الاستاذ الدكتور مفيد الصواف / سورية: أبعد من الإصلاح

تصغير
تكبير
في أقسى حرب في تاريخها الحديث تصمد سورية وتنتصر. حرب أشد خطورة من حرب تشرين لعام 1973 لأنها، أي الحرب الحالية، تنطلق من جبهتين: داخلية وخارجية، تندفع برؤوس متعددة تَوَهّمَ اصحابها ان سورية شارفت السقوط وان اعادة تشكيل صورة الشرق الاوسط وفق أهواء هؤلاء صارت قاب قوسين او أدنى. والبعض يريد ان يُضفي عليها ما يوصف في الغرب بأنه «ربيع عربي» حتى يستطيع تمرير ما لا يمكن ان يتخيله أبداً أصحاب النوايا الحسنة الصادقون في الدعوة الى الاصلاح، وأصحاب الطوايا السليمة الذين أحسوا، في أيام قليلة فقط، بأن من يساندهم من الخارج لديه أجندة ليس لها أي علاقة بتحسين أحوال سورية.

ومن الداخل والخارج كانت الحرب المزدوجة متعددة الرؤوس والمسارات والمواقع والنقاط الحدودية: من درعا في الجنوب الى بانياس في الغرب الى جسر الشغور في الشمال الغربي وصولا الى معرة النعمان، الى حمص وتلكلخ في الوسط الشمالي القريب من لبنان الى البوكمال ودير الزور في الشمال الشرقي. وتحت هذا الزعم انكشف ما كان باطنا من بعض ذوي القربى ومن «الأغراب» (جمع غرب) واستُلّت السيوف أملا في ان يُثخنوا سورية بالجراح حتى تسقط. لكنها صمدت وانتقلت الى الهجوم المضاد.

سورية ليست مصر حسني مبارك وتونس زين العابدين بن علي. إنما هي مختلفة عنهما في كثير من القضايا الجوهرية. وإسقاطها يريح الكثيرين إقليميا ودوليا من موجبات حل عادل للنزاع في الشرق الاوسط. والساعين الى اصدار قرار دولي جديد يشدد الحصار على سورية أملا في جعلها ليبيا ثانية اصطدموا، أولا، بالتماسك الداخلي الذي عزل الجماعات الارهابية المتمردة، وثانيا بموقفي روسيا والصين اللتين شاهدتا كيف تطبق بريطانيا وفرنسا مضمون القرار 1973 بشأن ليبيا. وهكذا لا يمكن تصديق رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون وهو ينفي اي استهداف شخصي للعقيد معمر القذافي. فلماذا التدمير الشامل لمقر القيادة الليبية في باب العزيزية في غارات يومية؟ ولماذا قتل احد ابناء القذافي وثلاثة من أحفاده؟ أبهذه الطريقة يريدون لسورية ان تكون عرضة لقرار دولي تطبقه فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة و«اضرابها»؟ ومن الذي أعطى جميع المتدخلين في الشأن السوري الداخلي الحق في تقرير شرعية نظام الحكم في دمشق؟ ألم يَرَ هؤلاء تضامن الشعب في سورية مع القوات المسلحة وقوى الأمن الداخلي في التصدي للجماعات الارهابية؟ ولماذا يفضل المتدخلون «عرقنة» سورية؟ لمصلحة سورية وعربية؟ لماذا يتجاهلون القرارات الاصلاحية التي ذهبت الى أبعد مما تخيله المطالبون بالاصلاح؟ أم ان هناك ما هو أبعد من الاصلاح، ومن «أَكَمَة» الدفاع المزعوم عن حقوق الانسان؟

سورية ليست مصر لأن هذه الاخيرة أُخرجت من الصراع العربي - الاسرائيلي منذ ما قبل توقيع اتفاق كامب ديفيد. وسورية ليست تونس لأن هذه الاخيرة كانت علاقتها بالصراع ضعيفة جدا الى حد الاستقالة لولا احتضان، لا يحمي من اي عدوان اسرائيلي، لبعض مكاتب «فتح» و«منظمة التحرير». سورية هي سورية التي أثبتت نهائيا لإسرائيل انها مهما اكتسب من قدرات عسكرية لن تستطيع ان تفرض على العرب بالقوة العسكرية حلا للنزاع يهضم أدنى جزء من حقوقهم المشروعة. أفلم تكن سورية هي القاعدة الخلفية للمقاومة اللبنانية التي أجبرت اسرائيل بالقوة العسكرية على ان تطبق القرار الدولي الوحيد، أي القرار 425 الذي ينص على سحب غير مشروط لجيش الاحتلال من جنوب لبنان؟ وهل طبقت اسرائيل قرارا دوليا واحدا غير ذلك القرار؟ أَفَلَمْ تكن سورية القاعدة الخلفية للمقاومة اللبنانية التي أثبتت مرة جديدة في عام ألفين وستة أن الجيش الاسرائيلي سوف يبقى، مهما اكتسف من قدرات، عاجزا نهائيا عن احتلال اي شبر من أرض عربية؟

الغرب الذي هو مستعد، في السياسة الخارجية خصوصا في ما يتصل بالشرق الاوسط، لأن يبيع كل مبادئه بعقد لشركة تجارية، هل هو المرجع الصالح لتقرير طبيعة الاصلاح في سورية؟

ما نورده الآن لا يرمي الى اي دفاع عن العقيد معمر القذافي وإنما الى استعراض جزء من العلاقة الطريفة بينه وبين الغرب! فما رأيكم بالسناتور «الجمهوري» الاميركي جون ماكين؟ قبل الاضطرابات الاخيرة في ليبيا كان معجبا بالعقيد معمر القذافي. لكن لماذا؟ لأن هذا الاخير تخلى للولايات المتحدة عن برنامجه النووي فصار مذاق النفط الليبي «أحلى» في أفواه الاميركيين. وللغرض نفسه جاء جون ماكين الى بنغازي. لكن لماذا تغيرت قناعة ماكين؟ لأنه أي ماكين جاء الى المعارضة الليبية في بنغازي، وليس معروفا ما اذا كانت هذه المعارضة ترفع شعارات تتطابق مع دستور الولايات المتحدة، جاء ممثلا لأكبر خمس شركات نفط أميركية. هذه هي حقوق الانسان بمفهوم ماكين والولايات المتحدة. ولأنه كان مهتما بحقوق الانسان كثيرا في بنغازي فهو لم يسمع شيئا عن التصفيات الجسدية اليومية للمتهمين بأنهم أنصار القذافي. لم يهتم بأن المجلس الوطني الانتقالي هو مجرد ائتلاف لجماعات لا يجمع بينها سوى العداء للقذافي، وأن هذا المجلس هو مجرد واجهة لجماعات مسلحة غير مؤتلفة مشكوك في طبيعتها. في العام ألفين وسبعة وصف الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي القذافي بأنه رجل يمكن التعامل معه. فكيف هبطت على قلب ساركوزي هذه الرحمة على الشعب الليبي؟ ألا يتذكر احد ان وزير الخارجية الفرنسية السابقة ميشال أليو - ماري عرضت على الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي في بداية الاضطرابات في بلاده تعاونا أمنيا؟ لماذا أقالها ساركوزي ولم يستقل هو الذي يحتكر كل شيء في تقرير السياسة الخارجية الفرنسية؟ لسنا ندافع أبدا عن القذافي أو عن بن علي. وإنما هي اعادة تذكير بسياسة المصالح التي لا ينكرها الغرب وإنما يتجاهل صفة «الدنيئة» التي تليق بها. ويحق لنا أيضا ان نتساءل: ألم يشاهد الرئيس الفرنسي وأمثاله في الغرب المجازر التي ارتكبتها الجماعات الارهابية في محافظات درعا واللاذقية وإدلب بحق مدنيين وأفراد قوى الأمن؟

ولأن التجاهل كان فاقعا، جاء الموقف المشترك من الصين وروسيا والهند برفض احالة الموضوع السوري الى مجلس الأمن. أفلا يلاحظ هنا ان الدول الثلاث، وهي فقط على سبيل المثال لا الحصر، التي تمثل حوالي نصف سكان الكرة الأرضية ترفض التدخل الخارجي في سورية؟ ألا يلاحظ المتدخلون بأن هناك من يرفض منطق «التغيير بأي ثمن في العالم العربي»؟ ألا يلاحظون أيضا ان هناك قوى مؤثرة جدا ترفض المساواة بين ما في سورية وما في غيرها؟

ولأن المساواة هي اكثر من مصطنعة فإن النتيجة سوف تكون مختلفة جوهريا. والاختلاف هو ما يجعل سورية أقوى من الأزمة. والاختلاف هو الذي يُمكّن سورية من ان تلجم تدخلات المتطلعين الى ما هو أبعد بكثير من الاصلاح.



الأستاذ الدكتور مفيد الصواف

عضو اللجنة الإدارية لجمعية الأطباء

الأميركيين العرب
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي