحرية التعبير بما ينير الطريق إلى المستقبل.

عندما أتاني هذا الكتاب من دار المستقبل العربي وهي دار ذات انحياز فكري محدد منذ نشأتها وحتى الآن. لم أبحر فيه حتى نهايته. وتصورت مع القراءة السريعة له في السنوات الأولى من الثمانينات... أن المؤلف يكتب عن التجربة الناصرية ولكن من خارجها وهذا يختلف عن الذي يكتب عن نفس التجربة وكل ما قدمته ولكن من داخلها.

وهكذا باعدت الظروف بيني وبين هذا الكتاب... إلى أن وجدنا أنفسنا وجهاً لوجه مع ما قام به جيش «الدفاع» الإسرائيلي مع بعض أسرى حروب 48، 56، 67 ... بل مع المصريين الأسرى الذين أسروا اخيراً في معسكرات جنوب لبنان... فقد قتلت إسرائيل منذ شهور مضت خمسة عشر مصريا كانوا في أحد هذه المعسكرات. ووكالات الأنباء حملت هذه الأخبار بعد الإعلان الفاضح عن القتل القديم للأسرى المصريين.

وأنا عن نفسي... لست في حاجة إلى مثل هذه الوقائع من أجل أن أزكي الإحساس بالعداوة تجاه الإسرائيليين. فلن تمُحى من ذاكرتي أبداً. السنوات التسع التي قضيتها في الخنادق بين هزيمة يونيو ويقظة أكتوبر.

وأيضاً... فإن ما أعلن عنه أحيا في الفؤاد ذكرى المفقودين في حروبنا مع إسرائيل. ما من حرب مضت إلا وتركت أكثر من مفقود من قريتي الضهرية. والمفقود هو الغائب الذي لابد، وأن يظل غائباً إلى الأبد... دون أن ينال شرف الاستشهاد. وحتى زوجته من الصعب عليها أن تتزوج. وأهله لا يجدون أمامهم سوى ذلك الصبر الأيوبي الذي بلا نهاية.

في قريتي مفقودون من «48، 56، 67»... مازالوا حتى هذه اللحظة تحت هذا العنوان: مفقودون. وسيظلون كذلك حتى إشعار آخر. أو حتى حسم هذه المعركة الجـــديدة... التي أعلن عنها ضابط إسرائيلي... ليس حبا في سواد أعين المصريين، ولكن كجزء من الحرب الجهنمية في إسرائيل كنوع من الاستعداد... لكل انتخابات في إسرائيل. أو تصفية الحسابات بينهم.

لقد أحيت هذه القضية الأمل القديم... في معرفة مصير كل مفقود مصري طال فقده... على الأقل سيعرف أهالي المفقودين أنهم قتلوا وهم عزل من السلاح. وأنهم أجبروا على حفر قبورهم بأيديهم قبل قتلهم.

ما إن أثيرت هذه القضية... حتى تذكرت على الفور رواية محمد حسين يونس. وخطواته على الأرض المحبوسة. وهو يقصد بهذه الأرض فلسطين المحتلة. التي قام الإسرائيليون باحتجازهم فيها... وأقاموا لهم جولات فوق أرضها كنوع من الدعاية لإسرائيل.

وتذكرت روايتي فؤاد حجازي... ذلك أن الذين كتبوا عن تجربة الحرب كثيرون. ولكن من تناول حكاية الأسر أقل من القليل... لأن الذين حاربوا قد يصلون إلى الملايين في حين أن من أسروا يعدون بالمئات أو الآلاف فقط.

كان من الصعب العثور على رواية «خطوات على الأرض»... فعند كل منا مكتبة مهمة. ولكنها غير منظمة، وعند البحث عن كتاب معين. يصبح شراؤه من جديد هو الحل الأكثر سهولة. وإن كان العثور على رواية يونس صعباً.

فقد كان ذلك بالنسبة لفؤاد حجـــازي يصل إلى حد الاستحالة... ذلك أن روايتيه «مطبوعات فقيرة»... صدرت في المنصورة غالباً. ولم يهتم أحد من ناشري القاهرة بإعادة طبعها من جديد.

نزلت إلى المكتبات أبغي شراء ما أجده من هذه الأعمال. روايتي فؤاد حجازي لم يكن لهما وجود. ورواية حسين يونس قيل لي إنها نفدت. ذلك أنها نشرت منذ ربع قرن.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي