مقال / الشيخ مبارك عبدالله المبارك / إلى والدي ومعلمي

تصغير
تكبير
بقلم الشيخ مبارك عبدالله المبارك

أكتب إليك في ذكراك العشرين ذكرى رحيلك عنا ونستلهم من كل ذكرى لك تجدد الحياة وانبعاثك فينا مجموعة من قيم ومبادئ عشنا لأجلها وناضلت وغادرتنا آملاً ان تبقى معنا استمراراً لنهجك وهذا ما عاهدنا الله عليه وعاهدناك.

اكتب لك اليوم وفي داخلي يرتسم السؤال! لماذا بعد عشرين سنة على غيابك أكتب؟ وأجيب... انني أكتب لك، نعم لك وليس عنك... فمن كتب عنك طيلة هذه الفترة كان أدق تعبيراً وأكثر عمقاً وصدقاً... انها الوالدة الحنون... رفيقة دربك وشريكة حياتك... هي من كتب ما يليق بك وبتاريخك مخزوناً من الكتب والمقالات وقصائد الشعر في حياتك وبعد غيابك... والتي كنا نستشرف في كل خاتمة من خواتيمها اننا على موعد مع المزيد مما يزخر به تاريخك ويفيض به قلبها وقلمها.

 أكتب لك يا والدي... يا من سكنت القلب وكان لك من العقل والفكر الحيز الأكبر. تأخرت... نعم تأخرت... ولكنني اليوم وفي هذه الظروف التي نعيشها أراني أعود لأبدأ من جديد، أفكرُ بصوتٍ عالٍ، وأقول... ما أحوجنا في هذه الأيام إليك؟ يا من كنت رجل المرحلة في كل محطة من محطات هذا الوطن الذي كان بالنسبة لكَ الأبُ والأمُ، الحلمُ والحقيقة، الحاضر والمستقبل.

أستذكرك ياوالدي في هذه الظروف الصعبة التي تعيشها الأمة العربية والتي كانت وحدتها بالنسبة إليك... الحلم الذي يجب ان نعمل من أجل تحقيقه. لكن يا والدي ما نراه... يباعد كثيراً بين الحلم والحقيقة، خصوصاً في ظل الغموض الذي يلف بعض الأقطار العربية، والتفكك الذي ينذر بتفتت الأوطان وفي ظل استئساد العدو الاسرائيلي... ولكن هناك قبس من نور يضيء قليلاً هذا الليل المظلم وهو ثورة الشباب الذي يتوق إلى التغيير ويصبو إلى الانعتاق من تخلف بعض الانظمة والعبور إلى الدولة العادلة القادرة الحاضنة لكل ابنائها والمؤمنة بحق شعوبها بالحرية والديموقراطية وحقوق الانسان وإفساح المجال أمام الكفاءات الشابة لخدمة المجتمع بروح عصرية مبدعة بعيداً عن الخوف من الأجهزة القمعية التي ما زرعت إلا الفساد والتخلف والتعمية عن الحقائق.

رهانك يا والدي كان على الشباب أوليتهم قسطاً كبيراً من  اهتمامك وقد كنت تعمل جاهداً على خلق جيل واعٍ متعلم يكتسب الخبرات ويتولى مراكز قيادية في مؤسسات الدولة من خلال تشجيعك للعلم والمعاهد المتخصصة في ميادين عدة، وبعد تركك كرسي الحكم بهدوء وكرامة وعزة نفس كنت ترسل البعثات الشبابية ولا تفرق بين ذكر أو انثى على حسابك الخاص وسجلت ذلك في وصيتك.

استذكرك يا والدي اليوم وانا أرى قادةً تمارس أبشع انواع الإجرام بحق شعوبها، تدمر مؤسسات الدولة ومقدرات الشعوب وتستحضر كل انواع الأسلحة الدينية والمذهبية والفئوية وتشعل حروبا أهلية. كل ذلك من أجل المحافظة على السلطة غير آبهين بما سيؤول إليه مصير بلدانهم... وأقول ما أحوجَنا إلى عبدالله المبارك  ثانٍ - هذا الرجل الذي عاش كبيراً وتولى أرفع المناصب القيادية وكان قادراً ان يحتفظ بسلطاتها حتى آخر أيامه، لكن إيماناً منه بالحفاظ على الوطن بكل أطيافه متماسكاً منيعاً، تخلى عن كل شيء إلا وطنيته، وسلم الأمانة لغيره، كي يكمل المسيرة، ولم يتخلَ عن حبه للوطن ومواطنيه، بل كان حتى في غربته يحمل وطنه في قلبه وضميره أينما حل، ممارساً دوره في خدمة الوطن والكويتيين بما يمليه عليه الواجب. وقد حاول أكثر من حاكم ان يغير قناعاتك تجاه أهلك ووطنك ولكنك رفضت وقلت لهم انا لا أكون في يوم من الأيام خنجراً في ظهر أهلي ووطني فاحترموك. كنت كبيراً في كل شيء وما بين قسوتك وتسامحك، ميزانك العدل في الرعية أبداً كنت حازماً في قراراتك حيث يقتضي الحزم والشدة ورقيقاً عطوفاً على الجميع بلا تفرقة يوم تكون الحالة الاجتماعية أولوية تساعد وتعطي بلا منة، شملت بعدلك ورعايتك جميع أبناء هذا الواطن حتى المقيمين كانوا يرون فيك عوناً لهم وملاذاً، كنت عفيف اللسان فلم ترضَ ان يتكلم على أهلك ووطنك أحد في مجلسك وقد حاول كثير من الصحافيين استدراجك رغم انك كنت في الستينات تمسك زمام الصحف في بيروت ولكنك رفضت ان يذكر أهلك ووطنك بسوء أو ان تمس كرامة أحد. ثلاثون عاماً وانت خارج الحكم والكويت وأهلها في قلبك.

ديوانك كان صورة مصغرة عن مجتمع الكويت يضم كل فئات النسيج الوطني، ما كنت تفرق بين بدو وحضر أو بين عائلة وأخرى تحترم الجميع وتساعد الجميع، أردت من ديوانك ان يكون الجامع الموحد المنتج وكثيراً ما أُتخذت قرارات مهمة وتوحدت رؤى في مصلحة هذا البلد من ضمن التجمع الذي كنت تقيمه.

تلك كانت نظرتك لأي تجمُّع وملتقى وإلا فلا حاجه لهُ. تَجَمُع بعيد كل البعد عن التكتلات السياسية الصغيرة أو الفئوية الضيقة التي تزرع الشقاق والتنافر، ترفض الصراخ والصوت العالي لانك تؤمن بالإصلاح الهادئ والتبصر في كل الأمور كبيرها وصغيرها فعندما تكون مصلحة الوطن هي الأساس فلا صوت يعلو على صوت الحكماء الذين يعرفون أين تكمن هذه المصلحة.

وإيمانك مطلقاً بان من رسمت ملامحه شمس الصحراء ورمالها وحددت معالم شخصيته طبيعة البادية وأصالتها، وعانى من الظلم ما عاناه وناضل في سبيل حرية بلده واستقلاله، ودفع في سبيل وطنه الغالي والنفيس، لايمكن ان يكون في يوم من الأيام أسير مصالحه الشخصية وأطماعه السلطوية بل الحامي لهذا الوطن كل الوطن بكل فئاته ومقدراته.

والدي الحبيب. أشتاق إليك اليوم... كما في كل يوم... ولكن لانها الذكرى، أردت ان أعبر عما في داخلي. لقد ذقت مرارة يُتم الأب صغيراً ولكن ليس مثلك... فانت الذي لم يذق طعم الأبوة منذ عامه الأول، واجهت الحياة وحيداً بحلوها ومرها... مقداماً... كنت تخوض غمارها تواجه المصاعب والمطامع... وما أكثرها كانت من حولك، رغم ذلك أغدقت علينا بحنانك وعطفك وأعطيتنا مالم يعطه الكثيرون ممن عاشوا في كنف أهلهم. وانشأت عائلة متماسكة تسير على خطاك في كثير من الأمور، برعاية الوالدة التي ساعدتها ان تكون كما هي في مجالات التعليم والاجتماع، سيدة قوية تحملت المسؤولية الكبيرة بجدارة وأكملت المسيرة بما أتيح لها من مجالات وأَوْلَت اهتمامها ما كان يهمك في مجال التعليم وخلق جيل واعٍ سلاحه العلم والمعرفة. وأحاطت عائلتك برعايتها وحنانها وحكمتها حتى توصلها إلى الطريق الذي رسمته انت لنا ولأبنائنا بكل صدق وأمانة.

والدي الحبيب أعاهدك على إكمال المسيرة مهما واجهتنا الصعاب وان أكون كما أردتني. وان خالفتك في بعض النصح ولكن أعلم ان روحك ستسامحني.

خالفت رغبتك ودخلت الحياة العسكرية لانني مؤمن بها مدرسة للولاء والانضباط وعدت إلى رغبتك في تحصيل العلم إلى أعلى الدرجات ووصلت إلى حيث انا وأعلم انك ستغفر لي فقد أحببت النهج الذي تربيت عليه انت وأحببت فيك روح القائد وصورتك باللباس العسكري ودخلت مرحلة كنت أتمناها ولو تشبهاً ببعض مزاياك.

والدي الحبيب، أكتب إليك هذه الكلمات وأقول باسمي وأهلي وجميع محبيك اننا على خطاك سائرون، ولا خوف على وطن يؤمن به أبناؤه.

سيدى أقبل جبينك الموسوم بجرح غائر من أحد معاركك في الصحراء تدافع عن حدود الوطن وتذود عن سياجه... وطن هو وطن آخر في قلبك... رحمك الله أبي.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي